أخبرني صديق في غازي عنتاب، أنه حضر ورشة حواريّة حول كتيّب بعنوان ” دليل الصحافة الحسّاسة للنزاعات ” وهو من ضمن برنامج سوريا في معهد صحافة الحرب والسلام، قام بإعداده أبراهيم داود، وهو كما جاء في قصص الكتيّب مدرب بحثي في تلك المؤسسة. أثار العنوان فضولي للحصول على نسخته الإلكترونية، وقراءة المادة التي يتناولها في ثلاث وخمسين صفحة. الفكرة الرئيسية في الدليل أن الصحفي خلال الحروب يجب أن يركّز على الإنسان أولاً، وأن يتحلّى بالمهنية والموضوعية وأخلاقيات العمل، وأن ينحاز للحقيقة في تغطيته للأحداث، وفق معلومات ومصادر خبريّة غير منحازة لأحد أطراف الصراع. من وحي تلك الفكرة يتم تحديد دور الصحافة الحسّاسة، بالعمل على صنع السلام والتسويّات التي تضمن حقوق المواطنين، وابتعاد الصحفيين عن ضخ خطاب التعبئة والتحريض والكراهية.
بنى” الدليل” فكرته تلك على عرض أمثلة متعددة تضمنت قيام صحفيين وجهات إعلامية، بتغطية مجريات وأحداث ومآسي خلال الحروب، حاولوا من خلالها فبركة وتحريف وقائعها وحقائقها، واللعب على أوتار التجييش والتعبئة، تبعاً لانحياز كل منهم لأجندات إعلامية أو مشاريع سياسية أو عسكرية لهذا الطرف أو ذاك. اللافت أن “الدليل” فيما يؤكد على قضية الحقيقة، ويقرنها بالموضوعية ابتداءً، إلا أنه قدم رواية لمجريات الشأن السوري خلال سنوات الثورة، تفتقر إلى الحد الأدنى من الموضوعية التي يطالب بها، وتكشف عن انتقائية وسطحية في تناول تحولات الصراع السوري، وفق سياق محشو بالإسقاط والتفكيك والتحوير، دون احترام او مراعاة عقول المخاطبين به. يرى ” الدليل ” من منظوره ” أن المظاهرات التي بدأت في سورية انتهت إلى مواجهات عنيفة، وتحولت البلاد إلى معسكرين لكل معسكر روايته الخاصة للأحداث، بالنسبة لمن هم في الداخل هي معركة إعلامية يخوضها الطرفان المتواجهان. بالنسبة لمن هم في الخارج يختلط الأمر بين تعاطف أو تأييد أو مشاريع وأجندات مختلفة.. “.
من هذه المقاربة التي يقدمها ” الدليل ” يحيل غياب الحقيقة والموضوعية في تناول الشأن السوري إلى “تجاهل العوامل السياسية والجغرافية المتعلقة بالحالة السورية، وعدم التركيز على ارتباط الوضع المحلي السوري بأبعاده الإقليمية والدولية، وهذا الخلل وفق “رواية الدليل” من الأسباب التي أدت إلى الانتقال ” من خطاب الدولة المدنية العادلة لكل السوريين، إلى الحديث عن حكم الأكثرية الدينية، فالحركات الأصولية والتكفيرية التي هدرت دم كل مختلف”. هذا الشرح القاصر عن فهم تعقيدات الصراع السوري، والذي يقفز عن سياق حاشد بالوقائع والتحولات الذاتية والموضوعية المتداخلة. يستحضر العوامل الإقليمية والدولية للتعتيم على العوالم المحلية التي أدت إلى اندلاع الثورة السورية. إذ يدعونا الدليل إلى الإحاطة “بالصراع العربي- الإسرائيلي، والشأن العراقي، والوضع في لبنان بعد اغتيال الحريري، وما نشأ عنه من أزمة بين سوريا ودول الخليج، والعلاقة مع تركيا، ومقتضيات الموقف الروسي الاستراتيجي، والدور الإيراني في دمشق لتسهيل تواصله مع حزب الله في لبنان”.
علماً أن الإحاطة بكل تلك العوامل كما يطالب ” الدليل ” هي أكثر ما يمكن الاستناد إليه لفهم دور القوى الخارجية في دعم النظام لاسيما روسيا وإيران، ومسؤولية النظام بوصفه المُسبّب الأول، والعامل المحلي الأبرز في قمع الحراك السلمي بصورة وحشية، ودوره في دفع السوريين إلى خيارات التسليح دفاعاً عن أنفسهم، مما شكّل بيئة خصبة للأجندات المتطرفة، والتي اتضح خلال محطات التجربة السورية، أن تلك القوى هي من خدمت النظام وحلفاءه، وأن خطاب الأكثرية الدينية كان خطابها، وليس خطاب غالبية السوريين المُغفل عنهم في ذهنية أصحاب الدليل. في ضوء ذلك وبدلاً من أن يكون الهدف من هذا الكتيّب، إنقاذ الحقيقة بوصفها ضحية الحروب، نجد أنفسنا أمام إحاطة مبتورة وسقطات بحثية، تنضم إلى الروايات المجروحة التي طمست الحقيقة السورية بكل خفّة واستهتار. ما يلقي مزيداً من الشكوك حول مصداقية الأطروحة السلاميّة، التي يبشرنا بها ” الدليل “، طالما أنها تقفز عن شروط ومقومات بناء سلام حقيقي في سورية، أساسه وعماده الدفاع عن الحقيقة والعدالة.
من غير المقبول أخلاقياً بحق الضحايا السوريين أولاً، أن يمارس علينا أدعياء الصحافة الحسّاسة، ضروب التضليل والخداع تحت غطاء المساواة بالخسارة وتشابه الضحايا، وأن يمرروا في ” دليلهم ” وقائع القضية السورية بهذا القدر المحزن من امتهان الحقيقة، وقد بلغ بهم التعسف المنهجي، أن يصفوا مآسي النزوح والهجرة، على أنها عملية إخلاء للمناطق من سكانها كنتيجة للحرب، دون تحديد هوية الطرف الذي يتحمل المسؤولية الكبرى عنها وهو النظام السوري وداعميه. جرياً على المنطق الأعوج الذي يحكم دليلهم القاصر، تغدو المشكلة من وجهة نظرهم في مآسي التهجير والتغيير الديمغرافي، بالتغطية الإعلامية لها وفق غايات سياسية وطائفية، وليس للحقائق الحاشدة التي تثبت ارتكاب النظام والميليشيات الإيرانية لهذه الجرائم الدامغة. حتى في تناول المناطق المحاصرة أوصى ” الدليل ” متدرباته ومتدربيه التركيز على معاناة تلك المناطق لا على جوانب اجتياحها، وكأن الفصل بين من يقصف ويقنص ومن يُجوّع حتى الموت، هو المدخل للتثقيف على حسّاسية التلفيق والإنكار.
هكذا بكل بساطة يتحول مصطلح ” الحساسية ” إلى وسيلة للتجني على منهجية الربط بين المقدمات والنتائج، وتوليف معادلة ” لا غالب ولا مغلوب ” تقوم على إهدار حق الضحايا بالدفاع عن روايتهم الحقيقية. أسوأ من ذلك، يضعنا الدليل المستفيض بالصحافة البلاغية عن الأنسنة، أمام عدد من الأمثلة التي يأتي على ذكرها، محاولاً من خلالها إثبات كم التدليس والتلاعب في نقل الأحداث والأخبار للمتلقي، ولا نجد فيها مثالاً واحداً على أكبر مدرسة في التضليل الصحفي والإعلامي، التي برع أبواق النظام السوري في إنتاج سيناريوهاتها الفاضحة. فكل الأمثلة تدور وتتمحور على إخباريات سورية وعربية وعالمية تشير إلى أطراف أخرى، هي وحدها في ذهنية ” الدليل ” من مارس النفاق والكذب ونقل بشاعات الحروب.
في مقدمة ” الدليل ” وردت عبارة تقول: ” على المراسلين في مناطق النزاع أن يعرفوا أنه لا توجد قضية تستحق الموت من أجلها ” وهي دعوة ينفيها بكل إخلاص، مئات إعلاميين وصحفيين سوريين اختاروا البحث والدفاع عن الحقيقة، رغم أن بعضهم دفع حياته ثمناً لها على يد جلاوزة القتل والإجرام. أولئك فرسان الحقيقة، ليسوا كمن يستعيرون حساسية استعراضية، لصحافة تحتفي بإنجازها، في جلسة عشاء فاخرة يناقشون فيها دليلهم الممول فيما ضحايا تغييب الحقيقة يعانون في مخيمات اللجوء والحرمان..