سميرة المسالمة
استطاع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن يجعل من “تويتر” سلاحاً يضيفه إلى قائمة المنتجات الأميركية في مجال تصنيع الأسلحة، وهو ما يمكن وصفه بأنه سهل الاستخدام وسريع الفعالية وأكثر دقة في إصابة الهدف الحيوي، كما أعطى صفة المرونة التي تصل إلى أعلى درجاتها (انقلابها على نفسها) لسياسات الولايات المتحدة، في تعاطيها مع صراعاتها وتوافقاتها الدولية، لتضعنا، بين ساعة وأخرى، بين حرب تقرع طبولها، إلى تحالفاتٍ تكاد تصل بتوافقاتها إلى مستوى المصالح العليا المشتركة بالقدر نفسه، والتوجه مع الخصم السابق إلى الحليف اللاحق.
وبعيداَ عن فكرة تلقائية تلك “التغريدات” المرعبة وتهورها، فإن المتتبع لمآلات ما ينتجه محتواها من تفاهماتٍ لاحقة، وقدرته في التراجع عن المحتوى الانفعالي “المدرك”، وتغيير اتجاهاته بما يضمن الاستثمار الكبير له، في عداواته المفتعلة وصداقاته غير الآمنة، فإن التعويل على وصول قطار التسويات بين الجانبين، التركي والأميركي، بشأن شمال سورية، إلى بر الأمان، يبقى في إطار التمنيات، في ظل وقائع السرد التاريخي لعامين من حكم ترامب، وتذبذب تصريحاته وتناقضاتها وأهدافها.
كما أن الحديث عن خلافاتٍ في التفسير الكامن وراء الرغبة الأميركية بإقامة منطقةٍ آمنةٍ في الشمال، والتي سارعت تركيا في تبنيها على أنها مقترحٌ تركي أساساً، تدخل ضمن منظومة التعاطي الدولي مع الصراع في سورية، منذ بداية التدخل الدولي في 2011، وحتى ما بعد التعاطي الأميركي مع اتصال ترامب لإنهاء مفاعيل تغريدته الصادمة لحليفته تركيا “سندمر تركيا اقتصادياً إذا هاجمت الأكراد، وسنقيم منطقة آمنة بعرض 20 ميلاً”، فقد تعمّدت الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، منذ اندلاع الثورة السورية، مد أطراف الصراع المحلي بوقود الاشتعال على الجانبين، النظام والمعارضة، فحيث اصطفّت إيران مع مليشياتها، وكذلك روسيا، مع النظام لتشجيعه في الاستمرار بسيناريو العنف المتصاعد ضد معارضيه، فعل ما سمي أصدقاء سورية الأمر ذاته، عبر تصريحات متتالية بدأت من الجانب الأميركي، عندما صرّح بأن الأسد فقد شرعيته، إلى عقد المؤتمرات، والتسليح وغرف الموم والموك وما بينهما.
لقد أفسحت الاصطفافات الدولية أمام الصراع المحلي السوري أن يتطوّر إلى صراع دولي، توزّع شرره في العالم، وهو إذ يرخي بظلاله على الدول الإقليمية، ومنها تركيا، ويفتح لها باب التجاذبات، أو الخلافات البينية، فإنه، في الوقت عينه، يستخدمها أدواتٍ في حرب التغيير الشاملة لإعدادات المنطقة برمتها، بما يضمن خلط الأوراق، وتغيير الأولويات، ووضع المنطقة كاملةً في خدمة المشروع الإسرائيلي التصالحي، أو ما تسمى “صفقة القرن” على حساب القضية الفلسطينية، بعد أن أصبحت الصراعات في المنطقة بعيدةً عن الصراع العربي الإسرائيلي، ليحل مكانها الصراع الإيراني العربي، والذي أتاحته أميركا لإيران من خلال تمكينها من احتلال العراق، فكرياً واقتصادياً وسياسياً، وعبر مليشياتها المسلحة تحت الغطاء الطائفي، ولاحقاً الصراع على أمجاد الإمبراطوريات المنهارة.
ويمكن اعتبار ضبابية فكرة المنطقة الآمنة التي طرحها ترامب، وتلقفها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وتفسيراتها العديدة من كل الأطراف، إذ اعتبرتها تركيا مشروعا يرضي طموحاتها، ويعزّز من وجودها الشرعي في سورية، ويقع ضمن اتفاقاتها السابقة مع النظام السوري (أضنة 1998)، في حين استشعر فيها الكرد (قوات سوريا الديمقراطية) العدو المستهدف من تركيا، أنها ورقة حماية لهم، وتسمح لهم بتوسيع هوامش المفاوضات مع النظام السوري، بما يضمن حكماً ذاتياً لهم في شرق الفرات، إلا أن النظام السوري اعتبرها احتلالاً تركياً مدعوماً أميركياً، ومتغاضياً بذلك عن حقيقة موقف الداعم الرئيسي له (روسيا) التي لا تمانع بتنفيذها إلى جانب الأتراك، وفق شروطٍ تقييدية، كتغيير اسمها إلى منطقةٍ عازلة، أو إشراك قوات النظام، بحماية حدودها ومؤسساته، بتقديم الخدمات لها، أي بمعنى أنها شروط لفتح باب التفاوض، وهي غير مانعةٍ لإقامتها، وبعيدةٌ، في الوقت نفسه، عن كل ما تدّعيه في حرصها على ضمان السيادة السورية على أراضيها ووحدتها، أي أن تضارب التفسيرات التي سادت في كل ما يخص الصراع في سورية من تصريحات لمسؤولين من وزراء ورؤساء، وبيان جنيف 1 وملحقاته، وقرارات أممية وبيانات على مستوى رئاسة المنظمة الدولية (عددها 17)، لا تزال تحكم منطق إدارة الصراع في سورية، فحيث بدا التوافق الدولي على بيان جنيف1 (2012) يقترب من انتزاع حل سياسي للصراع السوري- السوري، استطاعت كل الدول المنخرطة فيه أن تجعل من تفسيراتها المخالفة لشركائها في التوقيع عليه سبباً في ديمومة الصراع وتطور أشكاله، من سياسي إلى مسلح بين النظام ومجموعاتٍ من جيشه منشقة عنه للدفاع عن المتظاهرين، إلى تجنيد أطراف محلية واستدعاءات أيديولوجية متطرّفة أو “معتدلة” لإنشاء ما سميت الفصائل الإسلامية التي تدار وفق أجندات مشغليها، إلى صراعٍ دولي مباشر، حتى استبعدت منه الجهات المحلية، لتحل مكانها الأدواتُ المرتهنةُ لمصلحة الأجندات المتحاربة على حيز النفوذ داخل الأراضي السورية، والعابرة إلى ما بعدها، جغرافياً واقتصادياً وحتى تاريخياً.
ومن هنا، فإن الرهان على دخول منطقة شمال سورية في مرحلة حل النزاع في سورية وعليها، بعد المصالحة غير المضمونة بين الرئيسين الأميركي والتركي، يبدو خاسراً، في ظل استمرار “التغريدات”، والمتغيرات التي تحدثها الأطراف المتضرّرة من التقارب أخيرا، والذي يعني إطباق الخناق على إيران من جهة، واستمرار استخدام ورقة الكرد باتجاهين مختلفين: تارّة لمعاقبتهم، حيث تغرّد بعض قياداتهم خارج الهوى الأميركي، وتارة أخرى لطمأنتهم، وفتح أبوابٍ جديدة لهم للدخول طرفا لازما ومفروضا على المفاوضات السورية – السورية، والعبور فوق جسر الموانع الذي وضعته تركيا في وجه مشاركتهم في ما سميت اللجنة الدستورية. ومع كل ما سبق، فإن ترامب قادر على العودة دائماً إلى نقطة الصفر التي تفتح باب المساومات، وطرح المزايدات العلنية والسرية بين الأطراف الصديقة، وكذلك التي تقع في خانة أعدائه أيضاً.
المصدر: العربي الجديد