مروان المعشّر
عندما كنتُ سفيراً للأردن في الولايات المتحدة قبل عشرين عاماً، ألقيت محاضرة في كنيسة مشيخية في واشنطن. وفور إنهاء مداخلتي، رفع رجلٌ يده قائلاً: “سعادة السفير، فهمتُ أنكم من الديانة المسيحية. هلا تخبروننا متى اهتديتم وماكان تأثير ذلك على حياتكم؟” فأجبته: “مع فائق احترامي سيدي، أنا أريد أن أطرح عليك ذلك السؤال. أنا سليل المسيحيين الأصليين. أنت متى اهتديت؟”
لايدرك كثرٌ في الغرب أن المسيحية أبصرت النور في مايُعرَف اليوم بالعالم العربي، وأنها لم تُستورَد خلال الحملات الصليبية ولاهي نتيجة “الاهتداءات”. عشية مَقدِم الإسلام في القرن السابع، كان الجزء الأكبر من المنطقة المعروفة اليوم بالشرق الأوسط، مسيحياً، بما في ذلك المشرق وشمال أفريقيا. وفقاً لدراسات عدّة، كان عدد سكّان المشرق – الذي يضم اليوم سورية والأردن وفلسطين ولبنان والعراق فضلاً عن إسرائيل – 13 مليون نسمة قبل الفتوحات العربية. كانت الأكثرية الكبرى تتألف من المسيحيين، ماخلا نحو 13000 يهودي وعدد أصغر من الوثنيين. في ذلك الوقت، كان عدد سكّان شبه الجزيرة العربية، حيث نشأ الإسلام، زهاء مليون نسمة فقط، وقد غادر عددٌ قليل جداً منهم مع الجيوش العربية لفتح المشرق وشمال أفريقيا باسم الإسلام.
لم يفرض المسلمون العرب على شعوب الأراضي التي غزوها، اعتناق الإسلام. فقد التزموا بالآية القرآنية: “لا إكراه في الدين”، واكتفوا فقط بفرض ضريبة خاصة على الأقليات. وتُظهر الدراسات العددية التي أُجريَت حول سكان المنطقة أنه بعد مئة عام من ظهور الإسلام، كان المسلمون يُشكّلون 6 في المئة فقط من أبناء المشرق، فيما حافظ الباقون على انتمائهم للدين المسيحي. وبحلول نهاية القرن الثالث بعد الإسلام، كان المسيحيون لازالوا يُمثّلون نحو 60 في المئة من السكان. وعند انطلاق الحملة الصليبية الأولى، بعد خمسة قرون من مَقدِم الإسلام، كان المسيحيون والمسلمون العرب قد أصبحوا متساوين تقريباً في الأعداد.
وفي ذلك دليلٌ على حقيقتَين اثنتين. الحقيقة الأولى أن المسيحيين كانوا يُشكّلون الغالبية الكبرى من سكّان المنطقة قبل وقت طويل من استحواذ الإسلام على هذه الغالبية. والثانية أن معظم المسلمين العرب اليوم كانوا في الأصل مسيحيين، ويسري في عروق أبناء الديانتَين الدم نفسه، ويجمعهما الحمض النووي نفسه، والالتزام نفسه تجاه الأرض التي ينتمون إليها.
واقع الحال هو أن الصليبيين الأوروبيين كانوا ينظرون، لدى غزوهم الأراضي المقدّسة، إلى المسيحيين العرب بأنهم “هراطقة”، مع أنهم كانوا سليلي المسيحيين الأوائل. وهم قتلوا عدداً كبيراً منهم، فضلاً عن قتلهم المسلمين، ولاسيما عندما احتلوا القدس العام 1099. وقد وقف عدد كبير من المسيحيين العرب، إنما ليس جميعهم، إلى جانب أبناء وطنهم خلال الحملات الصليبية، لا إلى جانب أبناء الدين الواحد.
اليوم، يختلف الوضع اختلافاً هائلاً. فالمسيحيون العرب، الذين كانوا أول من اعتنق الديانة المسيحية، تتناقص أعدادهم إلى درجة مقلقة في الجزء الأكبر من العالم العربي. في العراق الذي طالته، ولاسيما في السنوات الأخيرة، موجة هجرةٍ قسرية بسبب النزاع الدائر في البلاد بعد العام 2003، وممارسات تنظيم الدولة الإسلامية في مرحلة لاحقة، سجّلت أعداد المسيحيين تراجعاً دراماتيكياً مع انخفاضها إلى نحو 300000 بحسب التقديرات، أي أقل من واحد في المئة من السكان، هذا في حين أن نسبتهم كانت نحو 10 في المئة في خمسينيات القرن العشرين.
وفي الأردن، لم تعد أعداد المسيحيين العرب تتجاوز 170000 نسمة، أي حوالي 3 في المئة من السكان. وفي سورية، كان المسيحيون يشكّلون نحو 10 في المئة من السكان قبل الحرب الأخيرة، غير أن ذلك الرقم انخفض إلى حد كبير. فقط في لبنان، حيث تبلغ نسبة المسيحيين نحو 30 في المئة من السكان، وفي مصر، حيث يستحوذون على نسبة 8 في المئة تقريباً، يحافظ المسيحيون على حضور واسع، ولو كان في طور التراجع. أما في شمال أفريقيا، فلم يعد للمسيحيين أي وجود تقريباً منذ قرون.
الأهم من ذلك أن أوضاع المسيحيين العرب في الأراضي المقدسة شديدة التردّي، إذ لايتعدّى عدد المسيحيين الذين لازالوا يقطنون في الأراضي الفلسطينية المحتلة نحو 150000 نسمة، منهم أقل من 4000 مسيحي في القدس. وفي غضون جيلٍ من الآن، قد تتحوّل الأماكن المقدّسة المسيحية في القدس وبيت لحم وغيرهما من المناطق في الأراضي المقدّسة، إلى بقايا أثرية تُعرَض في المتاحف. وبالخطورة نفسها، نشهد على اختفاء التنوّع الديني الذي لطالما تميّز به الشرق الأوسط، والذي ساهم في توليد الغنى الثقافي وأتاح لأديان ومذاهب مختلفة التعايش بسلامٍ لقرون. وهذا لايُبشّر بالخير للمكوّنات المختلفة التي تتألف منها المجتمعات العربية.
على ضوء التحوّلات الكبرى التي يعيشها العالم العربي اليوم، يُعتبر احترام التنوّع أمراً أساسياً لتطوير مجتمعات تنعم بالاستقرار والتعددية. فالتنوّع الديني عنصر أساسي لبناء ذلك الاحترام والحفاظ عليه. ومن شأن غيابه أن يتسبب بتداعيات وخيمة ليس على المسيحيين العرب وحسب، إنما أيضاً على الثقافة العربية عموماً.
تنشغل الولايات المتحدة، بصورة أساسية، بالحفاظ على أمن إسرائيل في الشرق الأوسط، ويغفل عنها أن تراجع أعداد المسيحيين العرب الأصليين، الذي يتأتّى في الزمن المعاصر عن التشدّد والاحتلال الإسرائيلي، لن يصب في مصلحة العمل على بسط الاستقرار أو تحقيق الازدهار في هذه المنطقة من العالم. لم يعد ممكناً تجاهل محنة المسيحيين العرب.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط