حسين عبد العزيز
ليس مهماً ما إذا كانت المنطقة التي يتحدّث عنها الأميركيون والأتراك في شمالي سورية آمنة أم عازلة، فعلى أرض الواقع، ثمّة تشابك كبيرٌ بين المفهومين، ويصعب التمييز بينهما، بخلاف التأطير النظري/ القانوني الذي يعتبر الأولى ذات بعد إنساني، والثانية ذات بعد عسكري، فالمناطق الآمنة في البوسنة والهرسك عام 1993 لم تمنع القوات الصربية من ارتكاب مجزرة سربرنيتشا، والمنطقة الآمنة التي أقيمت في رواند عام 1995 لم تمنع قبيلة الهوتو من قتل نحو مليون شخص من قبيلة التوتسي.
بالنسبة لتركيا، تعني المنطقة الآمنة، أو العازلة، إبعاد الوحدات الكردية عن الحدود التركية أولاً، وتقطيع أوصال مشروع الإدارة الذاتية ثانياً، وإضعاف القوة العسكرية للوحدات الكردية ثالثاً، في حين تعني هذه المنطقة للأميركيين حماية المصالح التركية في سورية، من دون إضعاف القوة العسكرية للأكراد، وإبعادهم عن إدارة المناطق ذات الغالبية الكردية.
وسينعكس هذا التباين، بطبيعة الحال، على ماهية المنطقة المراد تشكيلها، إن كان على مستوى المساحة الجغرافية، أو على مستوى الهيمنة العسكرية والإدارية، أو حتى على مستوى الحماية الجوية، إذ لا يمكن تصوّر إنشاء منطقة آمنة أو عازلة من دون حظر للطيران.
وكان المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري، أول من لمّح إلى إمكانية تطبيق حظر للطيران في الشمال السوري، في أعقاب اجتماع “المجموعة المصغّرة بشأن سورية” في الرابع من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عندما قال: “تذكّروا كيف كنا موجودين ليس في شمال العراق، بل فوقه خلال 13 عاما ضمن إطار عملية المراقبة الشمالية”.
وتتطلب هذه التفاصيل، بحكم الواقع، التوافق بين واشنطن وأنقرة على تحديد طبيعة “المنطقة الآمنة”، وتتطلب أيضا توسيع مروحة التفاهمات، لتشمل روسيا، اللاعب الفاعل في الساحة السورية، فكل من واشنطن وأنقرة بحاجةٍ إلى ضوء أخضر روسي.
ومن مفارقات السياسة أن موسكو تبدو غير معترضةٍ على فكرة “المنطقة الآمنة”، على الرغم من تصريحاتٍ توحي بعكس ذلك.
بالنسبة لروسيا، فإن ملء قوى تحظى بدعم تركي الفراغ في شرق الفرات يعتبر حلا معقولا، إذا استحال تطبيق النموذج الأمثل بالنسبة لها، وهو سيطرة النظام السوري على كامل المنطقة، فسيطرة قوى ترضى عنها تركيا تعني إضعاف القوة الكردية التي ستجد نفسها مضطرةً إلى الارتماء في أحضان النظام، وتقديم التنازلات المطلوبة، كما أن موسكو تفضل التعامل مع تركيا في الشمال السوري، ليس لأنها الناظم لموازين قوى المعارضة فحسب، بل أيضا لأنه ليس لتركيا أطماع جغرافية في سورية، وربما تصريح الوزير الروسي، سيرغي لافروف، يحمل بعض الإشارات، حين أكّد “وجوب تقييم إنشاء المنطقة الآمنة في إطار وحدة الأراضي السورية”.
وضمن هذه المعطيات تبرز عدة سيناريوهات، لتطبيق المنطقة الآمنة أو العازلة:
أولاً، خضوع المنطقة المراد تشكيلها لهيمنة تركيا عبر فصائل المعارضة الموجودة في منطقتي عفرين ودرع الفرات، وهو احتمالٌ بعيد التحقق، بسبب الرفض الأميركي ـ الروسي المشترك. وبالنسبة لواشنطن، فإن هيمنة تركيا على “المنطقة الآمنة” تعني القضاء نهائيا على الحضور الكردي، ليس على المستوى العسكري فحسب، بل أيضا على المستوى الإداري، وبالتالي القضاء على التجربة الديمقراطية الناشئة في المناطق الكردية. ومن شأن ذلك أن يدفع الأكراد للارتماء في أحضان النظام، ما يعني القضاء على كل الترتيبات التي قامت بها الولايات المتحدة خلال الأعوام الأربعة الماضية. وبالنسبة لموسكو، فإن مناطق شرق الفرات لا يجب أن تتبع للنفوذ التركي، كما هو حاصل في الشمال الغربي من سورية. وبالتالي تقبل موسكو وجود قواتٍ محايدة تحظى برضى تركي ورضى النظام إلى حد ما. ومن هنا، تبدو موسكو وواشنطن متفقتين على أن لا تكون “المنطقة الآمنة” متوغلةً في عمق الأراضي السورية، وتعتبر اتفاقية آضنة الموقعة بين تركيا وسورية عام 1998 مرجعا قانونيا في تحديد عمق المنطقة.
ثانياً، وصول النظام السوري إلى الحدود مع تركيا، وهو أمرٌ يلقى رفضا قاطعا من واشنطن وأنقرة: بالنسبة لواشنطن يعني حصول ذلك القضاء على المصالح الأميركية البعيدة في سورية، ووضع الأكراد بين فكي كماشة النظام، إذ يصبحون محاصرين من قوات النظام وحلفائه من الشمال والجنوب. وبالنسبة لأنقرة، فهي وإن كانت لا تعارض بسط النظام سيطرته على شرق الفرات في نهاية المطاف، إلا أن الظروف الحالية لا تسمح بذلك، لأن النظام سيتحالف مع الأكراد في محاربة تركيا.
ثالثاً، حل وسط يرضي جميع الأطراف، وهو ما قصده ترامب، حين تحدث عن ضرورة إدارة المنطقة من قوى محلية. صحيحٌ أنه لم يحدد ماهية القوى المحلية، ولكن يبدو أن الأمور تسير على نحوٍ لا يكون في “المنطقة الآمنة” أي حضور عسكري يتبع تركيا بشكل مباشر (فصائل المعارضة)، ولا يكون ثمّة حضور عسكري لـ “وحدات حماية الشعب” الكردي. ويكون البديل إدخال قوات محايدة، مثل “قوات النخبة” العربية التابعة لأحمد الجربا، وقوات “بشمركة روج أوفا” الكردية التابعة للمجلس الوطني الكردي، مع مشاركة القوات العربية التابعة لـ “قوات سورية الديمقراطية”، ولا يكون لهذه القوات صلاحية إدارة المنطقة، فدورها يقتصر على الحماية فقط، في حين تترك الإدارة لمجالس مدنية، بحسب المكون الإثني الغالب. وباستثناء “الاتحاد الديمقراطي” الكردي، تبدو جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية موافقة على هذا الطرح لأنه يعجل بمغادرة الولايات المتحدة الأرض السورية، من دون أن يؤدّي إلى حدوث الفوضى.
المصدر: العربي الجديد