محمد مشارقة
لعقود من الزمان، كانت العولمة النيوليبرالية واحدة من أهم استهدافات اليسار. فالأدبيات اليسارية انشغلت على الدوام بالتنديد الدائم بوظيفة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية على أنهم من المؤيدين المتحمسين لـ “إجماع واشنطن”، الذي ينافس التجارة الحرة والتحرير المالي والتخفيضات الضريبية والخصخصة في جميع أنحاء العالم. تاريخيا، ينظر العديد من الاشتراكيين إلى الاتحاد الأوروبي على أنه حليف لمثل هذه المؤسسات. على سبيل المثال، ينظر إلى مشروع الاتحاد الأوروبي كجزء من “التكامل المستمر للرأسمالية الأوروبية والأمريكية”. في استفتاء عام 1975 على عضوية المملكة المتحدة في الجماعة الاقتصادية الأوروبية، عارض جيريمي كوربين ومعلمه توني بن الجماعة الاقتصادية الأوروبية كعقبة أمام التحول الاشتراكي في بريطانيا. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، أصبح العديد من التقدميين ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي كقوة ايجابية في الشؤون الدولية. اليوم يعيد الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سؤالاً مسكوت عنه منذ فترة طويلة: من هو الاتحاد الأوروبي؟ واين وصل ما أصبح يعرف بالسوق الأوروبية الموحدة، والحركة الحرة للسلع والخدمات والعمل ورؤوس الأموال. مع الأزمة المالية عام 2008، انكشف ما يسمى بالإنجاز العظيم – عصر النمو الاقتصادي المتناسق والتضخم المنخفض وظهر بانه ليس أكثر من مجرد فقاعة مضاربة، وأعادت فتح أرضية النقاش الأيديولوجي. مع سياسات التقشف والركود في الأجور ونهاية تضخم أسعار الأصول، أصبح التحول الاشتراكي مرة أخرى احتمالًا مطروحا. لكن النموذج الديمقراطي الاجتماعي في أوروبا يتعرض اليوم للتهديد، لأن أحزاب يسارية متقلبة فشلت في التكيف مع حقائق حقبة الانهيار والركود وتلعثمت في انتاج البناء الفكري والسياسي الخاص بالثورة الرقمية الجديدة، مما فتح الطريق أمام صعود اليمين الشعبوي المتطرف. واليوم، تعيش كل أطراف اليسار في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا ازمة حقيقية فالبعض، كف عن الدعوة إلى الديمقراطية الاجتماعية بل إلى الاشتراكية الديمقراطية. بالنسبة للكثيرين، تعني الأولى فرض الضرائب وتنظيم المشاريع الخاصة، بينما تعني الأخيرة ” الملكية الديمقراطية لمعظم الشركات الكبرى والمؤسسات المالية (برنامج كوربين وبيان ساندرز في أمريكا الاول من ديسمبر ٢٠١٨). بعبارة أخرى، يطالب الأول بتسوية بين رأس المال والعمال، في حين أن الأخير يقوم على المواجهة. لا شك في أن ازمة المؤسسات الاوروبية الموحدة، والحلول المرتبكة التي يطرحها اليسار الاشتراكي الديمقراطي مرده الى سقوط فكرة التسوية التاريخية وتقدم فكرة المواجهة. هناك العديد من الأسئلة المشروعة حول موقف اليسار البريطاني المرتبك من مسالة الخروج من الاتحاد الأوروبي ، كيف يحافظ حزب العمال على الدعم الشعبي الكبير من الاجيال الشابة ( ثلاثمئة الف عضو جديد في العامين الماضين ) اذا ما طرح تأييده للانسحاب من المؤسسات الرأسمالية الاوروبية دون أن يخدم هذا التوجه اليمين القومي المتطرف المنادي بالانسحاب الفوري من الاتحاد الاوروبي .وفي عقيدة كوربين وتياره اليساري التاريخي في الحزب وعلى اطرافه ، انه لا يمكن بناء الاشتراكية الديمقراطية في بريطانيا بدون مواجهة مع رأس المال وممثليه في مؤسسات مثل الاتحاد الأوروبي. ومع اقتناعهم بانه يصعب بناء الاشتراكية في بلد واحد، تطرح بعض الاصوات المؤثرة في الحزب والنخب اليسارية، ان الصراع يجب ان يكون من اجل بناء نظام دولي بديل، وان بقاء او انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي ليست هي المسألة.