مرهف فارس
شاهدتُ فيلم نادين لبكي، كفرناحوم، في صالة السينما منذ أيام، ومثل كثيرٍ من الحضور، خرجتُ بمشاعر من الغضب والحزن، ولكن لأسباب ربما تختلف عن تلك التي أثّرت في الجمهور النرويجي. بداية، وقبل الخوض في تلك الأسباب، يجب التنويه إلى أن كل ما سيأتي ليس إلا مراجعة نقدية مبنية على فهم شخصي للفيلم، قد يصيب وقد يُخطئ، وفي الحالتين لا يغيّر ذلك شيئاً من حقيقة أن أداء زين وراحيل والطفل(ة) يوناس وغيرهم، كان على مستوى مهنيّ مذهل. وليس المقصود أيضاً التقليل من، أو التشكيك في، براعة نادين لبكي وقدرتها على صناعة فيلم بمستوىً فني عالٍ مع مجموعة من الأشخاص لم يمثلوا سابقاً. وليس الهدف أيضاً الاصطفاف وراء الجموع التي هاجمت الفيلم، ولبكي شخصياً، ﻷنها لا تنتمي إلى مجتمع المهمشين. التالي ما هو إلا انطباعات في محاولة للبحث عن الإطار الأوسع للفيلم، وقراءات في تفاصيل يصعب فهمها أحياناً.
يحفل الفيلم بمشاهد انتهاك الطفولة والحياة القاسية جداً، مشاهد مؤثرة بلا شك، لكنها لم تكن دائماً كافية لفهم بعض الشخصيات المحورية في الفيلم. لا نعرف شيئاً عن أهل زين غير أنهم فقراء يعيشون على هامش المجتمع، يتعاملون مع أطفالهم بوحشيّة فاحشة. ولكن كيف وصل بهم الحال إلى هذا المستوى من العنف والبؤس؟ كيف أصبح أبو زين وأمه وحوشاً دون إحساس، ودون أوراق؟ هل كان أجداد زين على هذا الحال أيضاً؟ تكاد تنحصر أدوار أهل زين في ممارسة العنف، أو في كونهم محط اتهام ابنهم زين ﻷنهم أنجبوه، وهذا ما يدفعنا أولاً للبحث عن السياقات السياسية والاجتماعية التي تبدو غائبة عن الفيلم في الوهلة الأولى.
يحطُّ بنا الفيلم في مدينة الفوضى والخراب، الجحيم، وعلينا التعامل معها كذلك. وكان هذا مقبولاً، إلى أن ظهرت عوالم أخرى في الفيلم، عندها نجد أنفسنا أمام فصل مصطنع وصارخ بين عوالم الهامش والتحضّر، إن صحّت تسمية الأخيرة بذلك. لا نشاهد عنفاً في مجتمع المتحضرين، ولا نشاهد فرحاً في مجتمع المُهمّشين. تجري أحداث الفيلم منذ البداية في مجتمعين متوازيين لا يتقاطعان، إلا عندما يحاول المجتمع «المتحضّر» إنقاذ المجتمع المُهمّش في المحكمة (الساذجة) وأجهزة الأمن (اللطيفة) والتلفزيون (التنويري).
تتألق سذاجة المحكمة في دور القاضي والمحامين، الذين لا يستخدمون القانون كأداة للنقاش والمحاججة، فمثلاً لا نجد في سؤال القاضي لأم زين عن تزويج ابنتها الصغيرة لأسعد مفردات حقوقية أو إشارات إلى القانون المحلي، ولولا لباسُهُ لكان من الصعب الحسم بأنه قاضٍ. خارج الفيلم، أي في الواقع، نعرف أن قانون الأحوال الشخصية اللبناني كان يسمح للمغتصب بالإفلات من العقاب إذا تزوج ضحيته، حتى أواخر السنة الماضية حين تم تعديل القانون (لكن ليس دون ثغرات). وإلى يومنا هذا لا يوجد سنٌّأدنى للزواج في قانون الأحوال اللبناني (كما هو الحال في بلاد عربية كثيرة). هذا واقعٌ غائبٌ في فيلم يطمح للواقعية، وهنا يحتار المشاهد في فهم الدافع وراء غياب مسؤولية القانون مع أنه شريك في الجريمة، فسَحَر هي ضحية أسعد وأهلها والمجتمع والقانون، وليس أهلها فقط على ما يظهر في الفيلم.
تحلُّ علينا أجهزة الأمن اللطيفة من العالم المتخيّل نفسه، الذي يحتكر فيه الفقراء وسُكّان العشوائيات ممارسة العنف. لا نرى في الفيلم شرطياً يضرب أو يهين شخصاً أو طفلاً بلا سبب. تمارس أجهزة الأمن كمية محسوبة من العنف في مشهد المواجهة بين الشر المطلق والخير المطلق، أي عندما تلقي القبض على آسبرو وعصابته. عنف مناسب، وربما يراه البعض مُبرَّراً في سياق مشاعرنا تجاه تاجر البشر، آسبرو. ولكن كيف لنا أن نتصالح مع تلك الصورة الملائكية لقوى الأمن والشرطة والجيش، في وقت تتحمل هذه الأجهزة ذاتها مسؤولية تعذيب أربعة لاجئين سوريين حتى الموت، وتمارس العنفالجسديواللفظي ضد اللاجئين والعاملات والعمال الأجانب واللبنانيين؟ هل يمكن الفصل بين أدوات السلطات المتعددة العنيفة (قوى الأمن والجيش) والعنف في مجتمع المُهمَّشين؟ يسقط دور السلطة في دائرة العنف، سهواً أم عمداً لا يهم، فالخلاصة هي صكّ براءة للقويّ العنيف في وجه الضعيف العنيف.
دور التلفزيون التنويري يبدو مريباً أيضاً. نرى في الفيلم أن طاقة خلاص زين كانت عن طريق برنامج تلفزيوني، لكن خارج الفيلم، أي في الواقع مرة أخرى، كان هذا التلفزيون نفسه مصدراً ومحرضاً على العنف في حالات كثيرة. قد يكون التركيز على هذا التفصيل غير مبرر، ولكن الكثير من المديح الذي ناله الفيلم كان بناءً على اعتنائه بالتفاصيل، ولذا وجب السؤال عمّا إذا كان دور التلفزيون في خلاص زين واحداً من تلك التفاصيل المُعتنى بها.
تقع السلطات الثلاث، الأمن والقانون والإعلام، خارج دائرة الاتهام والعنف، بينما يتحمل مجتمع المُهمَّشين والمقموعين المسؤولية كاملة. هذا في الفيلم، أما الواقع فيحكي لنا رواية أخرى.
كفرناحوم يسلط الضوء على مشاكل اجتماعية وسياسية مهمة، لكنه يتعثر في وضعها ضمن إطار سياسي واجتماعي مُنصف. لا كلام عن مسؤولية السلطات المحلية في التحريض على اللاجئين واستغلال العمالة الأجنبية، لا حديث عن مسؤوليتها في استمرار «نظام الكفالة»، وتهرّبقوىالأمنمنمسؤوليتها في حماية العاملات والعمال الأجانب من الانتهاكاتاليومية، أو عن دورها في إجهاضأيمحاولاتتنظيمية للعاملات والعمال الأجانب لتغيير واقعهم. يُذكّرنا طرحُ كفرناحوم بمقولة مارغريت تاتشر الشهيرة: «لا يوجد شيء اسمه مجتمع، يوجد أفراد، نساء ورجال وأُسَر».
لا إجحاف في تحميل فيلم كفرناحوم مسؤولية سياسية واجتماعية، فإقحام قضية اللجوء والسوريين والأدوار البريئة للسلطات الثلاثة في الفيلم، يستحضر أبعاداً أخرى للفيلم فوق كونه بورتريه لعلاقة إنسانية شديدة الحساسية والجمال بين يوناس وزين. حتى أن لبكي نفسها تشير إلى هذه القضايا في المناسبات العديدة التي تحدثت فيها عن فيلمها.
بعد تسلّمها جائزة لجنة التحكيم لمهرجان كان السينمائي هذا العام، أهدت لبكي الجائزة لبلدها لبنان، الذي يستقبل أكبر عدد من اللاجئين في العالم1 على الرغم من شحّ موارده لتلبية حاجة سكان البلد الأصليين. يغيب عن كلام لبكي، كما عن الفيلم، الواقع الذي يعيشه اللاجئون السوريون والفلسطينيون في لبنان، والتهديد اليومي من حكومة ذلك البلد بإعادة اللاجئين السوريين إلى «جحيمهم». وفي لقائها مع زافين على تلفزيون المستقبل، تُدافع لبكي عن خيارها بإظهار قوى الأمن بصورة إنسانية، مما لا يترك مجالاً للشك أن الفيلم يتطرق لأسئلة السلطة ومسؤوليتها.
نرى في كفرناحوم رواية تشبه روايات كثيرة تحكيها المنظمات الدولية عن سوريا، تزيل السياسة عن مشاكلنا، وتنحاز للقوي على حساب الضعيف.
المصدر: الجمهورية