فيكتوريوس بيان شمس
لفتت التطورات الأخيرة في جمهورية فنزويلا البوليفارية أنظار العالم إليها، بعدما أعلن رئيس الجمعية الوطنية الفنزويلية خوان غوايدو نفسه رئيساً للجمهورية، معتبراً نيكولاس مادورو، خليفة الرئيس الكاريزمي السابق هوغو تشافيز، الذي توفي عام 2013، رئيساً غير شرعي للبلاد. سارعت على الفور دول وازنة في القارة واعترفت به، كالولايات المتحدة الأميركية، وكندا، وكولومبيا، والأرجنتين، والبرازيل، التي استلم السلطة فيها اليميني المتطرّف جايير بولسونارو، في أوائل كانون الأول/ ديسمبر 2019 خلفاً للرئيس ميشال تامر. وللمفارقة، كان بولسونارو قد تلقى ثاني برقية تهنئة على فوزه في الانتخابات الرئاسية البرازيلية من نيكولاس مادورو، بعد برقية الرئيس الأميركي دونالد ترامب مباشرة.
المزاج الشعبي في أميركا اللاتينية عموماً، بدأ يتحول في الآونة الأخيرة معبّراً عن نفسه بالاحتجاجات العارمة، كما هي الحال في نيكاراغوا حالياً، تحت حكم “الساندينيستا” بقيادة دانيال أورتيغا، والتي تشهد منذ أشهر احتجاجات شعبية واسعة، وبوليفيا بقيادة ايفو موراليس، والتي بدأت تصدّر المهاجرين واللاجئين إلى دول الجوار، تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية الخانقة.
وكما كان عليه الوضع في البرازيل أواخر فترة حكم الرئيسة ديلما روسيف، قبل أن يقوم البرلمان بعزلها وتعيين نائبها ميشال تامر، وكريستينا كريشنر في الأرجنتين. عبّر المزاج الشعبي عن نفسه بإيصال قوى اليمين في أميركا اللاتينية إلى السلطة، بعد فشل هذا اليسار في إدارة شؤون بلاده، وتورّطه في الكثير من قضايا الفساد. إلا أن الوضع الفنزويلي، والذي يندرج ضمن السياق نفسه، (أي أفول نجم قوى اليسار)، كان متمايزاً بما يجعله يشبه إلى حد بعيد الأنظمة الشمولية العربية، أكثر ممّا يشبه السياقات التاريخية التي مرّت بها دول القارّة، على الأقل، بعد انتهاء عصر الديكتاتوريات العسكرية في تسعينات القرن الماضي. برز ميل حثيث للاستئثار والاستفراد بالسلطة بشكل مطلق على قاعدة: “أنا؛ أو لا أحد”، وإلغاء أي معارضة، وإدارة البلاد عبر المراسيم الرئاسية، وانعدام حرّية الرأي والتعبير، والاعتماد على أجهزة الأمن التي بدأت تتكاثر وتتعدد اختصاصاتها بشكل ملحوظ منذ فترة حكم الرئيس تشافيز، وصولاً إلى خلفه مادورو. والأخير تميّز عن سلفه بالاعتماد على الميليشيات المدنية المسلّحة، التي مارست عمليات القتل، لكل من تجرّأ على الاحتجاج ضده، إضافة إلى تشكّل أولغارشية جديدة من محدثي النعمة تستأثر بكل مقدّرات البلاد.
الرئيس نيكولاس مادورو
كانت النتيجة انهيار الاقتصاد بشكل غير مسبوق، إذ وصلت الديون الخارجية إلى نحو 150 مليار دولار، وانخفض الاحتياطي النقدي إلى 9 مليارات دولار، فيما بلغ العجز بداية عام 2018 نحو 20 في المئة، وقد تنبأ صندوق النقد الدولي بوصول معدل التضخّم مع نهاية عام 2018 إلى أكثر من مليون في المئة، نعم، مليون في المئة، ليصبح دخل الفرد شهرياً نحو دولار أميركي واحد، وهو ما حصل بالفعل. هكذا احتلت فنزويلا المرتبة 23 في ترتيب الدول الأعلى تضخّماً عبر التاريخ، بحسب الدكتور ستيف هانكي أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة “جونز هوبكنز”. هذا في حين تملك فنزويلا ثروات طبيعية هائلة من الغاز الطبيعي، والماس، والحديد، والذهب، والأراضي الزراعية الواسعة، إضافة إلى احتياطي نفطي يتجاوز 350 مليون برميل، فيما يتراوح حجم صادراتها من النفط بين 2 و3 ملايين برميل يومياً، وهي السلعة التي تحتل 95 في المئة، من صادرات البلاد تقريباً (يصدّر معظمها إلى الولايات المتحدة الأميركية).
دفعت هذه الأوضاع الاقتصادية والأمنية المتردّية قسماً كبيراً من الشعب الفنزويلي إلى التشرّد في دول الجوار، إذ استقبلت كولومبيا وحدها حوالى 850 ألف لاجئ. تُقدّر أعداد اللاجئين الفنزويليين حالياً في دول القارة بحوالى مليوني لاجئ، مع ارتفاع ملحوظ في معدلات العنف والجريمة، وتدهور مستوى التعليم الذي تحوّل في مؤسسات التعليم الرسمي، إلى تعليم أيديولوجي صرف.
كان ذلك كله يحصل تحت شعارات معاداة الإمبريالية، وهي معركة وهمية خطابية معلنة من طرف واحد، استُخدمت بالطريقة ذاتها التي استخدمت فيها الأنظمة العربية الشمولية شعارات مكافحة الإرهاب، والنضال ضد الصهيونية والإمبريالية العالمية، لتبرير عملية نهب شعوبها، والإمعان في تجهيلها وإفقارها، وقتلها وتشريدها إذا ما تجرّأت على الاحتجاج.
عام 2015، وبينما كان الشعب الفنزويلي ينتظر موعد الانتخابات النيابية للتخلّص من المجلس القائم، والذي كان نظام تشافيز ومن بعده مادورو يسيطران عليه، كانت المعارضة الفنزويلية تتوقع الحصول على 90 مقعداً من أصل 167. فوجئت المعارضة بحصولها على 112 مقعداً على رغم عمليات التزوير، أي الأغلبية المطلقة بالضبط، والتي تمكنها والحال هذه، من تغيير المحكمة الدستورية العليا بكامل أعضائها، وتغيير المجلس الانتخابي، والأهم من كل هذا، أنه بات بإمكانها محاسبة رئيس الجمهورية ومحاكمته أو عزله.
في اليوم التالي، قامت المحكمة الدستورية العليا بإلغاء 3 مقاعد معارضة، فازوا بها في محافظة “أمازوناس” بذريعة أنهم تلقوا رشى واشتروا الأصوات، وهؤلاء يمثلون السكان الأصليين (الهنود الحمر). هكذا خسرت المعارضة الأغلبية المطلقة، وأصبح بإمكان المحكمة الدستورية العليا إبطال أي قرار يتخذونه وتعطيله. لكن هذه النتيجة أرعبت الرئيس مادورو ونظامه، فما كان منه، إلا أن طالب “المجلس الانتخابي”، والذي يسيطر فيه على أربعة مقاعد من أصل خمسة، بالدعوة إلى انتخاب “مجلس برلماني تأسيسي” يتكون من 545 عضواً، بهدف تغيير الدستور، وهو ما حدث في نيسان/ أبريل 2017، لكن من دون أن يحل المجلس المنتخب ديموقراطياً، والذي يرأسه خوان غوايدو، مع أنه تعامل معه وكأنه غير موجود.
في المقابل، بدأت بعض أصوات المقرّبين من مادورو تتعالى مطالبة بحلّه، وايقاف رواتب أعضائه وامتيازاتهم، ورفع الحصانة عنهم، وهذا لم يحدث أبداً. هكذا أصبح لفنزويلا مجلسين نيابيين، الأول شرعي، لكن قراراته معطلة بحكم سلطة الأمر الواقع، والثاني غير دستوري، ولم يحقق الشروط الانتخابية المطلوبة، إذ شارك في هذه الانتخابات أقل من 3 ملايين ناخب فنزويلي من أصل 19.5 مليون مواطن يحق لهم التصويت. ناهيك بأن الكثير من الدول والكيانات لم تعترف بشرعيته، كالولايات المتحدة الأميركية، وكولومبيا، والأرجنتين، والبرازيل، والإكوادور، والبيرو، وكندا والسوق الأوروبية المشتركة، وهو ما يفسّر جانباً من مواقف هذه الدول اليوم مع الخطوة التي قام بها رئيس البرلمان الشرعي خوان غوايدو في إعلان نفسه رئيساً موقتاً للبلاد. ويفسّر أيضاً السبب الذي دفع بعض هذه الدول إلى فرض عقوبات وتجميد حسابات بعض أعضاء الحكومة وأبرز رموز النظام، كمادورو نفسه، ووزير دفاعه، ورئيس مجلسه التأسيسي غير الشرعي. لكن النظام تعامل مع تشكيل مجلسه التأسيسي باعتباره نصراً مؤزّراً، وبدأ أعضاء البرلمان الشرعي الذي يرأسه غوايدو، والمحسوبون على سلطة مادورو يقاطعون جلساته في محاولة لتهميشه. كانت هذه فرصة ذهبية للمعارضة لتشكّل محكمة دستورية عليا، اضطر أعضاؤها للهرب إلى كولومبيا وطلب اللجوء هناك خوفاً على حياتهم.
جوان غوايدو
المؤشّر المخيف الآخر بالنسبة إلى مادورو ونظامه، تمثّل بفوز المعارضة في انتخابات حُكّام الولايات في نهاية عام 2017، إذ نجح هؤلاء في أهم الولايات وأكبرها، كـ “بوليفار” و”سوليا”، لكن الحكومة اشترطت على الفائزين أداء القسم أمام المجلس التأسيسي غير الشرعي قبل توليهم مناصبهم رسمياً، وليس أمام البرلمان. رفض هؤلاء شروط الحكومة التي استغلت الفرصة ودعت إلى انتخابات جديدة، تمت فبركتها لضمان نجاح الموالين لمادورو.
عام 2018، أوعز مادورو لمجلسه التأسيسي للإسراع بتنظيم انتخابات رئاسية، مع أن ولايته الدستورية الشرعية بدأت بتاريخ 12/04/2013 وتنتهي بتاريخ 10/01/2019، فيما تنص المادة (233) من الدستور على تولي رئيس البرلمان الشرعي رئاسة الجمهورية، في حال عدم قدرة الرئيس على ممارسة مهماته بسبب الموت أو المرض أو الإعاقة، أو شغور موقعه. أما في حال التغيّب الموقّت، فبإمكان النائب الأول الذي يعينه الرئيس، أن يتولى مهماته، لحين عودته إلى موقعه.
لم تعترف المدعية العامة الفنزويلية لوسيا أورتيغا دياس بهذه الانتخابات، واعتبرتها غير شرعية، ليقوم مادورو بتعيين حاكم ولاية “أنسواتيغي” السابق طارق وليم صعب، وأمين ما يُعرف بـ “ديوان المظالم” في ما بعد، بديلاً منها، وهو رجل سيئ السمعة من أصول عربية. حدث هذا من دون إبلاغها رسمياً بتنحيتها، ما اضطرها إلى مغادرة البلاد إلى كولومبيا خوفاً على حياتها. بعد وصولها، قامت برفع دعوى قضائية ضد مادورو أمام المحكمة الدستورية العليا التي كان لجأ أعضاؤها إلى كولومبيا، ليصدروا حكماً غيابياً عليه بالسجن 18 عاماً، أواخر عام 2018، على خلفية تورّطه بقضايا فساد ضخمة مع شركة التعهدات البرازيلية العملاقة Odebrecht، إبّان فترة حكم الرئيسة اليسارية السابقة ديلما روسيف.
تعاملت المعارضة بقيادة غوايدو في 23 كانون الثاني/ يناير 2019، على اعتبار أن البلاد دخلت مرحلة الفراغ الرئاسي بعد العاشر من كانون الأول 2019، لأن المجلس التأسيسي غير شرعي، وهذا يعني أن الانتخابات الرئاسية التي نظّمها عام 2018، أيضاً غير شرعية، على قاعدة: “ما بني على باطل، فهو باطل”. هكذا، أصبحت فنزويلا أمام ازدواجية السلطات، التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. إضافة إلى اعتراف دولي بطرفي الصراع.
هل ستنجو فنزويلا من مأزقها؟
تتركّز أنظار العالم على الجيش الفنزويلي باعتباره المؤسسة الأكثر تنظيماً على غرار كل الدول المحكومة بأنظمة ديكتاتورية – شمولية تلغي الديموقراطية بمجرّد وصولها إلى السلطة، بما لا يترك مجالاً لوجود أي بديل سياسي، وعلى أساس أن بإمكانه حسم الصراع. لكن هذا الجيش شهد الكثير من التململ ومحاولات التمرّد في السنوات الماضية، وهو ما يعني أنه عرضة للتفكّك والتشرذم، مع بقاء احتمال تدخّله قائماً. ويبقى احتمال التدخّل الخارجي أيضاً قائماً، سواء من دول أخرى كالولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر أميركا الجنوبية بكاملها مجالها الحيوي، أو بعض دول القارّة الأخرى، التي لها تاريخ في التدخل بشؤون الدول المجاورة، أو حتى مع إمكان تشكيل تحالف إقليمي يحسم الصراع، مع صعوبة التنبؤ بشكله وتوقيته وآلياته (وهذا كله غير مطروح حتى الآن)، واستبعاد أي تدخّل مباشر وواضح من خارج القارّة. عدا ذلك، فإن الصراع سيكون مريراً وطويلاً، وستحتاج فنزويلاً إلى سنوات، وربما عقود طويلة من الزمن، لإصلاح الاهتراء الحاصل في المجتمع والسياسة والاقتصاد وترميمه.
المصدر: درج