عليا قصّاب
يلاحق سوء الطالع المدن أيضاً، ومنها مدينة داريا، خاصرة دمشق الجميلة، والندبة الجديدة على خارطة سوريا، التي مرّ على إفراغها من أهلها أكثر من عامين، جرى الحديث خلالهما مراراً عن إعادة إعمارها، وتأهيل مرافقها، والأمل بعودة سكانها.
تقع داريا في محافظة ريف دمشق، على بعد نحو ثماني كيلومترات جنوب غرب مركز مدينة دمشق. وإلى شمال داريا يقع حي المزة الدمشقي الشهير، الذي تلقت المدينة معظم الضربات من مطاره، المطار العسكري الأهم للنظام قرب دمشق. وإلى جوارها بلدة المعضمية التي تمرد أهلها على النظام أيضاً وذاقوا ويلات القمع، وتأثروا كثيراً بمصير داريا. أما إلى جنوبها فتقع بلدتا صحنايا وأشرفية صحنايا، وإلى الشرق منها يقع حيّا القدم وكفرسوسة الدمشقيان.
يبلغ عدد سكان داريا 255 ألف نسمة حسب إحصاء العام 2007، وكانت أولى مظاهراتها المناهضة للنظام في 25 آذار (مارس) 2011، ثم أول إطلاق نار مباشر فيها من الأمن السوري على المتظاهرين يوم «الجمعة العظيمة» 22 نيسان (إبريل) 2011، ما أدى إلى مقتل سبعة متظاهرين. ثم تتالت المظاهرات في المدينة، وتصاعد القمع وتزايد عدد الضحايا من أبنائها، لتبدأ مجموعات مسلحة منهم بمقاومة النظام تحت مسمى الجيش الحر. وقد دارت معارك عديدة فيها وفي أطرافها، كما أنها شهدت مذابح عديدة. ولعل المذبحة التي عرفت باسم «السبت الأسود» تكون أكبر مجزرة شهدتها المدينة، حين اقتحمتها قوات النظام وقتلت نحو 300 شخص فيها، غالبيتهم الساحقة من المدنيين، وذلك في يوم 25 آب (أغسطس) 2012.
نزح كثير من أبنائها خلال العام 2012 إلى مناطق أخرى من دمشق وعموم البلاد جراء القصف والمعارك، ثم حاصرتها قوات النظام تماماً منذ أواخر العام 2012، وبعد أربع سنوات من القصف والحصار والتجويع والتدمير الرهيب، وتحديداً في 26 آب (أغسطس) 2016، نجح النظام في إعلان المدينة خالية من أهلها، عبر اتفاق قضى بترحيل كل من كانوا فيها إلى إدلب، مضيفاً بذلك أرضاً محروقة مدمرة جديدة إلى جغرافيا البلاد.
بعد الكوارث والحروب، تنطلق البعثات المعمارية لرصد الدمار وإعادة المدن إلى وضعها الطبيعي، وذلك طبقاً لمسوحات أثرية ومخططات وصور. وتضع منظمة التراث العالمي (اليونيسكو) معايير خاصة لهذه العمليات، لكن هذا يحدث فقط في حالة المدن القديمة والكبرى مثل دمشق أو حلب. أما في المدن الصغيرة أو الناشئة، فلا يعني شكل الشارع أو حفرة ما قبل البيت إلا أصحابه، وكذلك الكتابات على الجدران، وعبارات اللقاء والحب، الخرابة الموجودة في نهاية الطريق المؤدي إلى بيت الجد، وهي التفاصيل التي تعيش في رؤوس أصحابها فقط. وبعد الدمار، لا مجال لاستعادة المدينة كما كانت، لتمسي الصور المخزنة في الذاكرة شفيع أصحابها عند الحنين.
هذا ما تؤكده لينا، الطالبة في معهد الآثار والمتاحف، إذ تقول «يجب عليك كطالب في المعهد أن تأخذ محاضرة عن ترميم الآثار التي تعرضت لتدمير جزئي، أو تلك التي على وشك الانهيار، وذلك طبقاً لمعايير عالمية، ابتداءً من نوعية المواد المستخدمة مروراً بطريقة الترميم، وما إلى هنالك من عمليات معقدة ودقيقة. وأي خلل في هذه العمليات، سيؤدي إلى فقدان الأثر اعتراف اليونيسكو به». وإذا كان ليس ثمة قوانين تفرض الأمر نفسه بخصوص ترميم وإعادة إعمار المناطق غير الأثرية، فإن كثيراً من أبناء مناطق كتلك يرغبون في التزام الشروط نفسها عند إعادة إعمار بيوتهم، يرغبون في إعادة كل شيء كما كان عليه، وذلك طبقاً للصور القديمة التي يحملها كل منهم لمنزله.
يشير أبو عدنان إلى صورة لبيته المدمّر على هاتفه الجوال، أرسلها له ابنه، ويظهر فيها أنه لم يبقَ من البيت إلّا شباك انهار خشبه العلوي، ودرجٌ بلا ملامح. يقول: «سوف أعيد البيت كما كان، حتى بأخطاء البناء نفسها، التي كانت تشكو منها أم عدنان»، مؤكداً رفضه لأي شكل معماري جديد قد يغير صبغة حياته القديمة، ومؤكداً أن كثيراً من أبناء المدينة المهجرين يفكرون بالطريقة نفسها.
لكن ليس كلهم كذلك، إذ تعبّر دانيا عن عدم مبالاتها بما سيؤول إليه شكل داريا الجديد، فهي تحتفظ في ذاكرتها بصورة المدينة التي كبرت وتزوجت فيها، وقد تم تدمير كلّ هذا الآن إلى غير رجعة كما تعتقد، ولذلك لا يهمها الشكل المستقبلي أياً يكن.
تصورات الجيران لمخطط ما بعد الدمار
وكما أن للماضي وأصحابه صوره المخزنة، فإن للحاضر والجيران تصوراتهم أيضاً، وقد سألتُ عدداً من جيران داريا عن تصوراتهم حول إعادة إعمار المدينة المدمرة.
يفضل سامي، وهو شاب في منتصف العشرينات من أشرفية صحنايا، أن يقسم مشروع التأهيل المدينة إلى نصفين، ومن الأفضل بالنسبة له أن تكون معظمها أراضٍ زراعية، لما في ذلك من فائدة. بينما ترى سارا، وهي شابة في مطلع الثلاثينات من صحنايا، أن وجود مطار في مثل هذه الأرض سوف ينشط حركة النقل على أطراف المدينة، ناهيك عن كمية الوظائف التي سيتم تأمينها.
أما تمارى، وهي طالبة طب من أشرفية صحنايا، فما يهمها هو أن ترتاح من التلوث البصري الذي أصاب طريق دمشق الجديدة الذي يمرّ محاذياً لداريا، وتقدم رؤيتها لإعادة الإعمار على شكل أبراج سكنية شاهقة وعمارة حديثة، تجلب السياح وتجلب من سيهربون من اكتظاظ المدينة لاحقاً، وأيضاً من يحبون نمط الحياة الحديثة، ولا مانع من تخطيط الشوارع بحيث تصلح لاستيعاب قطارات سريعة مثلاً.
فيما يتحدث حسام، أحد سكان صحنايا، عن تجربته في مشفى السلام، عندما كان يقضي فترة علاجه في الطابق الأخير المطلّ على أراضي داريا، وكيف أنه عانى من امتداد الخراب على مد نظره، ما أثّر على نفسيته وأخّر من تماثله للشفاء. وهو يقترح فكرة مشروع ضخم لزراعة داريا، كي تشكل حزاماً أخضراً يحيط بدمشق العاصمة، وما سينتج عن هذا الحزام من آثار إيجابية على جميع المستويات.
يقول وسيم، وهو شاب في منتصف العشرينات من أشرفية صحنايا: «إن عدم حديثنا عن مشروع إعادة الإعمار على أنه واجهة لتغيير ديمغرافي كبير في المنطقة لا يعني أننا لا نشعر بذلك»، ثم يتابع قائلاً إنه يتصورها أبراجاً سكنية توأمية تشبه أبنية كفرسوسة الحديثة، سيسكنها أناسٌ غرباء، ولكن إلى لحظة سؤالي له، لم يكن وسيم متأكداً من طبيعة هؤلاء الغرباء أو انتماءاتهم أو حتى دياناتهم.
مرونة الأسماء أمام فظاعة الواقع
لا يتغير شكل المدينة فقط، ولا مشاعر الأشخاص تجاه واقعها الجديد أو ماضيها المندثر، بل من الممكن أن تتغير الحاجة إلى وجودها من الأساس في المستقبل. ويبرز ذلك من خلال الذهاب إلى تصورات حول تغيير اسم المدينة، ومن الملفت في هذا الصدد اجتماع كثيرين على اسم للمدينة يرتبط بالخراب، ومن بين تلك الأسماء «دار خربة». ولكن لماذا؟
تقول راما، وهي مهندسة معمارية، إن هذا الاسم يحمل من روح المدينة القديمة ومن حاضرها، وفي حال سكنها أناس جدد تماماً، سيكون هذا الاسم مرناً، ومن الممكن أن يتحول إلى «دير خربة». بينما يؤكد جبران، الحاصل على بكالوريوس في التاريخ، على أهمية مرونة التسميات عبر التاريخ، ويشرح ذلك من خلال استعراض أصل تسمية داريا، وجاء ذلك برأيه أن داريا كلمة تعني بالسرياني الدور الكثيرة، وبما أنه لا دُور فيها الآن، فمن المهم أن تسمى المدينة باسم يشبه ماهيتها، إذن فلتكن دار خربة. ثم يقترح اسماً آخر وهو خرابيا، مفسراً أن «يا» في السريانية هي لاحقةٌ تدلّ على الجمع، وبذلك يكون الاسم هو جمع للخرابات.
بينما تضيف ليلى، مؤكدة على ما سبق، أنها سمعت بأن داريا كانت تعني البحر نسبة إلى أنه قديماً جداً كانت هذه الأرض عبارة عن بحيرة كبيرة، ولكنها الآن عندما تمرّ بمحاذاة المدينة أو ترى صورها في نشرات الأخبار، فهي لا ترى إلّا بحراً من الخراب.
قد يبدو أن هؤلاء يريدون إزالة داريا وحكايتها من الذاكرة، لكن من وجهة نظر أخرى، قد يكون هذا ناتجاً عن رغبة في بقاء حكاية واستيعابها. وأياً تكن الدوافع العميقة لفكرة تغيير الاسم، فإنها تشير بوضوح إلى الاستسلام لفكرة ربط المدينة بالخراب، خلافاً لما ينبغي أن يكون عليه الحال، أي الإصرار على إعادة المدينة بأهلها إلى الحياة.
زيارات خاطفة إلى دمار المدينة
احتاجت المدينة الحاضرة في الذاكرة، الغائبة عن الأرض، إلى سنتين بعد نهاية الحرب قبل أن تستقبل أبناءها من جديد، لكن لساعات فقط وضمن مواعيد محددة. إذ شهد شهر آب (أغسطس) 2018ـ وتحديداً في أيامه الأخيرة، إعلاناً حكومياً رسمياً عن السماح بعودة الأهالي إلى داريا بعد سنتين من انتهاء العمليات العسكرية فيها تماماً.
تقول ذكرى: «قضيتُ كل فترات حياتي الجميلة في داريا، طفولتي مراهقتي وحتى زفافي كان في داريا. عندما سمحو لنا بالعودة لم أجرؤ على الدخول، بل قررت الاحتفاظ بصورة جميلة عن مدينتي، ومع ذلك عاد الأقرباء بصور وفيديوهات مفجعة، بكيتُ عندما رأيتها».
أما أبو عمر، فقد قال إن العودة كانت لمدة ساعتين فقط: «تجمَّعَ الناس بالآلاف على مداخل داريا، وانطلقوا ليتعرف كلٌّ منهم على بيته وأماكنه، وطبعاً مُنعوا من حمل أي شيء من الداخل، إلا ما علق في عيونهم من مشاهد الخراب».
كان جواب معظم الأهالي الذين سألتهم عن تأخر السماح لهم بالعودة هو الاستغراب، مؤكدين أن نقاشات تدور بينهم دائماً بهدف الوصول إلى جواب، خاصة عندما سمح النظام بعودة بعض الأهالي إلى الغوطة الشرقية بعد سيطرته عليها بفترة قليلة، في مقابل منع أبناء داريا حتى من زيارتها طيلة سنتين.
تقول ذكرى في محاولتها للإجابة على السؤال: «هنن ما بدهن يانا نرجع… بدهن يعملوها أبراج». كثيراً ما سمعت هذه الفرضية، وقد استطعتُ تقبّلها في بداية الأمر باعتبارها خيالاً لا يمت للواقع بصلة، خيالاً ناتجاً عن أمل أبنائها بالعودة إليها، وبأن يتم بناؤها مجدداً وفق نمط معماري حديث. ولكن لاحقاً بات الأمر مختلفاً بالنسبة لي، وبات أكثر ألماً، لأنه أصبح واضحاً أن فرضية الأبراج تلك تقف على النقيض من حلم العودة، وأنها ناتجة عن حجم التدمير الممنهج الذي تعرضت له المدينة، وليست ناتجةً عن الأمل أو غياب الأمل أو غير ذلك من المشاعر.
القانون رقم 10
ولا نستطيع الحديث عن إعادة الإعمار، دون التطرق إلى القانون رقم 10. وما أثار استغرابي هو أنني عندما سألت شباباً وشابات من مناطق سورية متنوعة عن هذا القانون، لم أحصل على أي إجابات، وكأن الأمر لا يعني أحداً. لقد توقعتُ أن أحصل على إجابات تشرح تبعات القانون، فحصلت على إجابات تشرح مدى الجهل به وبآثاره المحتملة.
يشير هذا إلى سلبية كبيرة في التعاطي مع الشأن العام، إذ كيف يمر مثل هذا القانون مرور الكرام على شرائح واسعة من السوريين، فيما علّقت عليه منظمة حقوق الإنسان ببيان رسمي، وطالب كثيرٌ من الصحفيين بتنظيم حملة تتعلق بعشرات المآخذ عليه، وبتأثيره في المستقبل القريب والبعيد على الهوية العمرانية والديمُغرافية السورية.
مثلاً، يقول قيس، وهو طبيب أسنان من السويداء عمره 25 عاماً: «لم أسمع بالقرار، ولا أعرف عنه أي تفاصيل»، وهو ما يطابق إجابة رباح، مصمم غرافيك من أبناء زملكا في غوطة دمشق، في بداية العشرينات من عمره. أما أنس، وهو صحفي من دمشق في أواخر العشرينات، فيشير إلى أن معرفته بالقانون تقتصر على أنه يتعلق بملكية العقارات في سوريا، وأن جدلاً كبيراً حدث حول توقيت إصداره، وحول أنه يشكل خطوة على طريق التغيير الديموغرافي في البلاد، ثم ينهي حديثه بأنه لا يعرف تفاصيل دقيقة.
ولكن في سياق معاكس، فعلى الرغم من عدم البدء بتطبيقه في داريا حتى الآن، إلا أن القانون 10 تحوّلَ إلى فزاعة بالنسبة للأهالي الحالمين بالعودة، وحتى الرافضين لها أيضاً.
زياد مهندسٌ معماريٌ من داريا، وهو يسكن حالياً في المزة. يقول إنه لا يريد العودة حتى في حال سُمح بها، لأنه مرتاحٌ في مكان إقامته الحالي، لكنه يخشى جداً على مدينته من أي مشاريع جديدة، ويضيف: «لا علاقة للنوستالجيا بذلك، بل بخطورة هذه المشاريع على مستقبل البلاد، واحتمال التحكم بنوعية السكان الجدد وتوجهاتهم وانتماءاتهم».
فيما يغرق أبناء داريا في الخسارة والفقدان والتهجير، لا يبدو أن ما يُطرح بخصوص إعادة إعمار مدينتهم يلحظ آلامهم تلك، بل تبدو إعادة الإعمار مسألة إجرائية فقط. وفيما يتم النظر إلى إعادة الإعمار كفرصة بالنسبة لكثيرين، فإنه بات يبدو وحشاً سيلتهم حقوق أبناء المناطق المدمرة، ومعها أحلامهم وذكرياتهم.
المصدر: الجمهورية نت