سميرة المسالمة
غيّر قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الانسحاب من سورية، على الرغم من أنه لم يزل تغريدة في فضاء افتراضي، في معادلات التسوية المفترضة بين ضامني تفاهمات أستانة التي أنتجت تغييراً في مواقع دول الصراع وأدوارها، وكذلك مواقف الأطراف السورية الموظفة لتنفيذ أجندات الدول التي تدعم وجودها سياسياً وعسكرياً، وأنجزت ما سميت اتفاقات خفض التصعيد التي انتهت بتسليم المناطق للنظام، باستثناء “استعصاء إدلب” وفق خططٍ عسكريةٍ منظمة، أعلن في نهايتها النظام السوري بسط سيطرته عليها، في مؤشر على إعادة إنتاجه، وبضمانة الداعمين الأساسيين لمسار أستانة، إلا أن أهم ما أنجزه اليوم هو جدولة الحروب المحتملة، في سورية، وإعادة ترتيبها، لتعود الأولوية، مجددا، إلى تفاهماتٍ دوليةٍ سابقةٍ أميركية – روسية، وروسية – تركية – إيرانية لاحقة، تبدأ من الحرب على جبهة النصرة، بينما يتم تأجيل الحرب التركية المعلن عنها ضد كرد سورية منذ أشهر، بانتظار ما يمكن أن تؤول إليه مساعي تفسيرات المنطقة الآمنة الملتبسة في شمال سورية.
إذاً يمكن القول إن تغريدة ترامب عن قرار انسحاب قواته من سورية، وما أعقبها من تبعيات داخل إدارة ترامب وخارجها، لا تزال تحصد ثمارها السياسية والميدانية، إذ استطاعت تغيير خريطة التعاطي الدولي والإقليمي مع مفهوم الوجود العسكري والانسحاب وحدوده ومآلاته، وأصبحت الشغل الشاغل للدول المنخرطة في الصراع المباشر في سورية، وعليها (إسرائيل، روسيا، إيران، تركيا، وحتى أوروبا)، على الرغم من زيادة فاعلية القوات الأميركية وعددها وعتادها منذ إعلان الانسحاب في 19 ديسمبر/كانون الأول 2019، كما أنها زعزعت ثقة حلفاء أميركا الأوروبيين الذين وجدوا في تسرّع ترامب فرصةً للانقضاض على ملف الصراع من محور روسيا، إيران، تركيا، إلا أن الحقيقة الماثلة أن الحصاد الفعلي للقرار الأميركي كان بانتزاع فتيل الحرب التي كانت قاب قوسين أو أقل من اندلاعها في المنطقة، بين تركيا فاعلا وشريكا من جهة، وداعما للفصائل المعارضة المسلحة التي تنضوي تحت الرعاية التركية من جهة ثانية، ضد حلفاء واشنطن من “قوات سوريا الديمقراطية” في شمال سورية.
ويأتي اجتماع سوتشي المقرر خلال الأسبوع المقبل بين الرؤساء، الروسي والتركي والإيراني، ضمن سياق تأثيرات القرار الأميركي الذي فسح المجال أمام وضع الخلافات فوق الطاولة فيما بينهم، حلفاء وأعداء في آن معاً، بما يتعلق بواقع المنطقة بعمومها، ومنها اللون الأسود الذي صبغ إدلب وريف حلب الغربي، بعد أن اقتحمته جبهة النصرة في معركة إعلامية شبه وهمية، أدت إلى استسلام كامل للفصائل المتناثرة في المنطقة، وانكفائها لتلوذ بكنف فيلق الشام، أو الفصائل التابعة له، ما مهد الطريق أمام الحليف الروسي لإعادة التذكير بأولوية الحرب على جبهة النصرة بوصفها عدوا مستهدفا، حسب بيان القمة الثلاثية في طهران في 7 سبتمبر/أيلول 2018، والذي جاء في بيانه رفض الرؤساء أي محاولات لإيجاد واقع جديد على الأرض، في سياق محاربة الإرهاب، ومجدّدين تأكيدهم على مواصلة التعاون، بهدف القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة، وتم تأكيد ذلك في القمة التي جمعت بوتين وأردوغان في سوتشي، في 17 سبتمبر/أيلول 2018، حيث كانت “النصرة” وخروجها من إدلب محور الاتفاق الذي انقلبت عليه، وغيرت معالم الواقع الميداني عسكرياً في كامل إدلب ومحيطها. إلا أن ذلك كله لا يمكن أن يكون بعيداً عن الإرادة الأميركية التي تدير خلافاتها وتوافقاتها بالصمت تارة، والتغريدات المتناقضة تارة أخرى، لفسح المجال أمام “حمّى” المساومات والتنافسات والعروض، لتطفو على السطح من جديد، وتعيد رسم خارطة التحالفات وفق المعطيات المصلحية، بعيداً عن أي دور سوري من طرفي الصراع المحلي من نظام أو معارضة.
أي أننا من جديد أمام مرحلةٍ جديدةٍ من جدولة الأولويات، حسب ما يتفق والدور الذي ترغب به الولايات المتحدة، لكل الأطراف المنخرطة في الصراع السوري، مؤكّدة في ذلك أنها ستبقى اللاعب الأساسي الذي يقرّر تموضعات بقية اللاعبين، بل وحصصهم داخل الملفات أو حتى خارجها، وهي بذلك لا تمارس دورها كما تدّعي بأنها “ضمير العالم”، بل تمارس دورها العسكري، على الرغم من وجوده شبه الوهمي في سورية (ألفي جندي) في قيادة العالم، حيث رغباتها ومصالحها؛ بما فيها مصالح إسرائيل المعنية بحمايتها مباشرة. ما يعني أن مرحلة الحسم بخصوص سورية لا تزال مؤجلة، وهذا يفيد بأنها ستحافظ على “الستاتيكو” القائم، بل تمارس دورها العسكري، حتى بـ(ألفي جندي) في قيادة العالم” والنزاعات المختلف على حدودها، والأهم واقع القبول بإيران شريكا في عملية الحل السياسي في سورية، بعد أن كانت محرّك الشر في المنطقة عموماً، وهذا يعني، أيضاً، أن مهمة سوتشي الثلاثية المقبلة بما يتعلق بتشكيل اللجنة الدستورية لا تزال محض وهم في غياب الإرادة الأميركية بإنهاء ملف الصراع في سورية.
ومن هنا، فإن الحديث عن قدرة مسار أستانة العسكري، وذراعه السياسية (سوتشي للحوار السوري) في أن يكون البديل لمسار جنيف، ووضع تفاهماته في خدمة إعادة تأهيل النظام، في مقابل الطموحات التركية في الشمال، والاتفاقات الاقتصادية لإيران مع دمشق في مقابل انحسار رمزي عسكري لها من سورية، هو محاولة لكسب معركةٍ إعلامية. ولا ينبغي الوقوع في فخ هذه المقولة التي يروجها النظام وحلفاؤه، فلا علاقة لما يجري بذلك، بقدر ما له علاقة بترتيب الأوضاع في سورية، واستدراج كل القوى لوضع أوراقها مكشوفةً أمام المجتمع الدولي، لصياغة حل “دائري الزوايا”، بما يحقق، أولاً وأخيراً، في المقام الأول المصلحة الأميركية التي تتضمن مصالح إسرائيل وأمنها، وبما يتناسب مع مصالح القوى الدولية الفاعلة جميعها، بدءاً من الولايات المتحدة بشكل خاص وإسرائيل وبعدها روسيا، ثم لاحقاً تركيا، من دون أن يتجاهل الجميع المصالح الإيرانية المطلوب تقنينها، وليس نفيها.
المصدر: العربي الجديد