جرى حرف النظر عن الشعب، وعن الثورة، نحو تناقضات أخرى، بعضها حقيقي وبعضها موهوم، أو مصنوع، لكن لا زال الشعب يحاول ان يغيّر رغم الصعوبة الكبيرة التي وقعت على كاهله، بعد أن باتت سورية محطّ صراعات إقليمية وتنافس دولي. وبات الحل بيد الدول الكبرى. لكنه الحل الذي لن ينهي الثورة الباقية.
ربما اتخذت المسألة السورية حيزاً من الصراع أكبر بكثير مما كان يجب أن تأخذ، بالضبط لأنها مسألة واضحة مثلت الاستمرار لما بدأ في تونس نهاية سنة 2010. فالشباب الذي اشتغل على تحريك الثورة كان بدأ التمرين في دعم الثورات الأخرى. لكن عديد منظورات فرضت أن تصبح مجال خصومة شديدة، وانقسام كبير. يمكن هنا أن نتناول أربع مسائل كانت في أساس سوء الفهم الذي حكم الثورة التي انفجرت في 15 مارس/ آذار سنة 2011 بتحريض من الثورات العربية التي سبقتها، ونتيجة الوضع الاقتصادي المجتمعي الذي أوجدته اللبرلة التي انتصر تماماً سنة 2007.
المسألة الأولى تتعلق بالصورة التي ارتسمت حول النظام السوري في السنوات السابقة للثورة، والتي أفضت إلى القول بأن ما يجري هو “مؤامرة إمبريالية”. حيث كان يوضع النظام في وضع الاستمرار للنظم “الوطنية” التي نشأت بعد انقلابات في خمسينات القرن العشرين، حيث كان يعتبر آخر هذه الأنظمة، التي “تعادي الإمبريالية”، والتي ينحكم اقتصادها لسيطرة “القطاع العام”. وأتى اغتيال الحريري ليكشف عن سياسة أميركية تريد تغيير النظام كما فعلت في العراق. وبالتالي أن يتعزز الموقف “الوطني” له، وأن يصبح “واضحاً” أنه معادٍ للإمبريالية الأميركية.
من هذا المنظور لم يكن يجري فهم واقع الشعب، ولا تلمّس آثار السياسة الليبرالية التي تعممت بعد استلام بشار الأسد للسلطة، والتي أفضت الى “انتصار” الانفتاح الاقتصادي سنة 2007، وسيطرة “رجال أعمال جدد” على الاقتصاد، وميل هؤلاء إلى التوافق مع أميركا، التي كان لها منظور آخر تمثّل في تشكيل نظم “طوائفية”، بالتالي كانت تسعى لرحيل بشار الأسد حينها لإكمال السيطرة على “الشرق الأوسط”. هذا “التناقض” فرض تشكيل “محور الممانعة” من كل من تركيا وقطر والنظام وإيران، مقابل المحور السعودي.
هذه الصورة فرضت أولاً انهيار الوضع المعيشي لقطاع كبير من الشعب بعد أن انتصرت اللبرلة (وهو ما كانت جريدة قاسيون التي يصدرها قدري جميل تكشفه بشكل منتظم)، وصل إلى حدّ أن باتت سورية أغلى بلد عربي سنة 2010. لكن لا بد من ملاحظة تحولات سنة 2010، حيث كان باراك أوباما قد بات رئيساً لأميركا، فأعيدت العلاقة مع النظام السوري، وكما صرّح السفير السوري في واشنطن فقد عادت الى أحسن مما كانت عليه قبل الخلاف الكبير بعد مقتل الحريري. مع ملاحظة أن العلاقة مع روسيا كانت هامشية، وحدود التبادل الاقتصادي كان ضعيفاً. والسبب يتمثل في أن الفئة التي استلمت السلطة مع بشار الأسد كانت تميل للتفاهم مع أميركا، ووظفت أموالها في الخليج (دبي)، ولم تكن معنية بعلاقة وطيدة مع روسيا رغم أن تفاقم الصراع سنة 2005 مع أميركا فرض بعض التقارب مع روسيا، لكن التقارب الأهم كان مع كل من تركيا وقطر.
كل هذه العناصر تنفي كل إمكانية لمؤامرة أميركية، بالضبط لأن النظام ذاته كان “يزحف” نحوها، ولهذا عادت العلاقة سنة 2010. ثم إن الثورات التي بدأت من تونس شكّلت ارباكاً كبيراً لأميركا، التي تعاني من أزمة مالية ضخمة ونظام اقتصادي رأسمالي مريض، حيث يمكن امتداد الثورات الى مناطق كثيرة. بالتالي كانت المشكلة في الصورة التي ارتسمت في الذهن حول وضع سورية ما قبل الثورة، وهي صورة مضللة بالضبط لأن الواقع السوري كان قد تحوّل كثيراً منذ تسعينات القرن العشرين، وبالخصوص بعد استلام بشار الأسد السلطة.
المسألة الأخرى التي جرى ترويجها ضمن الخطاب الإعلامي للنظام عن قصد هي مسألة “خط الغاز”، هذا الخط الذي يُبرِّر به حبك المؤامرة من قبل قطر وتركيا خصوصاً. فرغم أن العلاقة مع البلدين كانت في قمة تألقها، وحيث حصل كل منهما على مشاريع اقتصادية كبيرة، وجرى توقيع اتفاق تحالف إستراتيجي، (وكانت هذه العلاقة هي جزء من عملية تعميم اللبرلة لمصلحة “رجال الأعمال الجدد” وهاتين الدولتين)، وكان يمكن أن يحصلا على كل ما يريدان ما دام رجال الأعمال الجدد (وجلهم من العائلة) سيكونون “في الصورة”، اي شركاء بشكل ما. وخصوصاً أن العلاقة مع روسيا لم تكن في مستوى العلاقة هذه مع البلدين بل أدنى.
لهذا كان الترويج لخط الغاز كونه السبب في المؤامرة، نكتة. بالضبط لأن النظام كان في “تحالف وثيق” مع كل من قطر وتركيا. رغم ذلك، ولأن هناك من يتناسى التاريخ، ويتقولب مع الخطاب الرائج الآن، سوف أعيد ذكر ما قاله بشار الأسد من فترة قريبة في مقابلة له، حيث أشار الى أن خط غاز الشمال الجنوب (وهو الخط الذي قيل إن المؤامرة قامت من أجله، والذي يعني مدّ خط غاز من قطر الى تركيا) لم يطرح عليه، بل طرح خط شرق/ غرب، أي خط الغاز من إيران الى المتوسط، وأشار الى أنه وافق عليه سنة 2010. وهذا الخط يبدأ من حقل غاز إيراني قطري مشترك في الخليج، وكان المشروع هو مشروع قطري إيراني بالأساس، أثار حفيظة أميركا لأنه يفض الحصار عن إيران.
إذن، هذا “السبب في المؤامرة” الذي اخترعه إعلام النظام وبات أساس موقف الكثير من اليسار مع النظام، ظهر كما قال بشار الأسد كوهم، وأنه فعلاً اختراع إعلامي للضحك على الكثير من القوى.
المسألة الثالثة تتعلق بدعم السعودية وقطر للثورة، ربما لعبت قطر على دعم التغيير بعد أن فشلت تركيا في إقناع النظام بإصلاح ذاته لكي يستمرّ، حيث كان الوهم أن وحشية النظام ستجرّ تدخلاً أميركياً يفقد الدولتين مصالحهما في سورية. ودعمت سيطرة الإخوان المسلمين على المعارضة لكي تكون أساس النظام الذي يقوم بعد بشار الأسد، كل ذلك قبل أن تجري تحولات في الموقف نتيجة وضوح عدم التدخل الأميركي، بل كبح كل تدخل لدعم الثورة، وتقارب أميركا وروسيا الذي أظهر حينها أن أميركا تتنازل عن سورية لروسيا، وهو الأمر الواضح الى الآن.
لكن، هل كانت السعودية مع الثورة؟ السعودية التي وقفت ضد الثورات بدءً من تونس، وسحقت ثورة البحرين، وعقدت وضع اليمن لكي تفشل الثورة. في الواقع كانت السعودية في صف النظام، فرغم خطابها الإعلامي، ووجودها في مجموعة “أصدقاء الشعب السوري”، كانت تدعم النظام وتعمل ضمن تصوّر متوافق عليه، يقوم على دورها في تخريب الثورة. ربما كان هذا الكلام بلا سند سابقاً، لكن يمكن القول بأنه بات بسند قوي الآن، حيث صرّح بشار الأسد (وهو كثير الكشف عن أسرار يجهد النظام لإخفائها) بأن الملك عبد الله أرسل إليه ابنه خالد وطلب منه أن يسحق الثورة ويسحق الإخوان، واعترف بأن السعودية قدمت له ستة مليارات ونصف المليار دولار. ربما اختلف الأمر بعد سنة 2013 حيث سيطرت إيران على القرار السياسي العسكري في سورية، لكن كان دور السعودية هو تخريب الثورة ودعم استمرار النظام (وأصلاً كان الملك عبد الله قد صالح بشار الأسد في قمة الكويت سنة 2010، وقرّر له دعماً مالياً).
وهذا أمر في غاية “الطبيعية” لأن انتصار الثورة في سورية بعد توسعها العربي والتفافها حول السعودية يعني أنها باتت مهددة بالثورة. لكن لأن القطاع الذي يبرر للنظام لا يرى الثورة، ليس في سورية فقط بل في كل البلدان التي حدثت فيها، لا يلمس مواقف كل النظم التي أصابها الرعب من انفجار الثورة. ولهذا ينطلق من “الصورة الأولى” لما كان عليه الصراع قبيل الثورة، ويظل يتمسك بهذه الصورة في كل الأحوال.
المسألة الرابعة، التي نتجت عما آل إليه الوضع السوري، وباتت تجبُّ كل ما سبقها لأنها باتت تعتبر كافية لحسم الموقف مما يجري في سورية. طبعاً دون مراجعة أو تدقيق في كل المبررات السابقة التي دفعت لسوء الفهم الذي طال الثورة السورية، وكذلك كذب خطاب النظام الذي فضحه رئيسه في أكثر من خطاب أو مقابلة. حيث بات يُرسم الوضع وأننا أمام خيارين لا فكاك من اختيار أحدهما: إما النظام أو داعش والمجموعات “الجهادية”. فرغم أن هذا هو الشكل الأرقى لتوضيح طبيعة “المنطق” الذي يحكم، والذي ينبني على منطق صوري خالص، فإن بلورة الصراع في هذا الشكل تنمّ عن سوء فهم أكبر. وخصوصاً أن هذا التحديد يستتبع القول إن خلف داعش والمجموعات “الجهادية” تقف أميركا ودول إقليمية مثل السعودية وقطر وتركيا، في المقابل يجري تبرير تدخل حزب الله والميليشيا الطائفية العراقية والحرس الثوري الإيراني (الذي تدخل قبل وجود الإرهاب). رغم أن الاصطفافات الجديدة تشكك في ذلك، حيث باتت تركيا حليفاً لروسيا، وكذلك قطر وأيضاً السعودية، وحتى أميركا توافقت مع روسيا على أن تدعم الحل الروسي.
ولا شك في أن هذه الاصطفافات تكشف زيف خطاب تكرر كثيراً، وتوضّح أن الصراع ليس بين محورين بل كان تنافس مصالح رسى على الشكل الذي نراه. وهو الوضع الذي نتج عن تحولات العالم، و”ضعف” قبضة أميركا بعد أزمتها المالية، ونشوء إمبرياليات جديدة.
نعيد الى “التناقض الرئيسي” الذي يظهر أنه بين النظام والمجموعات “الإرهابية” (أي داعش والنصرة)، فهل كان هذا هو فعلاً “التناقض الرئيسي”، أو بالأصح هل كان هناك تناقض بين هذه المجموعات والنظام؟ بما يظهر الآن ألا تناقض أصلاً موجود، ولهذا ركّز النظام كل صراعه ضد الكتائب التي تقاتله، وبعض المجموعات السلفية (جيش الإسلام وأحرار الشام)، وأكثر على الكتائب التي توضع تحت يافطة الجيش الحر. فكل معاركه كانت في مناطق لا وجود لداعش فيها أو أن وجودها محدود (الجبهة الجنوبية، ريف دمشق، ريف حمص الشمالي وحلب الجنوبي، وحلب المدينة وإدلب). بينما كانت أميركا “تقصف” داعش وتشكّل القوى السورية لمقاتلتها (ومنها قوات سورية الديمقراطية، وبعض فصائل في الجيش الحر) وكانت تفرض عليها عدم قتال النظام.
وما بات يفضحه الواقع هو أن داعش والنصرة أدوات بيد العديد من الدول، وأن توافق هذه الدول أدى الى نهاية داعش، وسيتحقق إنهاء النصرة. لقد كانت هذه أدوات مساعدة لتخريب الثورة، وتشتيت قواها، وتخريب البيئة التي انطلقت منها. وهنا يظهر أن هذا التناقض هو تناقض موهوم، ومع الأسف جرى إحلاله بدل التناقض الأساسي بين الشعب والنظام، الشعب الذي بات يُسحق من كل هذه الأطراف، ويحاول مقاومتها كلها.
في الأخير، لقد جرى حرف النظر عن الشعب، وعن الثورة، نحو تناقضات أخرى، بعضها حقيقي وبعضها موهوم، أو مصنوع، لكن لا زال الشعب يحاول ان يغيّر رغم الصعوبة الكبيرة التي وقعت على كاهله، بعد أن باتت سورية محطّ صراعات إقليمية وتنافس دولي. وبات الحل بيد الدول الكبرى. لكنه الحل الذي لن ينهي الثورة الباقية.