جمال قارصلي _ طلال عبد الله جاسم
إن تآكل الوطنية السورية وانعدام الثقة المتبادل وعدم فهم مخاوف الآخر وأخذها بعين الاعتبار جعل روح الوحدة، والبحث عن الخلاص الجماعي في مهب الريح. مما فتح بوابات واسعة امام السعي للخلاص الفردي هروباً من المأساة السورية والذي هو من فطرة الإنسان. وما زاد الوضع حدة وسوءا هو ما قامت به بعض المجموعات في اللعب بعواطف الناس وتأجيج مشاعر القومية والمذهبية والطائفية وحتى المناطقية لديهم من أجل تحقيق اهداف وأجندات خارجية، حيث تحولت الساحة السورية إلى ملعب دولي تتصارع عليها الكثير من القوى الدولية لتصفية حساباتها، وأصبح السوريون مثل بيادق صغيرة ومرتزقة في وطنهم، تتحكم بهم هذه الدول بشكل مباشر أو عبر منظمات غريبة عن المجتمع السوري في منهجية الفكر والعمل.
هذه الحالة أنتجت طبقة واسعة من المقهورين السوريين، الذين لا يريدون الخوض في غمار صراع لا مصلحة لهم فيه، وأنه من الممكن أن يجدوا أنفسهم في خضم معارك لا تعنيهم وليسوا هم طرفا فيها، وأن هذا الصراع يهدد أمنهم وأمن عائلاتهم وأموالهم وأملاكهم. هذا كان السبب أو الدافع الأكبر والأهم الذي حرّض الكثير من السوريين على أخذ قرار ترك البلد، إضافة إلى أن الكثيرين هاجروا خوفا على حياتهم أو وقيمهم أو مبادئهم أو من أجل بناء مستقبل أفضل، وكما أن هناك من كان يطمح للعيش والاستقرار في أماكن أخرى ووجد الفرصة السانحة لذلك.
وهنا كان قرار الفرار بطرق فردية أو جماعية وحسب ما هو متوفر لكل فرد أو عائلة، مع اختلاف المسببات والخلفيات، حيث حدثت موجات نزوح كبيرة بين المناطق السورية، وكان هذا له علاقة في حدة القتال في تلك المناطق. وهنالك من نزح عدة مرات داخل سوريا، ولكن عندما وصل الكثيرون إلى القناعة أن الأمر سيأخذ مسارا طويلا، قرروا اللجوء إلى دول الجوار أو إلى بعض الدول العربية، حيث كانت دول الخليج والأردن ولبنان ومصر وتركيا هي مقاصد الأغلبية العظمى للسوريين، لأنهم أرادوا أن يبقوا قريبين من مناطقهم الأصلية، على أمل العودة القريبة. ولكن بعد تحولات الصراع ودخول المنطقة بأكملها في نفق مظلم حيث لم يعد يستطيع الخبراء ولا البسطاء رؤية النور في آخره، كان اتخاذ قرار الهجرة إلى ديار بعيدة أمرا لا مفر منه رغم أنه في غاية الصعوبة، ولا يمكن وصف تلك المشاعر التي تنتاب الفرد حينما يعلم أنه على سفر سيقتلعه من جذوره تاركا خلفه تاريخه وذكرياته، ولعل قول الشاعر يصف شيئا من هذا:
وتلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلب
إن شدة المأساة السورية خلقت موجة تعاطف إقليمية وعالمية كبيرة مع السوريين، مما أدى إلى فتح أوروبا أبوابها أمام اللاجئين السوريين واستقبال أعداد كبيرة منهم وخاصة ألمانيا. هذا الانفتاح شكل فرصة مناسبة لعدد كبير من الجنسيات الأخرى ومنها على سبيل المثال من افغانستان وإيران ودول الجوار السوري وبعض دول المغرب العربي، ومنهم من انتحل صفة السوري المنكوب، وكذلك فعل ذلك الكثيرون من المقيمين غير الشرعيين في أوروبا وخاصة في فرنسا وايطاليا.
موجات الهجرة
نهدف من خلال بحثنا هذا إلى ايجاد سبل تجعل البلدان المستضيفة للاجئين السوريين وكذلك بلدنا الأم سوريا تستفيد من موجة الهجرة التي حصلت والعمل على تحويل تبعات هذه الهجرة من عامل سلبي إلى عامل إيجابي، بغض النظر عما إذا عاد اللاجئون إلى سوريا أم اختاروا البقاء في مهجرهم. هذه معادلة صعبة ولكنها بجهود مخلصة وعمل جاد ستكون ممكنة وتجعل البلد المضيف والبلد الأم يستفيدان من طاقات أبنائهم المشتركين. هذا العمل يستلزم الوقوف بكل جدية ووضوح أمام الأخطاء والتحديات والتصرفات المسيئة للمجتمعين، حيث أننا نعلم أن أصحاب بعض الأيديولوجيات العنصرية والمتطرفة ستحاول استغلال ما نذكره هنا من أخطاء يقوم بها اللاجئون من أجل التحريض على المغتربين وتوظيفها لأهدافهم السياسية. لكننا نحن على يقين تام أن القضايا الاجتماعية الشائكة التي تحصل بين المهاجرين وأبناء البلد الأصليين يجب طرحها بشجاعة ووضوح وبشكل صريح، ونقاشها بشكل بناء ومستفيض من أجل الوصول إلى حلول مشتركة، وذلك قبل تفاقمها وانفجارها مسببة عواقب وخيمة جدا على المجتمع. التوترات التي تحصل يجب تسليط الضوء عليها، ولا يجوز إهمالها أو تجاهلها بحجة استغلالها من هذا الطرف أو ذاك. لذلك لا بد من طرح هذه القضايا ومواجهتها مع الشركاء من أبناء الدول المضيفة لتعميق التواصل وإيقاف بناء الجدران فيما بينهم. وحتى لا تتحول إلى قضايا مستعصية، يصعب حلها في المستقبل.
القارة العجوز
نركز في بحثنا هذا على اللاجئين السوريين في أوروبا، حيث تمركز عدد كبير منهم، في بلدان هذه القارة العجوز. من المعروف أنه في أغلب الدول الأوروبية تقدم مساعدات اجتماعية للمواطنين العاطلين عن العمل أو عدم القادرين عليه، وينطبق هذا أيضا على اللاجئين، حيث تغطي هذه المساعدات الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة من سكن وطبابة وتعليم، إضافة إلى مبالغ مالية تساعدهم على المصاريف الضرورية، ومبالغ مخصصة لرعاية الأطفال ولتلبية احتياجاتهم، ويطلق بعض اللاجئين على المبالغ النقدية المدفوعة لهم تسمية «الراتب».
يحاول الكثير من السوريين التوفير من هذا المبلغ، رغم صعوبة ذلك لأن هذا المبلغ يتم حسابه بشكل دقيق جدا من قبل الحكومات وهو لإيفاء مستلزمات الشخص نفسه، بحيث لا يشمل مبالغ إضافية لمن ينبغي على هذا الشخص أن يساعدهم، ورغم ذلك فإن أغلبية اللاجئين يقومون بتخصيص مبالغ بسيطة شهرية أو شبه شهرية لمساعدة أهاليهم في سوريا، أو في دول الجوار. ونظرا لتعقيدات عمليات التحويل المالية تتم هذه الحوالات بطرق غير رسمية، وهي تشكل مبالغ ليست قليلة حينما يُؤخذ بعين الاعتبار عدد اللاجئين والمغتربين الذي يقارب مليوني سوري في أوروبا، ولكن لا يوجد أي أرقام رسمية حول تكلفة هذه الحوالات المالية. ويلجأ اغلب اللاجئون لهذا الخيار لسببين، السبب الأول هو ارتفاع أجور التحويل، أما السبب الثاني فهو المعوقات القانونية والمصرفية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المبالغ التي تدفع للاجئين في الدول الأوروبية تختلف من دوله إلى أخرى، وبمقارنة بسيطة بين المساعدات المالية التي تدفعها مختلف الدول الأوروبية للاجئين أو الخدمات العينية المقدمة لهم نجد أن المبلغ المدفوع متقارب رغم الخلافات الظاهرية في المبالغ النقدية المدفوعة بشكل مباشر، وهذا يعود إلى اختلاف قوانين المساعدة الاجتماعية ومساعدة العاطلين عن العمل من دولة إلى أخرى. فعندما يزداد الدعم النقدي في دولة ما ينقص مقابله الدعم العيني والخدمات، والعكس صحيح.
ساد جدل بيزنطي بين السوريين حول أسباب قبول الدول الأوروبية أعدادا كبيرة من اللاجئين السوريين الواصلين إليها عبر الهجرة غير المنظمة، أو عبر الأمم المتحدة وبرامجها، أو عبر موافقات بعض هذه الدول على استقبال فئات معينة من اللاجئين وفق شروط محددة، أو عبر غض النظر عن ضبط الحدود أمام المهاجرين، وقد نوقش هذا الموضوع طويلا إضافة إلى موضوع الجهة التي تمول هذا الاستقبال، وكان واضحا أن القلة منهم يعرفون كيف تمول الدول الأوروبية نفقات اللجوء والاندماج والبرامج الأخرى.
سنبحث ما يهم اللاجئين والمهاجرين في سبعة أبواب رئيسية بشكل مفصّل وهي:
اولاً: أهم أسباب قبول عدد كبير من اللاجئين السوريين في دول كثيرة والتسهيلات التي قُدمت لهم.
ثانياً: كيف يتم تمويل اللاجئين ومن يتحمل العبء الأساسي لذلك.
ثالثا: توجهات اللاجئين بخصوص مستقبلهم في أوروبا.
رابعا: نصائح مهمة للاجئين من خلال تجارب ذاتية.
خامسا: الأخطاء التي تقوم بها الدوائر الرسمية تجاه اللاجئين والمهاجرين.
سادسا: استمزاج آراء حول فرص العودة.
سابعا: مقترحات لتحسين ظروف اللاجئين والدول المستضيفة.
نعلم أن للهجرة تأثيرا كبيرا على حياة الإنسان، وهي تشكل نقطة تحول كبيرة وربما تساوي ساعة ولادته.
المهاجر لا يرحل بجسده وحقيبته فقط بل يحمل معه عاداته وتقاليده وقيمه التي نشأ وتربى عليها ويذهب إلى مجتمع جديد له كذلك عاداته وتقاليده ومعاييره وقيمه وقوانينه التي تحدد العلاقة اليومية بين أفراده ومكوناته. هذه العادات والتقاليد يكتسبها المجتمع عبر سنين طويلة من خلال تجاربه اليومية، متأثرا بما يحيط به من ثقافات وديانات وحضارات وعوامل مناخية وبيئية.
على اللاجئين أن يعلموا أن المجتمع الأوروبي لا يعرف الكثير عن حضارة وعادات وتقاليد المجتمع الذي ننتمي إليه، وربما ما يعرفه عنا هو ما يراه ويقرأه في وسائل الإعلام والتي منها المنحاز إلى جهات سياسية متطرفة أو التي لا تنشر إلا ما هو مثير للدهشة، ولكنه سيلتقي كذلك مع أشخاص من أبناء البلد الأصليين يتسمون بصفات إنسانية عالية، وبالمقابل سيجد أشخاصا آخرين يظهرون له الحقد والعداء والكراهية بدون سبب. ما يقوم به اللاجئ من أعمال ملفتة للنظر أو غير مألوفة وربما مخالفة للقانون سيتم تعميمها ليس فقط على كل أبناء بلده بل وعلى كل المنحدرين من أصول أجنبية.
هنا تقع على كل لاجئ مسؤولية أخلاقية كبيرة تجاه أبناء جلدته وكذلك تجاه مجتمعه الجديد في العمل على دعم التعايش السلمي والتفاهم بين الشعوب وعليه أن يتصرف وكأنه سفير غير مسمى لبلده الأصلي في مجتمعه الجديد.
المصدر: القدس العربي