حذام زهور عدي
ما كان يخطر ببال النساء اللواتي خرجن في نيويورك وواشنطن عام 1856 محتجات على الظروف غير الإنسانية التي يعشن بها سواء في منازلهن أو في المعامل التي كن عاملات فيها، أن مظاهراتهن تلك سيخلدها العالم كبدايةٍ لنضالٍ نسوي طويل، وأن المرأة ستحكم أهم دول العالم بعد ذلك، لاسيما أن الصوت النسوي ذاك غاب بعدها ما يقرب من نصف قرن حتى عاد في 8 آذار من عام 1908 على يد عاملات النسيج الأمريكيات اللواتي أضربن عن العمل ثم خرجن بالشوارع يرفعن الصوت عاليا من أجل ظروف إنسانية أفضل.
لكن التوحش الرأسمالي العنصري قابل تلك المظاهرات بالعنف وقتل عدداً منهن….ومع عودة العاملات للعمل ظهرت حركة نسوية أمريكية هدفها التركيز على حقوق المرأة الإنسانية في العدالة والاحترام والمساواة، واستمرت هذه الحركة تنمو ببطء حتى تلقفتها الثورة الاشتراكية عام 1919 ثم عممتها على الدول الاشتراكية وأنشأت لها تنظيمات مختلفة مرادفة للأحزاب الشيوعية واليسار العالمي تحت اسم “الاتحاد الديموقراطي العالمي للمرأة” الذي عقد مؤتمره في باريس عام 1945، وأعلن فيه اعتماد يوم الثامن من آذار يوماً لتكريم المرأة ومتابعة النضال لتحقيق مالم يتحقق حتى وقته. ثم تبعته الأمم المتحدة في اعتماد اليوم نفسه، في السنة نفسها.
ومع أن ماتحقق حتى اليوم ليس بالقليل ومؤتمر المرأة الذي عُقد بالصين وصدرت عنه وثيقة السيداو لم يترك نص الدستور الذي عُرف فيما بعد، بدستور العشرين، على مساواة الأجور بين الجنسين للعمل نفسه، وبحق الاشتراك بالانتخابات الوطنية للنساء أمراً لم يتخذ توصية ملزمة به.. استطاعت المرأة اختراق عالم الرجال بالمناصب السيادية، سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً …بمقدرة وكفاءة يعجز عنها مَن يماثلها مِن الرجال…لقد مر نضال المرأة عالمياً بقرن كامل حتى استطاعت أن تحقق ما كانت عاملات أمريكا قد رفعن الصوت من أجله.
أما المرأة السورية، فقد نالت حقوقاً سبقت فيها كثيراً من نساء العالمين الأول والثاني، ذلك بعد الحرب العالمية الأولى وحصول سوريا على دولة الاستقلال عام 1918 نص الدستور الذي عُرف فيما بعد، بدستور العشرين، على مساواة الأجور بين الجنسين للعمل نفسه، وبحق الاشتراك بالانتخابات الوطنية للنساء، مما أعطى المرأة السورية دافعاً قوياً للاشتراك النضالي ضد الاحتلال الفرنسي، فنشطت في تنظيم المظاهرات الضخمة التي سارت في شوارع دمشق استنكاراً لقصف المدينة عام 1925، وكانت قد بدأت بتشكيل جمعيات ونواد وصحافة مارست خلالها نخبة وازنة من السوريات دوراً حضارياً مميزاً، وقد تكون المناضلة عادلة بيهم الجزائري نموذجاً واضحاً، فقد شاركت مع سوريات أخريات في تأسيس جمعية “يقظة المرأة الشامية” عام 1920، وتابعت في تأسيس جمعية دوحة الأدب التي نالت شهرة مميزة ،عام 1928 ثم انتخبت عام 1933 رئيسة للاتحاد النسائي العربي السوري ولقبت بأميرة الرائدات العربيات، ولم يمنع عملها الاجتماعي من اشتراكها بالنضال القومي والسياسي مما يحتاج بحثاً خاصاً، وكانت الصحفية ماري العجمي قد أصدرت أول مجلة للمرأة السورية تحت اسم “العروس” عام 1910 ثم تابعت عملها مع نخبة من السوريات في الرابطة الأدبية الطليعية عام 1922، انخرطت السوريات بعدها بالعمل المدني وبخاصة في مجال الجمعيات الأدبية، والمدنية حتى حصلت على حق الانتخاب مجددا مع شرط الشهادة الابتدائية عام 1948 ثم ألغي ذلك الشرط وأضيف حق الترشح في دستور الخمسين.
عندما تولى البعث حكم سوريا لم يبن عملاً نسوياً على ذلك التاريخ الكبير للمرأة السورية ولم يستفد من تراكم نضالها، بل عمد إلى الأسلوب الذي كان متبعا في الاتحاد السوفييتي، فشكل منظمات ملحقة به، لتمكِنَه السيطرة التامة على كل كبيرة وصغيرة في المجتمع والدولة، وكان الاتحاد النسائي واحداً من تلك التنظيمات التي صَدَرت شعارات إعلامية بمبالغات مذهلة ُعن عطاءات القائد الأوحد للمرأة السورية، كتوليتها مناصب وزارية شكلانية، أو إدخال عددِ لافت منها مجلس الشعب الفاقد العلاقة مع الشعب، دون أن يستطيع حل أية مشكلة تعاني منها السوريات سواء في قوانين الأحوال الشخصية العثمانية أو القوانين الأخرى… مما اضطر نخبة محدودة لمحاولة تشكيل مجموعات مستقلة عن النظام للعمل من أجل تلك الحقوق كمجموعة “الدفاع عن قضايا المرأة” أو مجموعة “نساء ديموقراطيات” وغيرها.. لكن تلك المجموعات لم تستطع أن تقدم أكثر من نشاط ثقافي بسيط بسبب محاصرتها من جهة ونخبويتها من جهة ثانية، وعندما حاولت نساء منها الاشتراك بلجان إحياء المجتمع المدني التي انتشرت أوائل تولي بشار الأسد الرئاسة عام2000 نالها القمع الذي نال اللجان، وهكذا بقي الاتحاد النسائي الموالي للسلطة المغرد الوحيد في فضاء العمل النسوي، ومع انتشار ردات الفعل على الطائفية والتحرر المزيف ظهر بين السوريات تيار يغرق بنوع من التدين المعزول عن المشكلات الواقعية ويلقى قبولاً وترحيباً من السلطة الحاكمة، عُرف بالقبيسيات، وهكذا ارتد نضال المرأة السورية نحو الوراء بعدما كان يعمل جاهداً للتطوير والتغيير باتجاه الحداثة والرقي الحضاري، وبدلاً من الورود التي كانت النخبة تقدمها لنسائهم أو لنساء المعتقلين والشهداء تكريماً لهن وتجديداً للمحبة في ذكرى يوم المرأة العالمي “8 آذار”، ظهرت فتوى بتحريمها لأنها بدعة غربية “وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة بالنار…”
تفجرت الثورة عام 2011 ولعلعت صرخة النشور، وكان تلبية المرأة السورية لندائها مدهشاً، لم تقتصر على مظاهرات الشوارع أو حماية الناشطين، بل تكسرت أقفال المنازل وأخرجت مافي بطونها، موجات متلاحقة من نساء طال انتظارهن كسرها، وارتفعت أصوات الفتيات يطالبن بالحرية والكرامة جنباً إلى جنب مع أخوتهن الشباب، ورويت قصص عنهن في درعا وحمص وحماة ودمشق تعجز مجلدات عن وصفها ..عدا عن مبادراتهن بالإغاثة والعمل المدني الفعال ….كان لا بد من هتاف الحرية والكرامة حتى ينكشف زيف الدعوات الضالة المضللة، وحتى تعيد السورية دورها الحقيقي في الحياة ،وتقضي على تهميشها الأبدي..
أما النظام الأسدي ” نصير تحرر المرأة” فلم يكتف باعتقال المناضلات وزوجات المناضلين أو قريباتهن والتنكيل بهن وممارسة أبشع أنواع التعذيب والاغتصاب كعقوبة لهن ولهم، بل حوَل عدداً غير قليل من نساء التيارات الموالية إلى قاتلات متوحشات أو متحررات تحرراً مزيفاً يقتصر على كل ما قدمته الحياة الاستهلاكية من مظاهر سلبية تعيد المرأة إلى شكل حديث من العبودية كرمز للجنس ومظاهر الاستهلاك الرخيص…
حتى في المفاوضات التي أجراها السيد “ديمستورا” وطلب نساءً يمثلن المجتمع المدني سارع النظام لتقديم مجموعة من نخبة المواليات والرماديات اللواتي يعشن مع الأسد في برجه العاجي، لتمثيل المرأة السورية، مما دفع ناشطي الثورة لتشكيل وفد مقابل حاول تقديم دراسات ومشاريع تغطي المجتمع المدني وقضايا المرأة مع أنه بقي أيضاً في نطاق النخبوية.
من يريد معرفة واقعية وموضوعية لحالة المرأة السورية اليوم …فليتابع الكم الهائل من كتاباتها على البرامج الإلكترونية وسيجد فيه من إبداع الأدب والفن والشعر والحكاية ما يملأ مجلدات، وليتابع لهاثها في البحار والفيافي لإنقاذ أطفالها من الهلاك تحت القصف المجنون، وليفتش عنها في مخيمات اللجوء التي يقف أولاد الأسد شامتين بتحويل طفولتها إلى نخاسي العصر بيعا وشراء.
في يومك أيتها السورية الرائعة لن تكفيك ورود العالم كله، لأنك وردته الأجمل…لخنساوات العصر…لك في معتقلك، لك في مخيماتك، لك في عملك التطوعي في الإغاثة الطبية وإنقاذ الأطفال من التجهيل لأنوثتها في أسواقهم، أو ليزر المعتقَلَات، إن استطاع، وليسأل كم منهن استشهدت تحت التعذيب أو فقدت عقلها أو مازالت تعاني الأمرين صابرة صامتة.. ومن حالفها الحظ ووصلت إلى المهاجر، سيراها تبحث عن خيوط نسيج عائلتها الممزقة ومن كانت لاتزال في منزلها بالوطن تعلكها الحاجة والوجع لفقدان المعيل أو الأولاد أو المعين في مجتمعٍ انهار فيه كل شيء….
في يومك أيتها السورية الرائعة لن تكفيك ورود العالم كله، لأنك وردته الأجمل…لخنساوات العصر…لك في معتقلك، لك في مخيماتك، لك في عملك التطوعي في الإغاثة الطبية وإنقاذ الأطفال من التجهيل، لك في عزة نفسك مع الحاجة والفاقة، لك في مهجرك.. لك في كل مكان أنت فيه…ورود العالم.
لك يا أميرة الفن الحر المؤمنة حتى النخاع بسوريا العظيمة، لك مي سكاف… لك يا أميرة الإنسانية، السورية الحرة راوية الأسود.. لك أيتها العزيزة رزان زيتوني ولرفيقتك سميرة الخليل ورود الحرية والكرامة من رجال العالم الحر ونسائه…وعهداً لمتابعة ما عانيتما من أجله…
وكما حققت المرأة العالمية أحلامها بعد قرن ستحقق المرأة السورية ليس فقط أحلام الحرية والكرامة وإنما ستكون طليعة نساء العالم في التخلي عن المنطق الذكوري في ممارسة العنف والحروب، وفي العمل من أجل العدالة والسلام الإنساني، تلك هي الأهداف التي تليق بالمرأة، لتلك المرأة الجديدة.. ورود العالم كله.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
Comments 1