نائل بلعاوي
هل هو الخامس عشر من آذار / مارس 2011؟ الرابع عشر منه. أم الثامن عشر؟ وأين كانت الشرارة الأولى: درعا، خربشات الأطفال على الجدران؟ الحريقة، دمشق؟ حماة؟ أم في جميع القلوب التي كابدت وتحملت لعقود وعقود ثم انفجرت؟ قد يختلف السوريون طويلاً حول المكان والزمان المحددين لولادة ثورتهم، وقد يواصلون السجال حولهما، إلى حين يحسمه المؤرخ في يوم ما على هواه، ولكن السجال في عمقه الفعلي لا يهم كثيراً ولا يبدل من الحقيقة الأم شيئاً: قامت الثورة، وكانت جميلة، بارعة وجريئة.. ثم صارت حزينة!؟ صارت حزينة.. ولكنها قامت وانطلقت وفككت قيداً لم يكن سهلاً أو قابلاً للتفكيك.. أو هكذا ظن الطغاة. والطغاة لا يعرفون التاريخ ولا يتقنون فنون قراءة أسراره، ولكنهم يعرفون، وتلك واحدة من الصفات الذكية والوحيدة التي يتقنون، أن الثورات وإن تشابهت، تختلف أيضاً. والثورة السورية مختلفة عن مثيلاتها ما بين المحيط والخليج، لا لأنها وقعت ضد نظام هو الأكثر شراسة وتوحشاً في الكون، ولا لأنها محض محاولة للتغيير في واقع سياسي قائم واستبداله بآخر، بل، وإضافة لذلك، هي محاولة عظيمة للامساك بالحبل الذي يجر قاطرة التاريخ إلى حيث عليها أن تذهب في تلك المنطقة المظلمة. هي محاولة لترتيب السياقات الكبرى هناك، ثقافية اجتماعية سياسية واقتصادية، في جميع المطارح العربية أقصد وليس في سوريا وحدها. وهي ضربة متقنة لخلخلة واحد من الأعمدة الأهم التي يقوم عليها الاحتلال الاسرائيلي المجاور لفلسطين: حماية الحدود وقمع من يناضلون ضد الاحتلال. هي ثورة سورية ضد ذاك الاحتلال البغيض كذلك. ضد ثقافة الاستبداد بالمجمل. ضد فكرة السلطة الأبدية المتوارثة والمحمية بتعاليم الآلهة التي شوهت واختزلت في صيغة واحدة، هذه العنيفة التي نعرفها في بنية تلك الأنظمة الحاكمة. لهذا ولغيره سالت الدماء بكثرة غير مسبوقة في مسيرة هذه الثورة، ولهذا لم تنتصر حتى اللحظة، ولهذا اجتمعت شياطين الأرض على قتلها. لأنها مختلفة ومفصلية بالمجمل.. هي، هنا بالضبط، شبيهة حد الادهاش بالثورة الفرنسية، لها مثل خطاها ومؤثراتها ومعانيها. ألم تقم الأولى لتخرج فرنسا، والقارة الأوروبية معها، من وحل عصور الظلام، ألم ترغب بتحقيق أفكار العدالة والمواطنة وإعادة كتابة التاريخ من جديد. ألم تعرف مواجهة دموية جعلتها تستمر لعقد كامل إلى حين انتصارها الأولي.. الأول وليس النهائي الذي سيطول انتظاره.. ولكنه تحقق. للثورة السورية ما كان لنظيرتها الفرنسية تلك، هي بذات قيمتها، وهي مثلها، في موضع الخلاف حتى اليوم حول تحديد موعدها الدقيق. هل هو الخامس من مايو 1789، أم الرابع عشر من تموز، اقتحام الباستيل؟ لا يهم، المهم هو أن الثورة الفرنسية انتصرت وتحققت، ومثلها سوف تفعل السورية، ولا يهم السجال الآن حول موعدها الدقيق، ولا مكانها الصحيح. زمانها هو وقتنا هذا وكل وقت، ومكانها هو القلوب التي كابدت وتألمت وفككت قيودها في تلك الأيام الخالدة من آذار 2011. عشية الربيع، قبل انبثاقه العظيم بلحظات. ليكون الربيع زمانها ومكانها ومحطتها الأخيرة التي تنتظر.