أحمد مظهر سعدو
تلج الثورة السورية/ ثورة الحرية والكرامة عامها التاسع بعد أيام، في عملية تسجيل تاريخية تشير إلى أنها من أكثر الثورات دراماتيكية، ومن أوضحها استمرارية أيضًا، ومن أكثرها تدخلاً خارجيًا كذلك، وبينما يقترب موعد إتمام العام الثامن للثورة السورية، يبقى الحديث عن مآلات هذه الثورة ملحاحًا، ومشروعًا. ويبدو أن كينونة الثورة ووجودها، يؤشر إلى جملة تغيرات قد تكون من مساراتها في مستقبل الأيام.
عن مآلات الثورة السورية وكيف يُنظر إلى مآلات الثورة، وما وصل إليه حالها، ومن يتحمل المسؤولية فيما آلت إليه وقائعها؟ وما المطلوب من المعارضة السورية اليوم ونحن نلج إلى العام التاسع منها؟ وهل مازال الناس واثقون بانتصار ثورة الشعب السوري؟ ومن ثم كنس الاحتلال الأسدي للوطن؟ جرى الحديث مع مجموعة من كتاب وباحثين عاشوا الثورة وانخرطوا فيها جملة وتفصيلًا، انتماءً وتفكرًا.
الكاتب السوري محمد خليفة قال لجيرون ” ليس هناك (موديل) موحد للثورة. فلكل ثورة في التاريخ خصوصياتها وسماتها التي تتميز بها. والثورة السورية مثال واضح على الاختلاف والتميز. ولنتفق أيضًا على أن الانتفاضة الشعبية التي بدأت في منتصف آذار/ مارس 2011 هي ما نعنيه حين نتحدث عن (الثورة السورية)، غير أن الوصف ليس دقيقًا من الناحية العلمية، لأن تعبير السوريين عن رفضهم للنظام الاستبدادي القائم بالنزول للشارع وتظاهراتهم الغاضبة اتسمت بالعفوية والتلقائية والعشوائية، وليست ثورة بالمفهوم العلمي، وإنما هي تعبير عن (حالة ثورية) تعتمل في أوساط المجتمع بكل طبقاته وفئاته. وكان ينبغي ترشيد هذه الحالة وتنظيمها بخلق (أداة ثورية) منظمة ومنضبطة وموحدة، تقود الجماهير الثائرة وتعبئ طاقاتها وتوظفها في استراتيجية شاملة، وخطة عمل سياسية واجتماعية واعلامية (وعسكرية إذا اقتضت الضرورة). ومن البدهي أن بناء أداة الثورة الموحدة شرط موضوعي حتمي لانتصار الثورة، فالثورة لا تنتصر بالعواطف بل بالعمل المنظم الرشيد. وهذا ما افتقدته تجربتنا حتى الآن. وما حدث في الواقع هو أن الانتقال المطلوب من الحالة الثورية العفوية إلى الثورة المنظمة الموحدة لم يتحقق، بسبب عجز النخب والقوى التي تصدت لقيادة الانتفاضة على المستوى السياسي عن إنجاز هذه المهمة المفصلية ، فبقيت الحالة الثورية منفلشة وعشوائية وعاطفية تفتقر للبناء التنظيمي الموحد والأداة والقيادة ، كما تفتقر للرؤية الاستراتيجية للتحرك في الداخل الوطني والخارج الدولي ، فخسرنا رهان العالم علينا ودعمه ، مما سمح للنظام استغلال أخطائنا ونقاط ضعفنا، وجعله بلا بديل مقنع للآخرين، وخيارًا أقل سوءً من الصوملة والأفغنة التي كنا نتجه إليها بقوة” .وعن المستقبل أكد خليفة ” أن الثورة السورية كحالة رفض شعبي لن تتراجع ولن تستسلم، بل ستستمر وتتجذر، وهي تمر حاليًا بمرحلة مراجعة لتجربة الثماني سنوات، وباتت قوى الثورة الشعبية تدرك وتعي أنه لا بد من خلق ( أداة للثورة ) ووضع استراتيجية وطنية ثورية واقعية موحدة يتم عليها تأمين الاجماع الوطني، وتوحد كل القوى وتفرز قيادة ثورية حقيقية ذات كفاءة وأهلية وشرعية، تنضوي وراءها كل الفصائل والأطراف وتلتزم باستراتيجيتها وقراراتها . كما أعتقد أن النظام قد سقط منذ عام 2011 وتكرر سقوطه مرة بعد أخرى خلال السنوات الثماني، وبقاؤه حتى الآن في السلطة ليس دليلًا على شرعيته وصلاحيته ناهيك عن انتصاره، إنه أشبه بميت تأخر دفنه وإعلان نعيه. نحن أمام حالة ليست نادرة في التاريخ بل سبق أن حدثت في بلدان عديدة تتلخص في أن هناك مخاضًا صعبًا ومعقدًا يؤخر ظهور الجديد الذي لا بد أن يولد، ولكن شروط ظهوره لم تكتمل، وهناك بالمقابل قديم مات كلينيكيًا وموضوعيًا، لكنه لا يريد أن يرحل، وهناك من يؤخر ترحيله ودفنه لارتباط مصالحها بوجوده ولو ميتًا وعاجزًا. ولا بد أن يكون واضحًا أن الثورة السورية التي أعنيها ليست إسقاط الأسد ونظامه التوتاليتاري، ولكنها ثورة عميقة تغير المفاهيم والنظم والاستراتيجيات الوطنية، وتغير موضع سورية ودورها ووظيفتها في محيطها، وفي العالم. وهذا البعد في الثورة السورية هو ما جعل أعداءها الأقوياء في العالم يقفون ضدها ويتآمرون عليها”. لكنه أشار إلى أنه ” لا بد أن نلاحظ أن الثورة السورية ما زالت قوية ومؤثرة، وقد استعادت اعتبارها في ضوء تأثيراتها في ثورة الشعب السوداني وثورة الشعب الجزائري. هذه الثورات مدينة للثورة السورية، وتحمل إشعاعاتها وجيناتها، وهي ستستمر في هذا التأثير حتى تعم المنطقة كلها بما فيها إيران نفسها، فالعامل السوري هو المؤثر الأول في انتفاضات الشارع الايراني وسيكون أحد أبرز أسباب تفجر تناقضات المجتمع الايراني مع نظام الملالي والثورة عليه لإسقاطه بسبب جرائمه في سورية. ثورتنا مستمرة، حتى تتغير المفاهيم الوطنية، والمعادلات الاقليمية، ويتغير وجه المنطقة. وربما العالم!”.
تمام بارودي رئيس المنتدى الاقتصادي السوري أكد لجيرون أن ” الثورة الشريفة لن تتوقف ولم تهزم، ولن تهزم، وإن كان الثوار الحقيقيين توقفوا عن العمل فهو بانتظار أن ينهي الوصوليون بعضهم بعضًا، وهذا ما حدث ويحدث الآن سواءً على المستوى العسكري أو السياسي. بعد ذلك ستعود الثورة إلى الساحة بوضع جديد وقد تخلصت من كل الخبث، فعلى المستوى العسكري ستبدأ بمقاومة سرية، وعلى المستوى السياسي سيفرضون نفسهم على الساحة الداخلية والدولية. وبرأيي لابد من تشكيل أحزاب بالداخل من الآن”.
أما الدكتور محيي الدين بنانا وزير التربية والتعليم السابق في الحكومة السورية المؤقتة فقال لجيرون ” تعتبر الثورة السورية من أهم الثورات في الوطن العربي وفي العالم، وعندما انطلقت كانت تطمح إلى الحصول على حرية المواطن وكرامته، وبالتالي فهي انطلقت ضد الديكتاتورية والفساد وكانت نقية بامتياز، إلى أن تدخل المال السياسي، الذي أثر بشكل كبير وساهم في تمزيق صف الثوار، وحول الجزء الكبير منهم إلى عصابات مسلحة وتكتلات سياسية مرتبطة بأجندات دولية تخدم مصالح تلك الدول ولا تخدم مصلحة الثورة والوطن، وهذا كان سببًا أساسيًا أدى إلى تراجع أداء الثورة السورية، والوصول إلى مانحن عليه من التشرذم، وفقدان البوصلة وارتهان القرار السوري بيد الغرباء”. وتابع يقول آسفًا ” أصبحت كل القضايا التي تتعلق بالوطن السوري يحسمها ويبت فيها غير السوريين، ولذلك لابد من استرداد الثورة وعودتها إلى صفائها ونقائها، واستلام زمام الأمور من جديد، وعودة القرار السوري للسوريين، وهذا لن يتأتى إلا بلقاء الشرفاء الثوريين، ووحدة كلمتهم وترك السلبية والإحباط، الذي أوصلنا إليه أعداء الثورة، وهم كثر داخليين وخارجيين، وبذلك نكون قد خطينا الخطوة الأولى لنجاح الثورة، والتي أعتقد بل أجزم بأنها ستنتصر على عصابة الأسد، وتطردهم وتطرد كل الغرباء والمحتلين من سورية الحبيبة بإذن الله”.
الباحث الفلسطيني السوري تيسير الخطيب قال بحرقة” ” الحديث عن مآلات الثورة السورية حديث ذو شجون، وخصوصًا عندما نتوقف أمام حجم التضحيات الكبيرة والمعجزة التي قدمها الشعب السوري الأبي على مذبح حريته وكرامته. ولا شك بأن تقييم الأوضاع التي وصلت إليها الثورة هو أمر شائك ومعقد، لكنه ليس عصيًا على الفهم والتقييم، فبقدر ما نبتعد عن التقييم العاطفي والانفعالي بقدر من نصيب كبد الحقيقة. وحتى نكون واضحين، فكل تقييم لا يأخذ الظروف الموضوعية التي أحاطت بالثورة بشكل خاص وسورية بشكل عام سيبقى تقييمًا منقوصًا، ولربما عاجزًا عن قراءة وفهم ما جرى وما آلت إليه الثورة السورية ونتائج الصراع في سورية وعليها. فالثورة السورية التي طرحت شعارات الحرية والكرامة والديموقراطية ودولة المواطنة والقانون، كانت هي الثورة الفاضحة التي عرّت الذين وقفوا معها، قبل أن تعرّي الذين وقفوا ضدها. وبكل اختصار لولا تواطؤ القوى الإقليمية والدولية التي ادعت دعمها للثورة مع النظام بالتغاضي عن سلوكه الإجرامي، وتوقفها التام عن تأييد مطالب الشعب ودعم ثورته، مما أخل في ميزان القوى بشكل كبير لمصلحة النظام، بينما كان حلفاء النظام يزجون بقدرات هائلة والمشاركة الفعلية إلى جانب النظام في الصراع ضد شعبه “. ويرى الخطيب أنه ” لم تكن الأطراف الدولية والإقليمية التي ادعت دعمها للثورة أصلًا تريد لها أن تنتصر، حيث إن الكثير من الأوساط المعارضة غذت الوهم بانحياز أميركي غربي إلى جانب الشعب السوري، بينما في الواقع كانت تلك القوى تسهل عملية تغلب النظام على شعبه، وإحكام قبضته الحديدية عليه. فلم يكن الذين ادعوا دعمهم الثورة مع ثورة حرية وديموقراطية، لأن هذا الطرح يقع في الضد من كل الاستراتيجيات الاستعمارية والرجعية إزاء بلادنا. وبالتأكيد ليست دول الخليج العربي من ممالك وأمارات النفط معنية بنصرة ثورة وطنية ديموقراطية، الأمر الذي يشكل لو انتصرت مثالًا يحتذى لدى كل شعوب الأمة، وليست الولايات المتحدة معنية بأي شكل بانتصار مثل هذه الثورة لأن هذا الانتصار لثورة وطنية ديموقراطية تأتي بسلطة منتخبة تعبر عن الجماهير ومصالحها ويهدد بالعمق أمن إسرائيل ومشروع الهيمنة الإمبريالي الصهيوني. فبينما كانت كل الاستراتيجية الأميركية مبنية على تمهيد مسرح الأحداث لإنجاز اتفاق نووي مع إيران، وعلى هامش هذا التوجه سعرت الصراع في سورية، وعملت كل ما من شأنه زيادة مستوى الصراع العسكري والسياسي وما تطلبه ذلك من توجيه دول الخليج للعب الدور الذي لعبته في سورية، وعندما تم توقيع الاتفاق النووي تركت الشعب السوري يواجه قوى اقليمية ودولية عظمى منفردًا. فالخلل بالنظر والتحليل إلى مواقف القوى الدولية والإقليمية وحقيقة موقفها من الثورة والصراع في سورية أسهم بل وسهل على هذه القوى العبث بالثورة ومستقبل الشعب السوري.
والذي حسم الموقف وجعل الثورة تنكفئ وتخسر عسكريًا وسياسيًا وجماهيريًا هو قبل كل شيء العامل الدولي والإقليمي. فالعامل الدولي في الصراع هو الذي غلب كفة النظام بعد أن علا صراخه في أيلول ٢٠١٥ وكان قاب قوسين من السقوط. ” وعن العامل الذاتي للثورة قال الخطيب ” ليس مقدرًا لشعب أعزل أن ينجح في إسقاط نظام إجرامي استخدم كل وسائل العنف والبطش مؤيدًا ببعد دولي كبير، ومعززًا بقدرات دولة عظمى أن ينجح في إسقاط ذلك النظام وإنجاز أهدافه، التي أعلن عنها دون دعم وتأييد طرف يكافئ بالقوة والقدرات، ومع عدم توفر مثل هذا الخيار فكان لا بد للشعب السوري أن يعتمد على قدراته الذاتية وبناه وأطره التي وبكل بساطة لم تكن مهيئة بالقدر الكافي لمواجهة كل تلك الظروف والقدرات .فالشعب السوري الذي عاش في قبضة الاستبداد ما يقارب الأربعين عامًا، والذي أغلق النظام في وجهه الأفق العام وأبعده بحد السيف عن ممارسة أي دور سياسي وثقافي حزبي أو نقابي حتى لو بدائي . ما حرم هذا الشعب من تكوين أحزاب ونخب وقيادات فكرية وسياسية، وأن يعتاد على تنظيم صفوفه وقدراته. فقد انطلق في ثورته بصدر عار إلا من الإيمان بمشروعية ثورته وعدالة مطالبه وأهدافه وشعاراتها لاستعادة حياته، التي حرم منها على مدى نصف قرن من الزمن. فكانت الثورة انفجارًا عفويًا وتعبيرًا عن أخص الاحتياجات الانسانية في الحرية والكرامة.
في هذا الوقت قصرت القوى السياسية والفعاليات والأطر المتشكلة حديثًا في خلق مركزٍ لقيادة الثورة وبلورة مشروع سياسي متكامل، وأن تبرمج وتخطط أعمال الثورة فكانت السمة العامة التي ميزت هذه التجربة العفوية والارتجال، وردات الفعل غير المحسوبة مما شتت الجهود والقدرات ومزق الصفوف، ومع تعقد الصراع وتزايد التدخلات الدولية زادت الهوة اتساعًا بين ما أراده الشعب لثورته والمعبرة عن وجدانه وأخلاقه وثقافته واحتياجاته، وبين ما ذهبت إليه الأوضاع على غير ما تمناه.” وتابع يقول ” لا بد من التأكيد على إعادة قراءة وتقييم هذه التجربة والخلوص إلى الدروس والعبر المستفادة ولابد للمعارضة السورية من إعادة بناء أداة الثورة انطلاقًا من المصلحة الوطنية الخالصة والتخلص من كل الشوائب التي لحقت بهذه التجربة وإعادة بناء مشروع الثورة كمشروع وطني ديموقراطي لكل مواطني البلاد، وإعادة تأسيس أوضاعها دون أوهام، لأن مشروع ثورة وطنية ديموقراطية في سورية هو مشروع مؤسس للتحرير والنهضة والوحدة، فهو مسؤولية تاريخية، وليس أمرًا راهنًا وعابرًا يمكن انجازه بالرهان على مشاريع الوصاية والاحتلال والتصالح مع الاستبداد، ويمكن لهذا النظام أو رأس النظام أن يسقط ضمن ظروف دولية واقليمية معينة، وهذا لا يعني أن الثورة انتصرت. فلكي تنتصر الثورة لابد أولاً اأن ننطلق من الوفاء للضحايا والشهداء وأن نكون مخلصين في رؤيتنا وعملنا. فالثورة هنا ليست لحظة، إنها مشروع ومنهج. كل التحية لذكرى الثورة السورية العظيمة والنبيلة وكل التحية لذكرى الشهداء فلا زالت دماءهم الزكية تنير لنا الطريق طريق الحرية والديموقراطية والكرامة الانسانية.”
المصدر: جيرون