سليم عبد الله الحاج
اندلعت المظاهرات الشعبية السلمية التي شهدتها الجزائر خلال الأسابيع القليلة الماضية احتجاجا على ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة جديدة في الانتخابات الرئاسية القادمة. ومع تزايد حدة الاحتجاجات، سارع بوتفليقة لتهدئة الشارع وخرج بتصريح يوم الاثنين الماضي، أعلن فيه عدم نيته للترشح لعهدة خامسة، حيث قال إنه “لا محل لعهدة خامسة، بل إنني لـم أنْو قط الإقدام على طلبها حيـث إن حالتي الصحية و سنّي لا يتيحان لي سوى أن أؤدي الواجب الأخير تجاه الشعب الجزائري، ألا وهو العمل على إرساء أسُس جمهورية جديدة”. كما أعلن في تصريحه تأجيل الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في نيسان/أبريل القادم، وإجراء تعديل وزاري شمل تعيين رئيس وزراء جديد وعدد من الوزراء. كما قرر منح اللجنة الوطنية الجامعة” السلطات اللازمة لإعداد حزمة جديدة من الإصلاحات التي ستشكل النظام الجديد.
وتعيد تلك الاحتجاجات للأذهان مشهد ثورات الربيع العربي والتي عبرت من خلالها شعوب المنطقة عن تطلعها للتغيير نحو الأفضل، وخرج الشباب -تحديدا- للبحث عن آفاق اقتصادية واجتماعية مستقبلية جديدة لا يمكن عزلها بأي حال عن القضايا السياسية الجارية. وعلى الرغم من أوجه التشابه بين الحالتين، إلا أن الوضع الحالي للاحتجاجات في الجزائر يتمايز بعض الشيء عما جرى في الدول الأخرى، حيث ساهم الطابع السلمي المتحضر لشكل الاحتجاج والتعامل الأمني المنضبط معه في عدم تحوله إلى مواجهات عنيفة. وللتأكيد على الطابع السلمي للاحتجاجات رفع المتظاهرون شعار “البوليس.. الشعب: خاوة خاوة” (أي أشقاء)، كما رفعوا شعار “الجزائر ماشي سوريا (أي ليست سوريا)”، كما اختار متظاهرون حمل الورود لأجل التأكيد على سلمية مسيراتهم التي عمت معظم أرجاء القطر الجزائري.
في تلك الأثناء، بعثت السلطات برسالة واضحة مفادها أنها لا تبحث عن التصعيد وتسعى لتسويق جديتها في تطبيق الإصلاحات الموعودة التي تحدث عنها بوتفليقة في تصريحاته الأخيرة. كما تسعى السلطة إلى الحفاظ على الأمور تحت السيطرة لتهيئة الجو المناسب لتحقيق الانتقال الحتمي الذي يختلف الفرقاء حتى الأن حول طبيعته هل هو انتقال سياسي بسيط يضمن خلافة الرئيس الحالي؟ أم هو انتقال عميق يضمن التواصل بين الغالبية من الشباب الجزائري وبين جيل الثورة؟ تلك الأمور تتناقض بالطبع مع ما حدث في دول الربيع العربي حيث كانت التحولات سريعة، وانتشرت الفوضى التي فرضت منطقها وأهلت قوى بعينها للاستفادة من الوضع مثل الإسلاميين في تونس والمجلس العسكري في مصر.
إن متابعة الموقف حاليا في الجزائر يحيلنا إلى استحضار محطة مشابهة في التاريخ، بعد أحداث أكتوبر 1988 وفي ظل وضع اقتصادي واجتماعي مضطرب مشابه تقريبا لما يحدث اليوم، حين كانت الجزائر في مفترق طرق وأمام حتمية الانتقال من نظام الشمولية والأحادية الحزبية الذي افل نجمه عالميا إلى نظام التعددية الحزبية الذي أصبح النموذج المثالي للدول بعد انهيار المعسكر الشيوعي.
وخلف هذا التحول السياسي كان الصراع محتدما بين الخيارات الكبرى للدولة وتوجهاتها، حيث كان هناك توجه إصلاحي داخل حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم يبحث عن إعادة تجديد السياسات الوطنية مع الحفاظ على هوية المجتمع، بينما كان التيار الاستئصالي الفرانكفوني يسعى لاستغلال مرحلة الانفتاح لإنهاء شرعية الحزب الثورية وتكريس شرعية جديدة تقوم على قيم غربية ودور أكبر للإدارة والمؤسسة العسكرية لرعاية عملية صلبة لتحديث المجتمع.
واللافت إن من يسمون بالحداثيين قد استفادوا بشكل غير معلن من الأصولية الإسلامية الصاعدة في حسم الصراع مع حزب الافالان ، حيث ساهم المتطرفون في استمالة الشارع والفوز بأول انتخابات تعددية تسببت في إدخال البلاد في عشرية سوداء أدت إلى تقويض أسس الدولة الوطنية سياسيا وأصبح الأمن هو الهاجس الأكبر مما أتاح للمؤسسة العسكرية و تكنوقراطيي الإدارة اعتلاء الواجهة وإبعاد حزب الافالان إلى الصفوف الخلفية.
وبعد مجيء الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، سعى طوال العقدين الماضيين إلى إحياء الطور الوطني عبر تمدين الحياة السياسية وتفكيك مراكز القوى السياسية والعسكرية المنبثقة عن الطور ما بعد الوطني (1992-2015). هذه التطورات جعلت الجزائر مؤهلة لولوج حقبة جديدة بعدما شارف عهد الرئيس بوتفليقة الانتقالي -بين مرحلتين -على النهاية، حتى وان استمر عمليا لبعض الوقت من اجل التمهيد للتحول القادم.
واليوم أمام حراك جماهيري حيوي وشارع لا يتكلم إلا عن السياسة بعد سنوات من الغياب وبعد أن أدركت السلطة أن الحلول الاقتصادية والاجتماعية الترقيعية لم تعد كافية للاستجابة إلى المطالب المتزايدة للجيل الجديد، لا مفر من التغيير لإرساء الانفتاح السياسي والتعددية الحقيقية لبناء هيكل مؤسساتي عصري يتماشى مع عملية تسليم المشعل بين جيليين.
لكن ذلك لن يتم بمعزل عن الصراع في الخلفية بين مشروعين استراتيجيين أحدهما وطني جديد يريد استئناف المسار الذي توقف سنة 1992 بمعطيات تتفق مع متطلبات العصر الحالي، وآخر يبحث عن استعادة مكاسبه التي فقدها في فترة بوتفليقة والانطلاق مجددا في طور ما بعد وطني يساعده على تطبيق أجندته الأيديولوجية والاقتصادية.
وعلى الرغم من إن موازين القوة نظريا هي في صالح المشروع الأول لأنه يحظى بدعم القيادة العسكرية الحالية، فان الطرف الأخير يراهن على استمالة الحراك الشعبي كورقة ضغط يستعملها عند الجلوس على طاولة الحوار في ورشة كتابة عقد اجتماعي جديد يؤسس لجمهورية ثانية، يتنافس على تبنيها الكثير من الفاعلين في الداخل والخارج، وستعتمد نتائج الحركة الاحتجاجية الحالية على الطرف الذي يمكنه تحقيق ذلك.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى