تيسير الخطيب
لم يتوقف يومًا النضال الفلسطيني منذ عشرينيات القرن الماضي، منذ أن افتضح امر اتفاقيات سايكس-بيكو التي مزقت المشرق العربي الى نتف قطرية يدور كل منها في فلك إحدى الدول الاستعمارية، فلم تكن فلسطين يوما عبر الحقب التاريخية المتعاقبة الا جزأ لا يتجزأ من سوريا الطبيعية، ولا غرو أن يكون المؤتمر الفلسطيني الأول طليعة المحطات النضالية الهامة والتي رفضت التقسيم والانتداب وطالبت بوحدة الوطن الأم وإزالة الحدود المصطنعة. وبعد حين لم يتسن للدولة المنتدبة على فلسطين من النيل من ثورات فلسطين الا بعد ان تمكنت من قطع صلتها عبر الحدود مع البلد الام سوريا بالتعاون الوطيد مع الدولة الاستعمارية المنتدبة على سوريا. وعلى امتداد ما يزيد على قرن من النضال تؤكد التجربة الكفاحية لشعبنا في مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني انه لا يمكن تحقيق انجازات تاريخية دون ارتباط هذا النضال بعمقه الطبيعي العربي وفي الاخص في عمقه السوري. فالفكرة الصهيونية في المدونات الصهيونية والاستعمارية استهدفت سوريا الطبيعية كلها، وقد بدأت مخططها في فلسطين لما وجدته من تبرير لعلاقة مزعومة اساسها ديني وهمي حول شعب الله المختار والارض الموعودة.
الصهيونية التي تأسست على فكرة (ارض بلا شعب لشعب بلا ارض (حاولت منذ الايام الاولى لنشاطها ان تنكر وجود الشعب الفلسطيني على ارضه وراحت تعمل بشتى الوسائل على نزع ملكية ارض الفلسطينيين بالتعاون والتواطؤ الكامل مع سلطات الاحتلال الانكليزي ومستخدمة شتى الوسائل القانونية وغير القانونية ومختلف الاحابيل، ولكن بالنهاية كل ذلك لم يستطع حسم الصراع على هوية الارض فحتى عام 1948 لم تستطع امتلاك أكثر من 5% من مساحة فلسطين حسب غالبية المراجع التاريخية.
لكن الذي حسم الصراع على هوية الارض والسيطرة عليها كان القوة العسكرية، هذه القوة التي رعتها بريطانيا العظمى والحركة الصهيونية باشد ما يكون الحرص لتقوم بأداء هذه المهمة، مهمة انتزاع الارض وحماية الاستيطان الصهيوني بشكل اساسي، ثم تاليًا لتكون اداة وثكنة عسكرية للسيطرة والتحكم في سائر ارجاء المشرق العربي والوطن العربي.
ولقد ظل الدفاع عن هوية الارض الهدف الرئيسي لنضال الفلسطينيين قبل النكبة وبعدها، فما يعرف باسم النكبة هي تلك الكارثة التي اسفرت عنها حرب 1947-1948 والتي كانت يد التآمر والتخاذل العربي تعبث بمآلاتها بالتعاون والتواطؤ مع الدول الاستعمارية والحركة الصهيونية. ما أسفر عن تهجير أكثر من 800 ألف فلسطيني من قراه ومدنه اي ما يقارب ثلثي الشعب الفلسطيني حينها.
ولكن عزيمة الشعب الفلسطيني واحرار العرب لم تفتر ولم تتهاون فكانت الثورة الفلسطينية المجيدة وانجازاتها في محطاتها البارزة.
ولكن الحدث الابرز في الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 اي ما يسمى الاراضي داخل الخط الاخضر، كان هو انتفاضة يوم الارض في 30آذار 1976
فبالرغم من كل الاجراءات الصهيونية الهادفة الى طمس هوية الشعب والغاء هوية الارض ، بقي لهيب الثورة واباء الاحرار يحرك ارادة الفلسطينيين دفاعا عن هوية ارضهم ودفاعا عن بقائهم وهويتهم على ارضهم في وجه الادعاءات والاجراءات الصهيونية، فهبت قرى الجليل في سخنين وعرابة وطرعان ودير حنا وطمرة والناصرة والمثلث والنقب في انتفاضة شعبية عارمة سقط فيها العديد من الشهداء ومئات الجرحى والمعتقلين ، وكانت هذه المرة الاولى بعد النكبة التي يعبر فيها شعبنا وتحت الاحتلال الصهيوني عام 48 بهذا القدر من الشمول والاتساع تعبيرا عن تمسكه بهويته وارضه في وجه الاجراءات الصهيونية الهادفة لانتزاع هوية الارض وطمس هوية الشعب.
كثيرة هي الدروس والعبر التي انتجتها هذه المحطة النضالية الهامة، واولها
تأكيد سقوط كل المزاعم التي حاولت النيل من ثبات الشعب الفلسطيني وتمسكه بوطنه، وتأكيد وحدة نضال الشعب الفلسطيني في كل اماكن تواجده وعلى اختلاف الظروف التي يعيشها. وتأكيد ان هذا الجزء من شعبنا هو جزء اصيل من شعبه وامته لم تستطع كل قدرات الصهيونية المدعومة عالميا من طمس والغاء هوية هذا الشعب، وانه كان حري بقيادة الثورة الفلسطينية ان تولي شعبنا في الداخل الاهتمام الذي يستحقه من اجل تطوير هذا النضال وادامته.
ولكن ما كان ممكنا للعدو الصهيوني ان يمتلك كل هذه الوحشية والعنف والادوات في مواجهة الشعب الفلسطيني لولا تخلي النظام الرسمي العربي وتواطؤه مع المشروع الاستعماري الصهيوني منذ تأسيسه وحتى الان.
ولم يكن صدفة ان يتزامن قيام الكيان الصهيوني عام1948 مع قيام عدد من الكيانات القطرية والاستقلالات الشكلية لعدد من الدول العربية التي قادتها الدكتاتوريات العسكرية والتي استمرت في حكم البلاد العربية حتى يومنا هذا، حيث إن استراتيجية المشروع الامبريالي للهيمنة على الوطن العربي قامت على ثلاثة اثافي: الحضور العسكري الامبريالي بشكل مباشر او غير مباشر من خلال القواعد العسكرية والاساطيل المتحركة ومن خلال اقامة الكيان الصهيوني ومن خلال ايجاد نخب حاكمة تتبع الاستعمار وتمنع التطور الطبيعي للبلدان العربية وتحرم شعوبها من قيادة نفسها والتحكم المستقل بمصائرها ومن ضمنها حق تداول السلطة سلميا في كل بلد عربي .
فالتحكم بمصائر حركة نضال الشعوب العربية كان من اولويات الثكنة الصهيونية.
إذًا ليس غريبا ان يهتم العالم باي تطور ديموقراطي في بلادنا لجهة العمل على اجهاضه ومنع تطوره ومستخدمًا الثكنة الصهيونية كسلاح اول في ذلك لاستنزاف طاقات شعوب الامة. بينما في نفس الوقت كان يسكت العالم عن امتهان حقوق الانسان والفساد الذي ميز هذه الدكتاتوريات عبر عشرات السنين.
وفي السياق التاريخي لهذا الدور العدواني الصهيوني على شعبنا، كان الدور الصهيوني الامبريالي حائلا دون تقدم واستقلال الدول العربية بشكل حقيقي والنهوض بأوضاع شعوبها، لأنه لو حصل ذلك لما استطاع الكيان ان يعيش كل هذه المدة بالرغم من كل الدعم الامبريالي، ولكن وجود انظمة الاستبداد التي اعاقت تطور الامة ووحدتها وتقدمها وهي المهمة الموكلة في إطار نظام التبعية الامبريالي سمح لهذا الكيان بالتطور والتقدم وتحقيق انجازات كبيرة في مواجهة الشعب الفلسطيني والامة العربية. لذلك لم يكن مستغربا موقف اسرائيل من ثورات الربيع العربي اذ ان سبب وجود اسرائيل هي قيامها بمنع حدوث ثورات تؤدي الى تغيرات استراتيجية في نظام الهيمنة الامبريالي. فكان طبيعيا ان تصف إسرائيل الرئيس الانقلابي عبد الفتاح السيسي بانه هديه لها من السماء وان تسعى بكل جهدها لدى الادارات الامريكية لبقاء نظام بشار الاسد وليس اوضح من قول الصهاينة ان الاوساط السياسية والامنية في اسرائيل تفضل بقاء رئيس جبان في سوريا يقتل شعبه ويحرس حدود اسرائيل. ولعل ما تكشفت عنه علاقات دول الخليج مع الكيان الصهيوني مثالا آخر على هذا الدور.
فما يجري اليوم في سوريا من محاولات الاستبدال السكاني واستدعاء قوى احتلال اجنبية والتعامل مع غالبية الشعب ككتلة معادية يتم قصفها بالبراميل واسلحة الدمار الشامل على مرأى وسمع العالم، هو ايذان صريح من الدول الاستعمارية لبقاء انظمة الاستبداد خدمة للمشروع الصهيوني ونظام الهيمنة الامبريالي. لأنه دون الدكتاتوريات والاستبداد ستتحرر الشعوب وتقول كلمتها في تقرير مصيرها وهو ايذان صريح ايضا برضى الصهيونية بدور تلك الدكتاتوريات على مدى سني الصراع. فتهجير ملايين السوريين من وطنهم واستبدال سكان مناطق بأكملها بمستوطنين من دول اخرى ذات طابع مذهبي معين وتدمير المدن الممنهج وتفكيك عرى وحدة الشعب السوري وكل هذا قامت به سلطة الاستبداد لا يخدم الا الفكرة الصهيونية، ولا يغير زعم القائلون بالمقاومة ما جرى فقط بل ينسف الاساس الذي يمكن لمن يريد المقاومة ان يتكئ عليه وهو شعب واحد حر فقط هو من يستطع ان يقوم بذلك ضد الطغاة الذين مزقوا وحدة البلاد وشردوا شعبها.
في ذكرى يوم الارض لا يسعنا الا ان نحيي ذكرى الشهداء العظام والشعوب الحرة التي تقف اليوم في نفس الخندق يوحدها النضال ضد الامبريالية والصهيونية والدكتاتورية الثلاثي الآثم التي قامت عليه كل المشاريع التآمرية المعادية للامة.
فكل التحية لشهداء يوم الارض، وكل التحية لشهداء الحرية في سوريا والعالم العربي وكل التحية لأحرار العالم. وستبقى ذكرى يوم الارض وثورة الشعب السوري الابي ذكرى مجيدة تؤرق طغاة العالم أينما وجدوا.