مضر رياض الدبس
تميزت التجربة السياسية السورية بهيمنة نمط التفكير التجريبي الاستقرائي على العقل السياسي، وتبدو هذه الهيمنة من النوع المقاوم للانحسار، وتشكل القاسم المشترك شبه الأوحد للقوى السياسية السورية، وخصوصًا التي تشكلت بعد الثورة. لكن هذا لا ينفي إمكانية تكوين حقل منهجي نقدي متلازم مع العمل الوطني السوري، ومتناغم معه، ومناسب لمقاصده الجامعة، فيخترق هذه الذهنية التجريبية، ويتجاوزها فكريًا وسياسيًا.
إذا اتفقنا أن مجال السياسة هو مجال المقاربات العقلانية، فعلينا أن نتفق أنه مرتبط بالواقع بالضرورة، فلا ينفصل الفعل العقلي والتحليل المعقول عن الواقع بوصفه مفهومًا بأبعاده كافةً، وبأحداثه جميعًا، وبحقائقه الواضحة منها والمحتجبة، وبطرائق تحليلها ومحاكمتها وإدراكها، ومن ثم بطرائق الحوار بين مختلف المقاربات الفاهمة له. وبالاستناد إلى الاتفاق على عقلانية الفعل السياسي، يمكن أن نتفق على عقلانية مفهوم الوطن، فالوطن مفهوم سياسي، وتأخذ هذه الطبيعة السياسية مكانةً خاصة جدًا في الأزمات والمنعطفات التاريخية. لذلك، يُفترض أن يكون العمل على تسييس مفهوم الوطن، عندما لا يكون مُسيسًا مهمة لها أولويّة في واجبات السياسيين، وذلك لأنها تمهد لعقلنة الوطن، وهذه العقلنة هي الطريق الوحيد للحفاظ عليه، وحمايته من التداعي والتهالك، فإما أن تكون مساعي السياسي في حماية الوطن عقلانية ومرتبطة بالواقع، أو أن تكون هدرا للثقة، وللباقي من رصيد السوريين السياسي. وإما أن يكون السياسي عقلانيًا مُحققًا شرط الوطنية التي تشكل مفتاح الخلاص بمواجهة المصائب والدم، أو لا يكون سياسيًا، فإن كان سياسيًا فليعمل، وليكن عمله مع الجماعة، وإن لم يكن سياسيًا فليصمت في ميدان السياسية، إخلاصًا للبعد الأخلاقي في وطنيته، وليتوقف عن أداء دورٍ لا يتناسب مع إمكاناته ومؤهلاته، فهذا أضعف الإيمان.
تنبني المقاربة كالآتي: العقلانية شرطٌ لازمٌ للعمل السياسي، أو يصير عملًا غير سياسي، حتى لو ادعى أصحابه أنه كذلك؛ ومن ثم هي شرطُ العمل الوطني، أو يصير عملًا غير وطني، حتى لو التصق بالوطن على مستوى النيات الإنسانية والدوافع الأخلاقية. هكذا يمكن أن نتفق على أن الفعل الذي يروم نعت نفسه بـ”الوطني”، من قبيل “مبادرة وطنية”، “حوار وطني”، “مؤتمر وطني”، “رسالة وطنية إلى فلان”، “موقف وطني”، “خطابٌ وطني”، “سلوك وطني”؛ “بيان وطني”، إلى ما هنالك، هو في منطق السياسة فعلٌ ذو بعدين: عقلاني يستحق اسمه بمدى وعيه بالواقع وعيًا دقيقًا وعلميًا وموضوعيًا، تمهيدًا لبناء رؤى وتصورات وخطط سياسية لتغيير هذا الواقع نحو الأفضل المنشود؛ وأخلاقي يستند إلى منظومة أخلاقية ترفض المحظور المُحدد بأنه كلُّ ما يهين كرامة الإنسان بوصفه إنسانًا، وكل ما ينتهك حقوقه المنصوص والمتفق عليها عالميًا.
بالاستناد إلى هذا الحقل المنهجي، يمكن أن نبني نسقا نقديا، للخطابات السورية التي ظهرت أخيرا، والتي تندرج في إطارٍ عام يمكن تسميتها “مبادرات إنقاذ”، وكذلك لبعض التحليلات التي تغرّد خارج السرب، متذرعةً بالموضوعية وقول الحقيقة. وغالبًا ما تثير هذه الخطابات الجدل بين حدّين نقيضين، حدٌ يتبناها بالمطلق، وحدٌ يشجبها بالمطلق. وهذا الأثر من جنس المُؤثِّر، قبل أن يكون من جنس المُتأثِّر؛ فهذه الخطابات نفسها لا تقيم وزنًا للطبيعة المُركَّبة للمسائل، وغالبًا ما تُقارِب المسائل من منظورٍ اختزالي، يتناقض مع شمولية التفكير الوطني، ويتناقض مع العقلانية السياسية. وعليه يمكن القول:
أولًا: لا يستقيم عقلانيًا أن نفترض أن نظامًا عصبويًا يعمل بطريقةٍ مافوية من دون قاعٍ أخلاقي، قتل وشرد ملايين السوريين هو نظامٌ قابلٌ للتأثّر بالمسائل الإنسانية، كالتي وردت في الحوار الهادئ مع الفرعون الذي أجراه أخيرا الرئيس الأسبق للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الشيخ معاذ الخطيب. لذلك، هذا الحوار محكومٌ بأن يظل حوارًا من طرفٍ واحد، أي وهم حوار، والوهم يحجب الحقيقة، ويشوش على كلِّ مسعى قبله، لإظهار حقيقة هذا المجرم، ولا يفيد القضية الوطنية بشيء. وبالتأكيد، لا يطيب للسوريين القول اللين في خطابٍ موجهٍ إلى سلطانٍ مجرم سفاح، ولا شيء يدعو إلى المفاجأة، حين يرفض السوريون هذا الخطاب. إنما العقل يقول إن هذا خطابٌ يأتي وقته فقط بعيد النصر ونيل الحرية والبدء في مسار البناء، يومها ينفعنا ذلك كثيرًا، كما يضرّنا الآن كثيرًا. هكذا نفكر مع الشيخ ضده، فالخطابات المشابهة التي نجحت في التاريخ جميعها اختارت وقتًا بعد النصر. يومها يمكن أن نقول “اذهبوا فأنتم طلقاء”، وسيكون هذا مفيدا بوجود عدالة انتقالية ومصالحة وطنية. ويومها يمكن أن يسامح رياض التُرك كما سامح مانديلا مثلًا، لكن ليس اليوم بالتأكيد. اليوم لا يملي العقل إلا بناء حوار بين السوريين من أجل نيل حريتهم. وفي هذا السياق، تأتي المبادرات العقلانية، وهكذا تعمل السياسة. وأهم فعلٍ يمكن أن يقوم به السياسيون جميعهم، في هذا السياق، هو فعل النقد والمراجعة لأخطاء المرحلة السابقة الجسيمة، بدلًا من السير إلى المجهول، والتوكل من دون أن تُعقَّل الناقة.
ثانيًا: لا يستوي أن تكون المبادرة عقلانية اليوم إلا إذا استندت إلى بناء رأس مال اجتماعي وطني، يبدأ من رصيد المبادرين السياسي أنفسهم، ومن قدرتهم على الأداء الموثوق به في المجال العام. ولا يمكن إيجاد هذا المناخ التواثقي في ظرفنا الحالي، من دون رصيدٍ سياسي يحمله المُبادِرون. لذلك نقول إن المبادرة الوطنية التي تستحق اسمها اليوم هي التي تبقي العين على الرصيد السياسي لأعضائها بين السوريين، وإذا أراد أصحابها لها أن تكون “صناعة سورية مسجلة”، حسب كلمات المبادرة الوطنية المعلنة أخيرا، فلن تجد أفضل من أن تتجه إلى الشباب، وأن تتجاوز المنهجيات السابقة في العمل التي شكلت الفشل وراكمته.
ثالثًا: ليس سلوكًا سياسيًا ذلك الذي يُعلي من شأن مليشيا تعمل بمستوى ما دون وطني، مثل قوات سورية الديمقراطية (قسد)، لأنها حاربت مليشيا أخرى تعمل بمستوى فوق وطني مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهذا لا ينفي أن “داعش” منظمة إرهابية همجية خارج التاريخ، ولكن السياسي لا يبوح للناس، إنما يخاطبهم، والخطاب إما أن يكون عقلانيًا أو لا يكون، وليس من العقل أن نمتدح أجنبيًا يقاتل في أرضنا، كائنًا من كان، وإن كان بوحنا ومشاعرنا (وعملنا أحيانًا) غير ذلك. الحقيقة السياسية غير الحقيقة الموضوعية، وأكثر تعقيدًا وشمولية من الفكر الذي ينظر في جملة مقارنة واحدة. ويبدو أن رُهاب الدعشنة أو أدلجة العلمنة قد طغى على الوطني، فإذا كان لا بد من أن “تُرفع القُبعات” (بتعبيرات بيان إحدى القوى السياسية عنوانه “لمن ترفع القبعات”)، فلتُرفع للعقل الذي لا يقوم بإطلاق الأحكام وفق ردود الفعل، بل وفق ما يمليه المنطق الذي يعمل مع العقلانية السياسية ضد العقل السياسي الاستقرائي والاختزالي والمؤدلج والكسول.
المصدر: العربي الجديد