قتيبة الحاج علي
بدأت بعض مكاتب الأمم المتحدة المعنية بالشأن السوري باتخاذ خطوات جديدة اتجاه علاقتها وعملها مع النظام السوري، ربما اعترافاً بحالة الأمر الواقع التي فرضتها سيطرة مليشيات النظام المدعومة روسياً على مساحات واسعة من وسط وجنوب البلاد. ورغم غياب أي إعلان رسمي عن هذه “الخطوات” حتى اللحظة، إلا أن المعلومات المتاحة مؤخراً تؤكد أن المكتب الإقليمي للأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا”، ومقره العاصمة الأردنية، قد بدأ إجراءات العودة إلى دمشق فعلاً.
“أوتشا” هو الاسم الأكثر تداولاً وعملاً داخل مناطق سيطرة مليشيات النظام في سوريا، باعتباره المختص بتنسيق جهود العمل الإنساني والإغاثي فقط. المركز الرئيسي لهذا العمل في الأردن، يُضاف له مكاتب في تركيا ولبنان، بالإضافة إلى مكتب محدود النفوذ والصلاحيات داخل دمشق ومُقيد دائماً بـ “أذونات المرور” التي يصدرها النظام لقوافله الإغاثية، والتي لا يستطيع موظفو “أوتشا” التحرك من دونها. في المقابل يمنع النظام تواجد المكاتب المتخصصة بالعمل التوثيقي ورصد حالة حقوق الإنسان وإعداد التقارير للأمم المتحدة داخل مناطق سيطرته، بل إن هذه المكاتب تم سحب تأشيرات العاملين فيها ومنع تواجدهم داخل دمشق، بالإضافة للتحريض الرسمي والإعلامي المستمر على تقاريرها الحقوقية.
بعد سيطرة ميليشيات النظام على جنوب سوريا، والتي كانت تحظى بتركيز كبير من عمل “أوتشا” وتواجد العشرات من المنظمات الإغاثية التي كانت تتلقى المساعدات هناك من خلال الحدود السورية الأردنية، انخفض العمل الإغاثي بشكل كبير جداً، واقتصر الدعم الإغاثي القادم من الأردن على بضع قوافل دخلت من خلال معبر نصيب الحدودي وتولت الهيئات الإغاثية العاملة تحت إشراف النظام توزيعها.
لكن التطور الأكبر في عمل “أوتشا” خلال الأشهر الماضية، كان توجيه التركيز نحو مخيم الركبان على الحدود السورية الأردنية، داخل منطقة الـ 55 كم الخاضعة للحماية الأميركية في قاعدة التنف العسكرية، حيث أكدت مصادر “المدن” أن “أوتشا” أشرفت على عملية الإغاثة التي نفذها الهلال الأحمر السوري داخل المخيم في شباط/فبراير الماضي، من خلال 15 موظفاً رافقوا المئات من عناصر الهلال الأحمر لتقديم الدعم على مدار أسبوعين تقريباً داخل المخيم.
نجاح هذه العملية، رغم محدوديتها، مهدت الطريق لدور أكبر، لتدخل “أوتشا” على خط مراقبة المفاوضات التي عُقدت، أواخر آذار/مارس الماضي، بين ممثلين ووجهاء عن مخيم الركبان وضباط روس ومسؤولين من النظام بهدف التوصل إلى اتفاق لـ”تفكيك” المخيم وإعادة النازحين داخله إلى مدنهم وبلداتهم الخاضعة لسيطرة ميليشيات النظام. تلك الاجتماعات حضرها مسؤولون في مكتب “أوتشا”، يتقدمهم سمير الهواري، نائب مدير المكتب في سوريا، الذي تولى التوقيع على محضر الاجتماع بصفته ممثلاً للأمم المتحدة فيه.
نتائج الاجتماع أبصرت النور منذ بداية نيسان/أبريل الحالي، ببدء عملية إخلاء للمئات من نازحي المخيم، تجاوز عددهم 1500 حتى نهاية الأسبوع الأول من الشهر، نُقلوا جميعاً من خلال الشرطة العسكرية الروسية إلى مراكز إيواء في حي دير بعلبة في مدينة حمص، رغم الاتفاق المسبق على إعادتهم إلى مدنهم وبلداتهم ريف حمص الشرقي، بينما لم يُعلن عن مصير من يرفض العودة إلى سلطة النظام، لاسيما الشبان منهم المطلوبين أمنياً أو للخدمة العسكرية.
بعد ما يمكن اعتباره “نجاحاً” مرحلياً للجهود الروسية في مخيم الركبان، بدأت المهمة الروسية التالية في العمل على تحقيق مكاسب دولية وإعادة التطبيع بين النظام والمجتمع الدولي، حيث أكدت مصادر عديدة أن المكتب الرئيسي لـ”أوتشا” في عمان بدأ الإجراءات اللوجستية للعودة إلى دمشق “على اعتبار أن العدد الأكبر من السكان المستحقين للمساعدة يتواجدون داخل مناطق سيطرة النظام حالياً”. بالتالي سيصبح مكتب دمشق هو المسؤول عن الإشراف على المكاتب الأخرى، والذي يُعتبر مكتب تركيا أهمها على اعتباره المسؤول عن تنسيق الجهود الإغاثية في مناطق سيطرة فصائل المعارضة شمال سوريا.
ومن المتوقع أن يتخذ عدد من الدول الأوروبية موقفاً معارضاً لهذه الخطوة، لكن ماذا في حال إتمام هذه العودة؟ تقنياً لن يتغير الكثير من عمل “أوتشا” التي لم تقطع علاقتها مع النظام أساساً، لكن ما قد يتغير هو: حالة تقييم الاحتياجات والاستجابة لها سواء في مناطق سيطرة النظام أو المعارضة، وبطبيعة الحال ازدياد نفوذ النظام لوجستياً واقتصادياً على هذا الدعم.
النسبة الأكبر من سكان سوريا يتواجدون داخل مناطق سيطرة النظام حالياً، لكن النسبة الأكبر من المحتاجين والمتضررين هم داخل مناطق سيطرة المعارضة شمال سوريا، بالإضافة طبعاً الى مخيمات النازحين كالركبان والهول.
النظام الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة في مناطق سيطرته، سيستغل انتقال العمل المركزي لـ”أوتشا” إلى دمشق لتوجيه الدعم إلى حاضنته والفئات الأقل احتياجاً، واستغلال هذا الدعم لتحريك اقتصاد المتنفذين في النظام الذين سيتولون عقود التوريد وتأمين احتياجات عمل “أوتشا”، بالإضافة لما ستحققه هذه العودة من تأمين للقطع الأجنبي. بالإضافة طبعاً للمكاسب السياسية المحققة بعودة أحد المكاتب الرئيسية للأمم المتحدة إلى دمشق.
أما الضرر الأكبر فسيكون على العمل داخل مناطق سيطرة فصائل المعارضة، بالتأكيد “أوتشا” لن توقف هذا العمل، لكن المنظمات الإغاثية العاملة معها داخل تلك المناطق، قد تجد نفسها مضطرة للتنسيق مع الهيئات العاملة تحت إشراف النظام، تحديداً الهلال الأحمر العربي السوري، بهدف تنسيق إدخال وتوزيع هذه المساعدات. هنا سيحصل النظام على بيانات المحتاجين والعاملين في المجال الإغاثي ونقاط العمل والتوزيع والمستودعات وكل شيء مرتبط بهذا الملف، هذا في حال سمحت فصائل المعارضة بمثل هذا التنسيق أساساً، وهو ما سيضعها في مواجهة مع المنظمات الإغاثية والهيئات الدولية والمحتاجين أيضاً.
قد يفتح النظام أبوابه مرحباً بعودة مكاتب الأمم المتحدة إلى دمشق، لكنه سيسمح فقط للمكاتب التي تحقق له مكاسب سياسية واقتصادية؛ سيُرحب بالمبالغ المالية التي ستُحول دولياً إلى اقتصاده تحت مظلة “الدعم الإغاثي”، لكنه بالتأكيد لن يفتح سجونه ومعتقلاته أمام الأمم المتحدة، لن يسمح لها بالتحقيق في المجازر والجرائم التي يرتكبها، وبطبيعة الحال لن يوافق على مراقبتها لأي انتخابات أو تقييمها لحالة حقوق الإنسان، وهنا لابد من انتظار وتقييم موقف الأمم المتحدة نفسها.
المصدر: المدن