عقل العويط
بعد سنتين على غياب سمير فرنجية كلّما ابتعد تفاقمت حاجة المعايير المتعاظمة إليه. قبل عامين، في 11 نيسان 2017، غادرنا سمير فرنجية، على مضضٍ عميقٍ منه. لم يكن الرجل يطيق الرضوخ لسرطانات جسده المتواصلة، ولا كان يريد إلقاء سلاح الحوار والعقل، والتسليم بانتصار سرطان لبنان الأبكم على لبنان الفكرة والمعنى، لبنان الضرورة، لذاته، وللمنطقة العربية الظلماء. كان في مقدور هذا الرجل الضئيل الصلب، وهو على فراشه المتواضع، أن يظلّ يستنبش أغوار العقل، بحثًا عمّا يمكن أن يمثّل كوّة ضوء، ونافذةً مطلّةً على الأمل، على أفق العيش المنشود، والدولة المصادَرة. الآن، بعد عامين على الغياب، كلّما ابتعد سمير فرنجية، تفاقمت الحاجة المتعاظمة إلى معاييره. لماذا تزداد الحاجة إلى رجلٍ كهذا، في زمنٍ لبنانيٍّ – عربيٍّ، هو زمن الجدار الغرائزيّ المتوحّش العقيم، الذي لا تعتري إسمنته المسلّح هشاشةٌ ولا لحظة ضعف؟ تزداد الحاجة إلى سمير فرنجية، اليوم، لأن لبنان الضرورة الإنسانوية الدستورية الديموقراطية المدنية العلمانية، لا ينهض، في رأيه، كدولةٍ للحقّ والعدل والمساواة والتنوّع، إلاّ على العقل، أي على المشترك العقليّ، وليس على القوّة الغشيمة، أو على التفاهة المتخلّفة الغشيمة، أو على جور العصبيات التكوينية والطائفية والمذهبية، “المتألقة”، و”المزدهرة”، و”الحاكمة” سعيدةً في لبنان اليوم. تزداد الحاجة إليه، لأن لبنان الدولة هو يتيم هذا الحوار اللامتناهي المفقود. فكم من المفجع حقًّا أن يكون لبنان يتيمًا، بلا آباء للحوار، وبلا أمّهات. رجاله، حكّامه، قادة أحزابه، وزعماء طوائفه ومذاهبه، ليسوا أهلًا لتنكّب هذه المهمّة التاريخية، الشاقّة. لأنهم أقلّ بكثير من لبنان هذا. اليوم، في هذا الزمن الوجوديّ الخطير، مَن يفهم لبنان هذا؟ مَن يقدر على استيعاب فكرته، لبلورة انوجادها في دولةٍ حرّةٍ، سيّدةٍ، مستقلّة، حاكمةٍ ذاتَها بذاتها، فاهمةٍ كينونَتها الوجودية في هذه المنطقة المعذّبة بأنظمتها الاستبدادية، عسكريةً أكانت أم عائليةً، أمنيةً أم دينية؟ أخشى أني أعترف بغضبٍ غير سلبيّ، لكنْ بمرارةٍ فادحة، أننا – يا لعارنا ويا لعار لبنان فينا – قومٌ (أقوامٌ) لا نبحث إلاّ عن ألعابنا، عن الدمى، عن فئوياتنا المسمومة، وعن مكوّناتنا المفخّخة الصغرى. لهذا، نخشى الانوجاد في الدولة، في الآخر، في الكلّ، في القوام الوطني، الذي هو وحده الخلاص للجزء في الكلّ، وهو الخلاص بالكلّ. نحن نخشى التحاور بالعقل، ولا نستحسن إلّا التحاور في المرايا الذاتيّة، لئلّا نعثر فيها على ظلالٍ بآخرين، وعلى آخرين. يضيق حكّامنا، ونضيق معهم، بالدولة، كما نضيق بكلّ آخر. لذا يعمل الحكّام، ونعمل معهم، على الحؤول دون الدولة، وعلى الحؤول دون كلِّ آخر. هذا بالذات، عقلٌ استئثاريٌّ أفضى بنا، ولا يزال يفضي بنا إلى اللاعقل، إلى اللافهم، وإلى الجدار. أعني إلى اللادولة، بما هي تذرّراتٌ وحروبٌ ومضاضاتٌ لا تنتهي. هذه اللعنة، لن تكفّ، في ضوء اللاعقل هذا، عن التوالد والتكاثر، حتى لا يبقى في لبنان شيءٌ من لبنان. فيا لخراب لبنان! كان سمير فرنجية في هذا المعنى، رجلَ عقلٍ وتعقّلٍ بامتياز. أقصد أنه كان رجل العقل. وكان رجل دولةٍ بامتياز. أقصد رجل الدولة. وهو، في هذا المعنى الدقيق، بل في هذا المعنى البالغ الدقّة بالذات، لم يكن رجل سلطة. البتّة. إطلاقًا. مش خرج سلطة. هذا ليس عمله. السلطة شيءٌ آخر، رجالُها “موظّفون”، “مأمورون”، مهمّتُهم أن يطبّقوا مفاهيم العقل والعدل والحقّ والرويّة والرحابة والأنسنة والحكمة لدى رجال الدولة، وأن يجسّدوا معايير هؤلاء في دولة العقل، وأن يسيّلوا هذه المعايير في شرايين الحكم والحكومة، في أوردة السلطة التشريعية، وفي خلايا السلطة القضائية. لم ينصت أحدٌ من هؤلاء إلى سمير فرنجية، بصفته رجل دولة، رجل الدولة تحديدًا وتخصيصًا. كانت آذانهم، وقلوبهم، وعقولهم، منشغلةً بأمور كثيرة أخرى: دون الدولة. تحت الدولة. خارج الدولة. ضدّ الدولة. أقول بصوتٍ جهوريٍّ عالٍ: إنهم ضدّ الدولة. هل يجب أن أتذكّر قول المسيح، وأُسقِطه عليهم: مرتا مرتا أنتِ مهتمةٌ بأمورٍ كثيرة، والمطلوب هو واحد؟! نعم، يجب. يجب تذكّر ذلك. يا لعار التذكّر! عارنُا عظيمٌ وفادحٌ، لأننا يتامى. يتامى الدولة، ويتامى رجال الدولة. كان سمير فرنجية بيننا، ولم ينصت إليه أحدٌ، لا في “معسكره”، ولا في “المعسكرات” الأخرى. ولا أيضاً وخصوصًا في معسكر السلطة، معسكر “الموظّفين” الحكّام والحاكمين. كانوا أقلّ منه، وكانوا أقلّ من لبنان. فكيف لا نكون نقيم في نظام اللادولة، وفي نظام اللاعقل؟! وكيف لا نكون نصطدم بزجاج مرايانا، زجاج مرايا الذوات المريضة بذواتها، وكياناتها الفئوية الصغيرة، ورؤاها التراجيدية الطفيلية؟! سنتان على غياب سمير فرنجية، ونحن لا نزال نتدحرج من عارٍ إلى عار، ومن هاويةٍ إلى هاوية. قد نصل قريبًا إلى قعر اللادولة، وقعر اللاعقل. لماذا لا تتذكّرون معايير هذا الرجل ومفاهيمه، وتستنجدوا بها؟! هو لا يمثّل “خطرًا” على السلطة، ولا على رجالها وحكّامها. تذكّروا: كلّما ابتعد هذا الرجل، كلّما ابتعد سمير فرنجية تفاقمت الحاجة إليه!
المصدر: موقع النهار