منير الخطيب
افتتح الحراكان الشعبيان الجزائري والسوداني الموجة الثانية من «الثورات»، إذ يتوقف على نتائجهما، إلى حد كبير، شكل النظام الإقليمي القادم في المنطقة العربية.
لكن إذا أخذنا النموذج السوري من «الموجة الثورية الأولى» والنموذج الجزائري من الموجة الثانية، يمكن التقاط حزمة من الاختلافات المهمة، التي تشي بنهايات مختلفة «للربيع الجزائري» عن مثيله السوري، من أبرز هذه الاختلافات:
أولاً: الجزائريون، بعكس السوريين، يشعرون بالاكتفاء الكياني، السوريون لا يشعرون بذلك الاكتفاء، إذ كانوا، على الدوام، يعتبرون أن «دولتهم» وبلدهم عابران على طريق «الوحدة العربية» أو «الوحدة الإسلامية»، ما جعل حساسية الجزائريين أعلى تجاه التدخلات الخارجية، فيما كان عدم الاكتفاء الكياني السوري أحد مداخل التدخلات الخارجية التي عصفت بالكيان، الذي لم يكن يوماً كياناً وطنياً.
ثانياً: لم نر في الحراك الجزائري، حتى الآن، انفصالاً واضحاً بين «المجتمعين» المدني والأهلي، على النحو الذي ظهر فيه في سورية، لقد أظهر الجزائريون على اختلاف انتماءاتهم تكتلاً واضحاً وحاسماً حول شعارات وأهداف محددة، لا تحمل ذلك التعارض الناشئ من اختلاف الرؤيتين الأهلية والمدنية حول قضايا كبرى ومصيرية كقضية الدولة وطبيعتها على سبيل المثال، أي لم نر نزاع حول إسلامية الدولة أو علمانيتها.
ثالثاً: لم تُسمع أصوات وازنة للإسلام السياسي، بل أفصح المتظاهرون عن حذر شديد من الإسلاميين وشعاراتهم، فلم نسمع على سبيل المثال شعاراً مثل: «وما خرجنا إلا لنصرة هذا الدين»، بل إن جاب الله أحد ممثلي الإسلاميين البارزين، تم طرده من إحدى التظاهرات، وهذا يؤشر أن الجزائريين استوعبوا الدرس السوري، والدور الذي لعبه الإسلام السياسي وفصائله في إغراق «ثورة السوريين» في مستنقع الهويّات.
رابعاً: الحضور الكثيف للنساء في المظاهرات وعلى وسائل الإعلام، وقد تجاوزن قيود المجتمع التقليدي، ما يضيف ثقلاً نوعياً لدعم المجتمع المدني في مواجهة القيعان المتأخرة التي يمكن أن تدفع بتيارات الإسلام السياسي إلى السطح، كما يسهم في تشكيل كتلة مدنية في مواجهة البنية والثقافة الاستبداديتين.
خامساً: من الواضح رجحان البعد الوطني الجزائري للحراك، وبالتالي خفوت وتراجع الانقسامات الإثنية والمذهبية، فليس هناك شعارات عربية أو شعارات أمازيغية أو حالة إباظية وحالة سنّية، هذا يجعل الانقسام الأمازيغي – العربي مفتوحاً أكثر على أفق اندماجي، بمقدار زيادة جذرية الحراك في مواجهة مبادئ وأسس الثقافة التسلطية، في المقابل أسهمت الانقسامات العمودية في الوضع السوري، بشكل كبير، في دفع الانقلاب على المسارات الوطنية، وبالتالي انهيار «الاجتماع الوطني السوري».
سادسا: ليس الاكتفاء الكياني وحده الذي سيحصّن الجزائر في وجه التدخلات الخارجية، بل «الجيبوليتك» الجزائري ليس كمثيله السوري جاذباً للتدخلات الإقليمية والدولية، فالجزائر لا تجاور إسرائيل، وليست مجالاً حيوياً لإيران أو روسيا، وبعيدة عن الأطماع التركية، وهي خارج مدى الصراع السّني – الشيعي، فلا تستطيع دولة «محطة فضائية» كقطر أن تؤثر في المعارضة أو في الرأي العام، فالجزائريون لا يشاهدون محطة الجزيرة القطرية، لهذه الأسباب وغيرها فإن قدرة التأثير الخارجي في الحراك الجزائري أقل بكثير من ذاك الذي عرفه «الجيبوليتك» السوري.
سابعاً: الحراك الجزائري انفجر بقوة وكثافة في المدن الكبرى الرئيسية (الجزائر، وهران)، الجزائر هي العاصمة السياسية والإدارية ووهران هي العاصمة الاقتصادية، وبدا واضحاً، أيضاً، أن الانقسام المديني – الريفي خافتاً، فيما ظلت المدن الكبرى في الحالة السورية (دمشق، حلب) في مرحلة الحراك السلمي في وضعية الركود، وبرز الانقسام المديني – الريفي على السطح، خاصة بين دمشق وحلب من جهة وأريافهما من جهة أخرى.
ثامناً: أبدى الجيش الجزائري منذ اللحظات الأولى «دعمه» للحراك السلمي، وأبدى استعداده لحمايته، بعكس الجيش السوري الذي اصطف منذ البداية خلف قيادته في وصف الحراك السلمي بأنه مؤامرة خارجية يجب قمعها بالحديد والنار، هذا فضلاً عن البنية المذهبية للجيش السوري ودورها في انحيازه المطلق إلى السلطة، فكان موقف الجيش الجزائري عاملاً حاسماً في تصاعد واستمرار الحراك السلمي، ومما لا شك فيه أن وجود تقاطع مصالح لدى قيادة المؤسسة العسكرية الجزائرية مع الانفجار الشعبي في مواجهة بعض مراكز السلطة الأخرى، كان من جملة العوامل التي دفعت الجيش إلى اتخاذ هذا الموقف الداعم للحراك.
تاسعاً: النظام السوري حسم موقفه منذ الأيام الأولى للثورة السلمية، بقوله إنها مؤامرة خارجية وليس لدينا إلا الحل الأمني والحسم العسكري، وتتالت الأحداث لاحقاً استناداً إلى تلك الاستراتيجية، فيما بدأ النظام الجزائري بالتراجع والتنازل منذ الأيام الأولى، أسهم الحراك الشعبي في هذا التراجع من طريق خلخلة توازنات السلطة واستقواء قيادة الجيش بالحراك في مواجهة المراكز الأخرى، وبالتالي نشوء وضع يحمل قابلية الحل السياسي ونشوء حياة سياسية عمومية، بعكس الوضعية السورية التي ذهبت باتجاه التشظي والعسكرة والأسلمة وبلورة ثلاث مجموعات مسلحة غير عمومية: السلطة وميليشياتها، الميليشيات الإسلامية المعارضة، الميليشيات الكردية، ولم يعد بوسع أي مجموعة من هذه المجموعات التحول إلى طرف عمومي، وبالتالي لا زال أفق الحياة السياسية مغلقاً في سورية. نأمل أن تُطلق «الثورات» مراجعة نقدية، لا زالت على جدول أعمال التاريخ، للموجة الأولى من هذه «الثورات”.
المصدر: الحياة