سوزان مالوني
اندلعت الاحتجاجات في أكثر من مائة مدينة إيرانية في أواسط تشرين الثاني (نوفمبر)، نتيجة لقرار الحكومة زيادة أسعار البنزين ثلاثة أضعاف في محاولة منها للتعويض عن عجزٍ في الموازنة. وقطع المتظاهرون حركة السير على الطرقات السريعة الأساسية وأحرقوا صوراً لقادة إيرانيين وأحرقوا مصارف وأبنية حكومية ورموزاً للنظام الثوري. وردّ النظام على الفور وبعنف، ففرَض تعطيلاً شبه كامل للإنترنت وخطوط الهواتف الجوّالة ونشر قنّاصين وقوى أمنية في شوارع مدنه. وأدان المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي المتظاهرين ووصفهم بأنّهم “قطاع طرق”، وحذّر الرئيس الإيراني حسن روحاني من أنّ أنظمة المراقبة الحكومية ستسمح بالاقتصاص من كلّ مَن شارك في الاحتجاجات. وإذا كانت تقارير الإصابات والقتلى دقيقة، فقد تكون هذه الانتفاضة هي الأكثر دموية منذ ثورة العام 1979.
تذكر التظاهرات بالاضطرابات التي هزّت إيران في أواخر العام 2017 وبداية العام 2018، على الرغم من أنّ هذه الجولة الأخيرة تبدو أكثر انتشاراً وعنفاً. ولا شكّ في أنّ لاستراتيجية “الضغط الأقصى” التي تنتهجها إدارة ترامب يداً في مأزق طهران المالي. بيد أنّ الاضطراب في إيران لا تدفعه السياسات الأميركية ولا هو مجرّد نتيجة فورة ظرفية. فالاحتجاجات هي الموجة الأحدث من مسيرة الكفاح الإيراني للحصول على حكومة خاضعة للمساءلة منذ أكثر من قرن من الزمن. ويضرب السخط واليأس اللذان يبديهما الإيرانيون في الشارع قلب شرعية النظام الثوري.
تاريخ طويل من الاحتجاجات
على الرغم من آليات القمع الراسخة التي تعتمدها الجمهورية الإسلامية، فقد شهدت منذ أن أبصرت النور تعاقباً نشيطاً من الاضطرابات الصغيرة الحجم بالإجمال، وهو إرث تركته الثورة بحدّ ذاتها، فضلاً عن تقليد البسط أو طلب اللجوء كشكلٍ من أشكال الاحتجاج السياسي. وبعد القضاء على النظام الملكي، شكّل العمل الجماعي، العفوي منه والانتهازي، آلية أساسية لكسب الأفضلية في كفاح فوضوي للوصول إلى السلطة.
ومن أشهر الأمثلة على هذا كان الاستيلاء على السفارة الأميركية في طهران بقيادة الطلاب قبل 40 سنة خلت. وقد أدّى ذلك إلى إسقاط الحكومة الانتقالية الإيرانية ليبرالية التوجّه وتصعيد التوتّر بشكل دائم بين واشنطن وطهران. واستمرّت نزعة الإيرانيين للاحتجاج، واستمرّ أيضاً إطلاق النظام بحدّ ذاته لاحتجاجات تهكّمية، إذ غالباً ما حثّت انشقاقاته الداخلية على استخدام المجموعات الرسمية وشبه الرسمية للتظاهرات الشعبية لدفع أجنداتهم الخاصة.
نتيجة لذلك، أصبح الإيرانيون معتادين تماماً على الاحتجاج السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فعلى مدى السنوات الأربعين الماضية شهدت إيران بشكل دوري مختلف أنواع التجمّعات وأعمال الشغب والاعتصامات التي نفذتها عائلات السجناء السياسيين وإضرابات عمّالية للمدرّسين وسائقي الشاحنات وعمّال المصانع وتظاهرات طلابية حول مختلف المطالب، من حرّية التعبير عن الرأي إلى أوضاع المهاجع وطعام الكافيتريا، وأعمال شغب جرّاء مباريات كرة القدم ومسيرات واعتصامات أشعلتها شكاوى موضعية. ولم تقتصر هذه التحرّكات يوماً على منطقة معيّنة أو طبقة معيّنة.
صمود النظام
نادراً ما هدّدت هذه التظاهرات استمرارية الجمهورية الإسلامية التي تتمتع قواها الأمنية بقدرات هائلة على إدارة التظاهرات المنفصلة أو قمعها. وحتّى الآن، ما تزال التحرّكات الأخيرة متواضعة بحسب المعايير التاريخية؛ إذ ضمت على الأكثر مئة ألف شخص، مقارنة بأكثر من مليون إيراني نزلوا إلى الشارع في العام 2009 بعد إعادة الانتخاب المتنازع عليها للرئيس المتشدّد محمود أحمدي نجاد. وحتّى في ذلك الوقت تمكّن النظام من استعادة عافيته.
ولعلّ استمرارية الجمهورية الإسلامية هي الإرث الأهم لثورة العام 1979. فلم تتمكّن أيّ من التطوّرات الاستثنائية التي برزت في إيران وحولها على مدى السنوات الأربعين الماضية من إحداث تغيير لافت فيها، ولا حتّى التطوّر الكبير للمجتمع الإيراني وإعادة انخراط البلاد المستمرة مع العالم ولا الإصلاحات المتزايدة التي حّثت عليها الفصائل المختلفة داخل المؤسّسة، لا بل في الكثير من النواحي، يبدو أنّ هيكلية السلطة في الجمهورية الإسلامية منغرسة أكثر اليوم مقارنة بأيّ لحظة من اللحظات منذ نشأتها المهتزة.
تُعزى قوّة صمود النظام إيران ما بعد الثورة إلى نوع من القَدَرية. فإذا عجزت الحرب والانتفاضات الداخلية والاضطرابات الإقليمية والكوارث الطبيعية والعقوبات الاقتصادية المدمّرة والتناحر الداخلي شبه الدائم ضمن المؤسسة السياسية عن إضعاف السلطة الثيوقراطية، ربما لا تكون هناك جدوى من أي أمل في التغيير. ومنذ زمن ليس ببعيد، دفع هذا التصوّر ببعض الشباب الإيراني للابتعاد عن السياسة. وقد تبيّنت لصحفيّ حاور شبّاناً إيرانيين في العام 2005 “صورةٌ قاهرة لجيل جعله التوق ضائعاً وساخطاً وموصوماً”.
ما الذي تغيّر؟
غير أنّه بعد مرور قرابة 15 سنة، بدأ “الجيل الضائع” الإيراني يقترب من عمر الثورة نفسها، وبات غياب أفق سياسي أو اقتصادي واعد بارزاً للغاية، ولا يقتصر هذا الأمر على النخبة فحسب، بل ينطبق أيضاً على الشباب الإيراني ما بعد الثورة. فقد استفاد هؤلاء الإيرانيون من التوسّع الهائل في فرص التعلّم والبنية التحتية الأوسع للرفاه الاجتماعي الذي خلّفته الثورة. زرسم هذا الإرث ووعود النظام الشعبوية شكل توقّعاتهم بحياة أفضل وبإحساس بأنّهم يستحقّون على المستوى السياسي حكومةً عاملة ومتجاوبة.
وما كان من الاتفاق النووي في العام 2015 إلا أنّ ضاعف هذه التطلّعات. فقد أجّج كلام طهران عن الاتفاقية التوقّعات ببروز فرص اقتصادية هائلة وربّما أكثر من ذلك. ففي خضمّ الاحتفالات المرحّبة بإتمام الاتفاق، علّق إيرانيّ قائلاً: “سيمنحنا هذا الأمر أملاً”. وأوضح إيرانيّ آخر: “الآن سنتمكّن من العيش بشكل طبيعي على غرار باقي العالم”. لكنّ الأحلام لم تتحقّق. فحتّى قبل انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في أيار (مايو) 2018 وبدئها بإعادة فرض العقوبات، أدّى الإحباط الإيراني من الوتيرة البطيئة لمكاسب السلام التي أنتجتها الاتفاقية إلى خيبة أمل واسعة، ولم تكن خيبة تجاه سياسة أو مسؤول أو مؤسّسة فردية بل تجاه المؤسسة السياسية والنظام الحاكم بأسرهما. فبعد أربعين سنة، انتقل جوهر إيران السياسي من ثورة إلى إصلاح إلى تنصّل.
بدأت هذه الإحباطات تتجلّى بوتيرة أعلى وأشدّ من الاضطرابات. وقد سجّل مركز توثيق حقوق الإنسان في إيران أكثر من 1.200 دعوى قضائية عمالية مرتبطة بعدم تسديد الرواتب بين كانون الثاني (يناير) 2017 وتشرين الثاني (نوفمبر) 2018. وبلغت الأمور ذروتها في آخر أيام العام 2017 وبدايات العام 2018، عندما تأجّج ما بدأ كلعبة سياسية إقليمية بسرعة إلى فورة من التظاهرات الغاضبة. وفي غضون 48 ساعة انتشرت الاحتجاجات في ثمانين مدينة على الأقلّ، وتوسّعت حدود مطالب المتظاهرين من شكاوى اقتصادية إلى شجب علني للنظام ولقيادة النظام برمّتها.
تسلط أحداث العام 2017-2018، على غرار الأحداث الراهنة، الضوء على المخاطر التي يشكّلها الإحباط والتهميش المتفشّيين. ومن الواضح من ردّ فعل طهران إزاء آخر فورة من الاحتجاجات أنّ القيادة متوتّرة، ولهذا أسباب وجيهة: التحوّلُ السريع من المطالب المحلّية البسيطة إلى رفض جذري للنظام برمّته وبثُّ وقائع الاحتجاجات ومواقعها عبر وسائل التواصل الاجتماعي عوضاً عن نقلها عبر الصحافة التقليدية التي يمكن التحكّم بها أكثر وانخراطُ القاعدة الناخبة الأساسية للحكومة، أي الطبقة الوسطى الناشئة، والانتشارُ شبه الفوري من المستوى المحلّي إلى المستوى الوطني. وتكشف هذه العوامل عن الهشاشة العميقة في الجمهورية الإسلامية في وقت تحُدّ فيه العقوبات الأميركية بشدّة من الموارد التي قد تُمكّن إيران من معالجة مصادر عدم الرضا أو اتقائها.
ماذا بعد الآن؟
شكّلت الشكاوى الاقتصادية الخلفية لكلّ فترات الغليان السياسي السابقة في إيران خلال القرن الماضي. وفي كلّ نقطة من نقاط التحوّل البارزة في إيران في السنوات المئة والخمسين الماضية، أي ثورة التبغ والثورة الدستورية وأزمة تأميم النفط وثورة العام 1979، تزايدت الضغوط الاقتصادية وعجّلت التحدّي السياسي للوضع الراهن.
تواجه طهران اليوم مجموعة ضخمة متداخلة من الأزمات: أزمة التوقّعات غير المحقّقة التي تغذّي أزمة شرعية لنظام حلّ مكانَ شرعيته الإيديولوجية المتداعية اتّكالٌ على تشديد كلامي أكثر على أداء الدولة ومستويات المعيشة. ويتفاقم مأزق إيران بسبب الغموض الذي يحيط بتداول القيادة، سواء كان ذلك في ما يخصّ موقع مرشد الثورة الذي بلغ سنّه الثمانين هذا العام أو الأعداد الكثيرة من المسؤولين الكبار من جيل المرشد ذاته الذين ساعدوا على بناء دولةِ ما بعد الثورة منذ لحظة نشوئها.
لكي تتخطّى الجمهورية الإسلامية التزاماتها الداخلية، يمكنها أن تعتمد على أسلوب القمع والاستمالة المجرّب مراراً عبر الزمن. لكنّ كلّ تصادم بين مواطنين غاضبين وهيكلية سلطة غير مرنة سيترك تشقّقات في النظام. وفي نهاية المطاف، كما حدث قبل أربعين سنة في إيران، حتّى أكثر الأنظمة تخندُقاً ستنهار.
المصدر: معهد بروكينغز/ الغد الأردنية