بكر صدقي
على وقع «أزمة الانتصار» التي يعيشها نظام بشار الكيماوي ويعاني من أعراضها، في ظل سريان قانون قيصر، نشط مبعوثون روس على خطوط «المكونات» السورية، فالتقوا الشيخ معاذ الخطيب في الدوحة، وهو رئيس سابق للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ووفداً من «علويين مؤثرين» معارضين كما وصفوا أنفسهم ويمثلهم عيسى إبراهيم الذي يعود بنسبه إلى الشيخ صالح العلي، أحد رموز الاستقلال السوري. لا نعرف ما إذا كانت هناك لقاءات روسية أخرى مع شخصيات معارضة من مكونات أخرى، سرية تمت أو أنها على جدول أعمال الدبلوماسيين الروس. لكن اختيار هذين المحاورين يعطينا ما يكفي لاعتبار المنظور الروسي للحل في سوريا هو منظور توافق المكونات الأهلية إذا صح التعبير. وهو ما لم يخفه الروس، على أي حال، فقد وضعوا، قبل سنوات، مسودة دستور لسوريا فيدرالية، كما كان الاسم الروسي لمؤتمر سوتشي هو «مؤتمر الشعوب السورية» قبل أن يغيروه تحت ضغط المدعوين من كلا الطرفين، نظاماً ومعارضة.
من جهة أخرى، أطلقت مجموعة من المعارضين السوريين ما أسموه بـ«إعلان الوطنية السورية» مفتوحاً للتوقيع عليه كأفراد أو مجموعات. وينطلق منشئو «الإعلان» من واقع التفكك الجغرافي والأهلي في سوريا في ظل احتلالات أجنبية عدة، فيدعون السوريين إلى «الإيمان بالإعلان والالتزام به والعمل من أجله وفي ضوئه، ثقافياً وسياسياً وإعلامياً ومدنياً وحياتياً» وفق نص الإعلان الذي يعتبر التوقيع أمراً في غاية الجدية يجب لصاحبه أن يحترمه ولا يخل بموجباته.
لدينا، إذن، بحث متعدد المصادر والمستويات عن حل سياسي للصراع الدائر في سوريا وعليها منذ تسع سنوات ونصف، ذكرنا منها نموذجين، الروسي و«الإعلاني». هذا البحث الدؤوب يعبر عن حاجة موضوعية للحل ناتجة عن أزمة النظام المصمم على البقاء في ظل حرب دائمة، ولا قدرة لديه لخوض السياسة القائمة بداهةً على التعدد والتفاوض وابتكار المخارج والحلول. وهو ما أسميه بأزمة الانتصار لأن النظام يتوهم أنه انتصر، في حين أن النصر العسكري يستوجب تتويجاً سياسياً يجهل النظام قاموسه.
من المحتمل أن روسيا بوتين تعاني من أزمة مشابهة، وإن كانت بطريقة مختلفة عن أزمة النظام. يتبين من مسالك الروس، في الفترة الأخيرة، تجاه النظام الكيماوي أنهم ربما يرغبون في التخلص من رأس النظام الذي بات يشكل صداعاً دائماً لهم، لكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك قبل ضمان استقرار مصالحهم في سوريا ما بعد الأسد، ومنها معاهدات طويلة المدى في مجال السيطرة على قواعد عسكرية واتفاقات اقتصادية مع شركات روسية وغيرها. لعلهم طرحوا هذه الأمور، أو لمحوا إليها، في لقاءاتهم مع الخطيب والمجموعة العلوية، جساً للنبض.
سواء لاقى الروس استعداداً عند بعض الجهات المعارضة لمقايضة رأس النظام بضمان المصالح الروسية أو لا، فالمنظور الروسي للحل هو منظور هوياتي قائم على ما يشبه المحاصصة في السلطة و/أو النظام الفيدرالي. الأمر الذي يلاقي ممانعة كبيرة من الفاعلين السياسيين، النظام ومعارضوه على السواء، ومن المحتمل أن يلاقي استحسان القوى السياسية الكردية فقط، باعتبار أنها تطالب أصلاً بنظام فيدرالي.
ويأتي «إعلان الوطنية السورية» (اختصاراً: الإعلان) على الضد من هذا التصور الروسي للحل، معبراً في ذلك، ليس فقط عن الموقعين عليه، بل كذلك عن رأي عام واسع، لكنه غير موحد، يرفض أي طرح من هذا النوع. هو غير موحد لأنه، أولاً، منقسم بين الموالين للنظام والمعارضين له، وثانياً، فيما بين هؤلاء الأخيرين بمختلف ألوانهم وتوجهاتهم الأيديولوجية. واقع الانقسام هذا هو ما يسمح لنا بوصف «الإعلان» بأنه نوع من المائدة المفتوحة التي تطمح لتلبية أذواق كل الناس. ولكن، وفي الوقت نفسه، يطمح الإعلان إلى سحب البساط من تحت جميع القوى السياسية والعسكرية التي سبق له وصفها، في المتن، بأنها قوى تفتيتية ومرتهنة للخارج وفي أحسن الأحوال فاشلة.
إنها مفارقة أن ينطلق الإعلان من هذا الوصف (الصحيح عموماً) للقوى الفاعلة، ليدعو إلى وضع معياري متخيل، قد يكون جميلاً وبلا عيوب على الورق، لكنه يحمل في داخله كل تناقضات الواقع السوري القائم. إذ لا سبب يدعونا إلى افتراض أن كل مظاهر الانقسامات الاجتماعية الحادة ومناخ الكراهية بين الجماعات ستزول بالنوايا الطيبة أو بمخطط معياري قائم فقط على «الإيمان» وفق نص الإعلان، أو باحترام التوقيع الشخصي وكأنه «إمساك بالشوارب» على دُرجةٍ تقليدية لأهل الشام.
لا يفيد كثيراً مناقشة نص «الإعلان» بالتفصيل، مع أنه يحتمل ذلك، فالأهم من ذلك هو روح الإعلان الذي يتكرر في كل بيان تأسيسي لتيارات جديدة تنشأ كل يوم، وكأن الأمر يتعلق بـ«حفظ الدرس جيداً» لأن التلميذ مقبل على امتحان. بهذا المعنى يبدو المنظور الروسي أكثر واقعية من منظور «الإعلان»، ولا أقصد المفاضلة الأخلاقية بينهما، فروسيا هي دولة احتلال لبلدي سوريا، إضافة إلى سجل جرائمها المشين في استهداف المدنيين والمنشآت الطبية، ودعمها للنظام الكيماوي وخططها بشأن «مناطق خفض التصعيد» و«المصالحات»، وصولاً إلى مسار آستانة وسوتشي اللذين استهدفا إفراغ قرار مجلس الأمن الخاص بإنهاء الحرب والانتقال السياسي من أي محتوى. لكن المقارنة السياسية تشير إلى واقعية روسية في التعامل مع الوضع القائم كما هو، مع انحياز لا جدال فيه للنظام، مقابل نص قائم على فرض وطنية سورية متخيلة بلا أي حوافز حقيقية غير «الإيمان» والالتزام بالوقيع.
لم توجد قط هوية وطنية للسوريين، بل هوية أسدية لسوريا، وقد شكلت ثورة آذار 2011 فرصة كبيرة لصناعتها، فرصة ضاعت بسبب مواجهة النظام الإجرامية الإبادية للثورة وفقاً لشعار «الأسد أو نحرق البلد» قبل أن تضاف جهود أخرى إلى جهود النظام لتقويض أي احتمال لسوريا أخرى. من أجل الحصول على فرصة جديدة لابتكار هوية وطنية سورية، يحتاج الأمر إلى حوافز مصلحية خلا منها نص الإعلان خلواً تاماً.
المصدر: القدس العربي