حسام أبو حامد
شهدت إيران، منذ أواخر الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، سلسلة حرائق وانفجارات ضربت مواقع حساسة، بدأ أولها، في 26 يونيو، مع انفجار في منشأة للصواريخ الباليستية، في بارجين قرب طهران، وكان أبرزها انفجار هزّ أهم مفاعل نووي لتخصيب اليورانيوم في نطنز في أصفهان (وسط). تناقضت الروايات الرسمية الإيرانية بشأن حصيلة الأضرار في المفاعل، وتحفّظت على أسبابه بحجج أمنية، لتبقى أسباب التفجير في دائرة الترجيحات، مع تقارير صحافية أشارت إلى تورّط أميركي إسرائيلي في الحادث. تمسّكت إسرائيل بردّها التقليدي الذي راوح بين التأكيد والنفي، مشدّدا، في الوقت نفسه، على عدم السماح لإيران بتطوير أسلحة نووية.
سواء كان الحادث نتيجة اختراق أمني (سيبراني، أو جوي، أو عبر وكلاء محليين) أو بسبب الصيانة الخاطئة، فذلك يحرج الحكومة الإيرانية، ويكشف عن فوضى سياسية تتزامن مع الإنهاك الاقتصادي جرّاء العقوبات الدولية، وانتشار فيروس كورونا، مع إصرارها على الاستمرار في برنامجها النووي، بعد أن استأنفت عمليات تخصيب اليورانيوم بوتائر أعلى، ردا على انسحاب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في مايو/ أيار 2018، من الاتفاق النووي (خطة العمل المشتركة الشاملة) من جانب واحد، وتشديدها العقوبات على طهران، وعدم تمكّن الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق من رفع الحظر المتجدد على التجارة مع إيران بشكل فعّال، لينهار الاتفاق نهائيا في منتصف 2019، تصاعدت على إثره المواجهات المتبادلة بين الولايات المتحدة ووكلائها في الخليج وبين إيران ووكلائها في الإقليم، وكثّفت إسرائيل استهدافها لمصالح طهران ووكلائها حتى البحر الأحمر.
بنت إيران، منذ العام 1979، استراتيجيتها العسكرية انطلاقا من الديمغرافيا، وبوصفها كيانا سياسيا لأمةٍ شيعيةٍ فارسيةٍ تشكّل أقليةً في بيئةٍ معادية، تتمتّع بموارد وقدرات عسكرية هائلة. وبالإضافة إلى المواجهة مع الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية في المنطقة، هناك إسرائيل، ودول الخليج العربية السنّية، لتقوم الاستراتيجية الدفاعية الإيرانية على فكرة “الحرب غير المتكافئة”؛ القائمة على استغلال نقاط ضعف العدو المتفوق والتحايل على نقاط قوته، ويلعب الردع الصاروخي فيها دورا مهما لتعويض الفارق الساحق في ميزان القوى الجوّية، وفكرة “الدفاع الأمامي” التي تفسّر الدور الهام الذي تلعبه تحالفاتها مع جماعاتٍ سياسية وعسكرية، من باكستان وأفغانستان شرقا إلى لبنان غربا، ومن سورية شمالا إلى اليمن جنوبا، وأهميتها بالنسبة لأمنها القومي. أما برنامجها النووي، وبغض النظر عن حقيقة سعيها إلى امتلاك سلاح نووي وفق المزاعم الإسرائيلية، فإن استخداماته السلمية المعلنة، على الأقل، تهدف إلى دعم الاقتصاد الإيراني، عبر تأمين 20% من الطاقة الكهربائية التي تحتاج إليها البلاد، وتقليل الاعتماد على ثروتها من النفط والغاز الطبيعي، لزيادة صادراتها النفطية، وضمان الحصول على مزيد من عائدات العملة الصعبة.
ومنذ انكشاف برنامجها النووي السري في أغسطس / آب من العام 2002 في نطنز بواسطة معارضين إيرانيين، استكملت الاستخبارات الإسرائيلية والغربية رواية المعارضة الإيرانية، لتكوين صورة شاملة لأنشطة إيران النووية، المستندة أساسا إلى الخبرة التكنولوجية والعلمية للعالم الباكستاني، عبد القدير خان، واتبعت إسرائيل استراتيجية في المواجهة مدعومة أميركيا، تنوعت تكتيكاتها لتشمل: التنصّت عبر العملاء، والتشويش على شبكات الشراء الإيرانية للحيلولة دون وصولها إلى التكنولوجيا الصحيحة، واستهداف أخرى في طريقها إلى إيران، أو تخريب المنشآت النووية الإيرانية عبر هجمات جوية وسيبرانية (أشهرها الهجوم عبر فيروس “ستوكس- نت” العام 2010)، وتصفية علماء منخرطين في البرنامج النووي الإيراني. وفي 2011، وقع انفجار في مستودع أسلحة تابع للحرس الثوري الإيراني قرب ملارد، أدى إلى مقتل 17 شخصا، منهم مؤسس البرنامج الصاروخي الإيراني، العميد حسن طهراني. ولعب التحريض الإسرائيلي والأميركي دورا مهما في استصدار قرار مجلس الأمن رقم 1696 العام 2006، مطالبا إيران بفتح منشآتها النووية للتفتيش (رفضته طهران)، وزوّدت الاستخبارات الإسرائيلية المجتمع الدولي بمعلوماتٍ استندت إليها قرارات المجلس التي فرضت العقوبات على طهران، بدءا بالقرار 1737 من العام نفسه، لتحديد الشركات الإيرانية والقطاعات المالية المستهدفة بالعقوبات.
أضرّت العقوبات المتلاحقة بالاقتصاد الإيراني، فاضطرّت إيران في العام 2013 إلى القبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتوقيعها العام 2015 الاتفاق النووي مع مجموعة “الخمسة +1”. استعادت إيران مليارات من دولاراتها المجمّدة، وأصبحت أقل عزلة، وأكثر عدوانية على الصعيد الإقليمي. كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، من أشد المعارضين للاتفاق، مقدّرا أنه يؤجّل تحقيق الرؤية النووية الإيرانية بين سنة وخمس عشرة سنة، ولا يلغيها، فتعهد بأن تعمل إسرائيل منفردةً في منع إيران من تطوير قنبلة نووية، مخادعا وملوّحا بالحل العسكري، ليكتفي بتصعيد المواجهة معها في سورية التي ستبرز، منذ ذلك الحين، ساحة رئيسية للمعركة، وحاول تعطيل الاتفاق بالبرهنة على خروق إيران له، فعرض على التلفزيون الإسرائيلي، في إبريل/ نيسان 2018 ما قال إنها أدلة على برنامج إيران السري للأسلحة النووية، لقي ذلك تجاوبا واقتناعا من الرئيس ترامب، ليعلن انسحابه من الاتفاق النووي، ومن زعماء خليجيين، في العربية السعودية والإمارات خصوصا، وجدوا مصلحتهم في التحالف مع إسرائيل، استعدادا لحرب مقبلة محتملة مع إيران.
تعمل دولة الاحتلال الإسرائيلي اليوم، بدعم أميركي، على تطويق الاستراتيجية الإيرانية التقليدية وشلّ فاعليتها، عبر السعي إلى تعطيل برنامجها النووي وإخضاعه للمراقبة الدقيقة، وتدمير البنية التحتية لمشروعها الصاروخي، وسحب ورقة “الدفاع الأمامي”، عبر استهداف مواطئ قدمها في سورية واليمن والعراق، والحيلولة دون وصول الدعم إلى وكلائها في المنطقة. ويتجلى الانسجام الأميركي مع هذا المسعى الإسرائيلي في انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي، ومطالبتها إيران بإعادة التفاوض حول صفقة جديدة بضماناتٍ أكثر، في ظل شروط تتخلى بموجبها إيران عن صواريخها الاستراتيجية، وتغيّر سلوكها العدواني في المنطقة بالتخلي عن حلفائها.
حتى لا تضع نفسها تحت ضغط “رد منتظر”، تجنّبت طهران توجيه اتهام مباشر إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، فالرد سيكون مكلفا، ومن المشكوك فيه أن تتورّط طهران بعمل عسكري مباشر. أما الرد في العراق، عبر المليشيات الشيعية، فإنه إنْ تكرّر، فسيسرع من خطى حكومة مصطفى الكاظمي، الساعية الى تقليص النفوذ الإيراني في العراق، وسيصبّ في صالح الولايات المتحدة التي تجري مفاوضاتٍ مكثفة مع الحكومة العراقية حول إعادة انتشار جديد لقواتها هناك، بينما فرضت إسرائيل تفوقها في الساحة السورية، وأنزلت بقوات الحرس الثوري الإيراني وحلفائه ضربات موجعة. قد تفضّل إيران التزام الصمت في هذه المرحلة على الأقل حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، على أمل أن تمنح هذه الانتخابات فرصة التخلص من ترامب، للدخول في مفاوضاتٍ بشأن برنامجها النووي بشروط أفضل مع جو بايدن، الأوفر حظا للفوز.
تعليقا على حادث الانفجار في نطنز، حذّرت وكالة نور نيوز، المقرّبة من الحرس الثوري الإيراني، من “إعادة النظر باستراتيجية المواجهة” مع أميركا وإسرائيل، في حال تجاوزتا الخطوط الحمراء، واستهدفتا المصالح القومية الإيرانية. وعلى الرغم من خياراتها المحدودة، قد يكون في ذلك إدراكا أوليا لضرورة إعادة تقييم إيران استراتيجيتها المتبعة وتقويمها، والتي ستكون، في كل حال، وصفة لمزيد من الحرب في المنطقة، لا وصفة للسلام.
المصدر: العربي الجديد