شريف عبد القدوس
ترجمة
مارينا سمير
السبت الماضي، وقفتُ أراقب ركام مقابر عائلتي في منطقة القاهرة التاريخية المعروفة بمدينة الموتى. ذلك الصباح، هُدِم الحائط الذي يفصل مقابرنا عن الشارع بواسطة بلدوزر. شرعت الحكومة في تمهيد مسار لمحور علوي بطول 17.5 كيلومترًا، يعبر من خلال مقبرة المدينة القديمة، لربط كوبري 6 أكتوبر بطريق المشير طنطاوي، وكانت مقابر عائلتنا، شأنها شأن أخريات كثر، عقبة في الطريق.
تحت الطوب والحجر المكسور يوجد المدفن، حيث رقدت رُفات جدتي لأبي وجدي وجد أبي لعقود. في الغرفة الصغيرة ذات الجدران البيضاء، استطعت بسهولة رؤية التجاويف في الرمال، حيث كانت توجد أجسادهم ـــ ثلاث بقع داكنة، نحيفة وطويلة. بقيتُ هناك لمدة دقيقة، لا أعرف بماذا أشعر، سوى أن المشاعر تغلي في مكان ما أعمق من معدتي.
قبل ذلك ببضعة أيام، اتصل بي والدي في منتصف الظهيرة. عندما أجبت، كانت كلماته الأولى: «أنا في المقابر». تحدث في جمل سريعة ومقتضبة. كان ينقل الأجساد إلى غرفة أخرى تحت الأرض في نفس الرقعة، ولكن في منطقة ستُنقَذ من التدمير. لقد تلقى إنذارًا قبل بضعة أيام أن هذا ما سيحدث، ولكنها كانت أول مرة أسمع فيها بما سيحدث. مستمعًا إلى صوت والدي المتألم عبر الهاتف، علمت ما أشعر به تحديدًا؛ غضب.
أرسل لي صورًا وفيديو لعملية النقل. رأيت رُفات الهيكل العظمي لجدي، الكاتب إحسان عبدالقدوس. جمجمته، قفصه الصدري، عظام سيقانه، وضعت على بعد سنتيمترات من رفات والده، الممثل والفنان محمد عبدالقدوس، لم يتبقّ الكثير منه. على بعد متر إلى اليمين ترقد جدتي، لواحظ المهيلمي، عمود القوة في العائلة، جسدها ما زال مُغطى بكفن.
ثلاثتهم الآن مدفونون على بُعد أمتار، حيثُ نأمل أن يُتركوا بلا إزعاج من قِبَل القوات التي داست على المدينة لوقت طويل، ساحقةً إياها بلا توقف أو اعتبار.
سألت أبي ما الذي شعر به عندما شاهد نقل رُفات والدته ووالده وجده. لوَّح بيده مُبعدًا السؤال. لم أضغط عليه.
بالخارج في الشارع، مر البلدوزر على حائط كل مقبرة وهدمها. وقفت مدرعات شرطة على مقربة، مُظهرة حضورها. وقفت العائلات وسط الأنقاض، بلا تعابير على وجوههم. لم تُترك أي مقبرة على الشارع. أدرجت اليونسكو هذه المنطقة كموقع تراث عالمي. هذا ما يسمونه من يديرون مدينتنا تقدمًا.
وهذه فقط البداية. لاحقًا، سيشيد طريق سريع ضخم، كتل ضخمة من الخرسانة ستقطع هذا المكان الحجري، حتى تعبر السيارات المسرعة فوق تواريخنا الجمعية للوصول لمدن المضاربة الجديدة الموجودة في الصحراء.
أعلم أن ما حدث معنا أفضل مما حدث مع الأغلبية، أعلم أن أشخاصًا آخرين وأماكن أخرى لقوا الأسوأ. أعلم أن عادل، الذي يعمل سائقًا لدى أصدقائي، أُعطى مهلة 24 ساعة فقط، قبل قدومهم للهدم، حتى ينقل الجثامين خارج مدافن عائلته إلى مدافن جديدة كليًا في جزء مختلف من المدينة. أعلم أن المحور يُبنى عبر أحد أحياء الجيزة، وأنه قريب جدًا من المساكن المجاورة له، لدرجة أن السكان بإمكانهم الوصول إليه ولمسه من شرفاتهم.
أعلم ما يحدث في مصر الجديدة، حيث شوهت سلسلة ضخمة من الطرق السريعة ما كان يومًا حيًا سكنيًا بديعًا. أعلم أن هذه الشرايين السميكة الجديدة، التي تشق طريقها عبر مدينتنا، تهدف إلى حمل شريان حياتها بعيدًا عن المركز المدجج والفوضوي إلى مستقبل كابوسي على أطرافها. أعلم.
ولكنني ما زلت أجد صعوبة في التصديق. كيف يحدث كل هذا من حولنا بدون رضانا؟ بدون أدنى اعتبار للذين يعيشون هنا؟ كيف تُمزق مدينتنا من تحت أقدامنا بمنتهى الوقاحة؟
مؤخرًا، سأل المؤرخ المعماري محمد الشاهد، على تويتر: «هل يمكن للدولة نشر/ استخدام مفهوم المصلحة العامة/ حق الاستملاك العام لتنفيذ مشاريعها إذا لم يمتلك ‘العامة’ الآليات اللازمة للمشاركة في صناعة القرار، على الأقل في الشئون المحلية؟».
في نظر الدولة، العامة هم فقط عقبة في الطريق. نحن لسنا أكثر من عائق يعرقل تدفق رأس المال والتنمية العمياء، وينبغي سحقه بالقوة.
هم لا يلعبون حتى وفقًا لقواعدهم. في 2018، نشرت وزارة الإسكان والتنمية العمرانية مرسومًا في الجريدة الرسمية يحتوى على حصر للمقابر التي توصي بوجوب الحفاظ عليها لكونها «تمثل حقبة تاريخية» و«ذات طراز معماري متميز». مدافن عائلتي مُدرجة في ذلك المرسوم، في «منطقة مقابر الغفير» مع عشرات آخرين. رقم القيد بكشوف الجهاز 216. «عائلات رضوان وعبدالقدوس. الكاتب إحسان عبدالقدوس».
إحسان عبد القدوس، أتذكر حين مات في 11 يناير 1990. كنت في الحادية عشر من عمري. كانت أول تجربة حقيقية لي مع الموت. أتذكر استيقاظي متأخرًا، وسيري إلى غرفة والدتي سائلًا إياها لماذا لم توقظني حتى أذهب إلى المدرسة. أتذكر أنني انهمرت في البكاء عندما أخبرتني أن جدي قد مات. أتذكر تلك المشاعر التي تعنيها «أبدًا» وقد استحوذ عليّ. لن أراه ثانيةً أبدًا. لن أتحدث إليه مرة أخرى أبدًا. كل مرة حاولت استيعاب حقيقة رحيله، أغرقتني فكرة «أبدًا» الخانقة.
أتذكر أجزاءً من الدفنة، كانت مكتظة بالناس. أتذكر صراخ أحدهم عندما أُخرج جسده المُكفن من النعش وأُنزل إلى القبر بالأسفل حتى يوضع إلى جانب والده. أتذكر أن الجميع ارتدوا نظارات شمسية، وأنني أردت ارتداء واحدة حتى أبدو مثل الكبار.
ماتت جدتي بعد أربع سنوات، في 7 يناير 1994. هذه المرة كان عمري 15 عامًا، وساعدت في حمل النعش. هذه المرة، تبعت والدي للقبر بالأسفل. أصرت جدتي على أن تُدفن بجانب جدي في نفس الغرفة. وضعناها بجانبه ورصصنا صفًا من الحجارة الصغيرة بينهما. كانت تلك آخر مرة دخلت فيها هذه الغرفة، حتى السبت الماضي، رأيتها مرة أخرى بعد 26 سنة. هذه المرة كانت فارغة.
أجسادنا ليست آمنة أبدًا ممن يحكمون هذا المكان. لا في الحياة، ولا حتى في الموت. ماذا عن ذكرياتنا؟ هل سيمحونها ببطء أيضًا مع المدينة؟
في 22 يونيو الماضي، أصدر مستشار الرئيس للتخطيط العمراني قرارًا ببناء ما أُطلق عليه «محور الفردوس». تمر المرحلة الأولى مباشرةً بشارع ابن قنصوة، حيثُ توجد مقابرنا. إذن لقد بدأ. يُكلف القرار وزارة الإسكان ومحافظة القاهرة بـ«تدبير السكن والمحال التجارية والمقابر الملائمة بدلًا من المباني المقرر إزالتها والتي تعترض مسار المحور». أظن أن علينا اعتبار أنفسنا محظوظين، حيث أننا لم نخسر كل شيء.
قبل بضعة أعوام، اصطحبني والدي إلى المقابر ليريني أين أضاف سلسلة من الغرف تحت الأرض. قال لي بابتسامة عابثة: «إنهم من أجلنا»، ضحكت. لقد ذهبوا الآن. يحاول أبي الآن -بعقلية المهندس- اكتشاف أين سنبني هذه الغرف الإضافية. أخاف أن أصارحه بأسوأ مخاوفي؛ أنني ربما سأضطر للرحيل، بالاختيار أو بالقوة. هل سأدفن هنا؟
عشت بالخارج لسنين طويلة، ولكنني عشت في هذه المدينة أكثر من أي مدينة أخرى. من المثير للغضب أن ترى مكانًا تحبه يُدمر، يُمحى، صُنع فيه الندوب مرارًا وتكرارًا، بدلًا من الاعتناء به وتحسينه. إن ذلك يحدث الآن أسرع من أي وقت مضى. بل إنهم قد أطلقوا على المحور اسم الفردوس، وهي كلمة تعني «النعيم».
المصدر: مدى