فوّاز حداد
قد يُقال بأننا نعيش عصر انفتاح على حرية الرأي، أحد مظاهره أننا نستطيع الاحتجاج على ما قد يلحق بنا من الأذى، ولو إهانة صغيرة، كرامة الإنسان لم تكن مصونة مثل ما هي حالياً. فلا يُشترط أن تتعرّض المرأة للاغتصاب لتتحرّك الشرطة للقبض على الجاني ومقاضاته والتشهير به، بل يكفي التحرُّش بالكلام، ليُعتَبر مهيناً لأنوثتها، أو التلميح لدينها أو ملابسها أو بدانتها. بات تغلُّب المرأة على خجلها من الاعتراف بأنها اغتُصبت ليس مستهجناً، وأصبح التكتُم عليه مستنكَراً.
اتّسعت دائرة ما يُعتبر مهيناً، مع أنَّ الإهانة نسبية، تختلف من بلد لآخر، ومن مجتمع لآخر، ولم يعد بالوسع ضبطها، إلى حد باتت تثير الاستغراب فعلاً: فجامعة كاليفورنيا على سبيل المثال ترى أنه من قبيل “العدوان العنصري البسيط” أن يُقال إن “أميركا أرض الفرص”، لأن ذلك قد يعني أنَّ من لا ينجحون لا ينبغي أن يلوموا إلّا أنفسهم، مثلما لا يحق انتقاد الطعام الصيني في أزمة كورونا.
بات من حق البشر ألّا يُهانوا، خاصّةً أنَّ هناك جماعات ومنظّمات تراقب وتلاحق وتقاضي المعتدي والمسيء، سواء كانت جماعة عرقية، أو دينية، أو سياسية… وربما لديها سلطة تتعدّى المراقبة، سلطة قد تكون فاعلة، ما يقنعنا أنَّ حرية الرأي، لا يُعبَّر عنها بشكل صحيح، ويحتاج البشر إلى الوقت، وربما الكثير من الوقت للاعتياد عليها، لكن ليس قبل وضع حدود لها قابلة للتغيير. فالعالم لم يعد لديه الاستعداد للصفح عن اعتداءات تسري في الخفاء، فالزوجة ليست مضطرَّة لتحمُّل العنف الزوجي. هذا الحق لا يقتصر على نساء العالم المتقدّم، بل تسرَّب إلى البلدان الأخرى، وأوّل ما تلقّفته النساء اللاجئات في البلدان الجديدة، تبدى اندماجهم فيها بارتفاع نسبة حالات الطلاق. لم يتصوَّر الزوج معاقبته على تعنيف زوجته أو التنمُّر عليها. بيد أنَّ الذي لم يعرفه هؤلاء الذين تمتعوا بهذه الحرية على حين غرّة أنّ الغرب ما زال يتلمّس طريقه فيها، مدركاً أن لها خسائرها أيضاً، وخسائر اللاجئين أكبر إن لم يندمج كلا الزوجَين معاً في المجتمع.
من جانب آخر، ليست قضية امرأة ورجل فقط، إنها قضية مجتمعات وبشر، ولئلا تكون هذه الحرية متوهّمَة، يجب على الحكومات التأقلُم معها، لأننا لم نشهد أسوأ من هذا العصر تضييقاً على الحريات وعلى رأسها حرية الرأي، فالحكومات تُكمّم الأفواه وتتحكّم بالأخبار، وتمارس الرقابة والتنصُّت بلا أي رادع، فتعتقل الصحافيّين الذين يُغطّون أخبار الفساد، وتلجأ إلى اغتيال المعارضين كما يحدث في روسيا. وهناك جماعات غير حكومية، وربما خارجة عن القانون، تفرض ما تريد بالقتل، فعصابات المخدّرات في أميركا اللاتينية تهدّد الشرطة والقضاة والصحافة، بينما الجهاديون يذبحون من يهين عقيدتهم سواء بكلمة أو تلميح، وفي حال سيطروا على الأرض، سجنوا وعذّبوا وحاكموا، ولا يوفّرون المسلمين من الإعدامات وقطع الرؤوس.
ما يستجرّنا إلى رحاب الأدب، من الذي يحدّد ما إذا كاتب أهان ديناً، وإذا كان يستوجب العقاب، وما نوع هذا العقاب؟ ففي سابقة مشهورة كانت فتوى الخميني ضد رواية “آيات شيطانية” قد أوقعت على سلمان رشدي عقوبة الموت. بعدها أصبحت عقوبة سارية لكل ما يمسّ العقيدة، كما حدث مع رسّامي الكاريكاتير الفرنسيّين الذين سقطوا برصاص “الجهاديين”، وغيرهم كثير، وفي بنغلاديش جرى ذبح المدوّنين العلمانيّين.
تلجأ السلطات عادةً إلى تطويق هذه الحوادث، ومنع انتشارها لما تُحدثه من شرخ وذُعر واضطراب مجتمعي، ما يوجب التساؤل عن الحرية التي يمارسها الطرف الآخر، وعن أسلوب التعبير عنها، خاصّةً عندما تتعدّى إهانة العقيدة الى قتل اللاجئين كما حدث في نيوزيلندا، أو استفزاز أقلية تَشعر بانها معرَّضة للاضطهاد بسبب دينها، كما حادثة حرق القرآن مؤخَّراً في السويد. قد يكون في التجرُّؤ على الأديان سعي إلى الشهرة، وهو طريق سهل قد يصبح مميتاً، لكن غالباً وراءه منظّمات عنصرية، تمارسه بموجب حرية الرأي… هل هذا تعبير سليم عنها؟ وهل في ضبطها ما يعتبر اعتداء عليها؟
قد يشعر الكتّاب والفنّانون في الغرب بتقييد حريتهم من ناحية منعهم من انتقاد الإسلام ولو بتقليل الاحترام نحوه. بالمقابل من حق المتديّنين ألّا تُهان عقائدهم. ألا تستدعي هذه الشكاوى من الأطراف جميعاً إجراء حوار نزيه تُصان فيه حرية التعبير، ولا تكون سبباً لارتكاب الجرائم وتمزيق المجتمع.
المصدر: العربي الجديد