مصعب عيسى
هنا عند حدود المنفى غرب الوطن قريبا من الجليد بعيدا عن شمس الرافدين التقيته
كان هادئا مثل انكيدو في صعوده نحو الوطن كل مساء.
يستقبل الغربة بانة وزفرة ثملتين بالشرود، ودخان سيجارة لا يتوقف، عله يذيب ثلج الياس المتراكم امام بوابة ذاكرته.
سألته ذات لقاء كم تبعد بغداد عن مدينة اوبن شرق المملكة البلجيكية فأجابني:
عمرا من الحنين …. وتراتيل من وحي الرافدين …تبعد بمقدار بعدنا عن الانسان الأول والديمقراطية الأولى في بابل تبعد بقدر ابتعادنا عن أنفسنا …وعن قيم العدالة والحرية التي اودتنا في معترك المنافي وقيدتنا ببطاقات لجوء يكاد حمورابي يقطر حزنا لو خرج اليوم من قبره وراى حال أبناء العراق العظيم
انه الدكتور ماجد عبود الربيعي استاذ جامعي في قسم السينما والتلفزيون/ اكاديمية الفنون الجميلة/ جامعة بغداد تولد 1969. ألف وشارك في تأليف 9 كتب منهجية ولديه 7 افلام سينمائية وثائقية وروائية قصيرة. عمل في قنوات العراقية والبغدادية وكربلاء والوطن كمخرج ومعد ومقدم برامج. حاصل على جائزة الابداع من وزارة الثقافة العراقية عام 2014 لمسابقة النقد عن بحثه الموسوم (السينما والظاهراتية مقاربة نقدية)
حاصل على جائزة مهرجان العالم العربي السينمائي في المغرب عام 2013 عن فيلمه المعنون (الصمت الاخير). عضو نقابة الفنانين العراقيين.
بداية لو بدأت معك دكتور ماجد، هل لك ان تعطينا لمحة وتحدثنا عن تاريخ ومسيرة السينما العراقية والتحولات التي طرأت عليها منذ ولادتها ؟
شهدت بغداد اول عرض لفيلم سينمائي عام 1909 واستمرت العروض تباعا مع تزايد نسبة الاقبال الجماهيري وتوجه التجار نحو الاستثمار في بناء دور السينما واستيراد الافلام المتنوعة وافتتحت العديد من السينمات الصيفية..
وكان فيلم (ابن الشرق) اول انتاج لفيلم سينمائي عراقي عام 1946 وتبعه العديد من الافلام السينمائية ذات المستويات الفنية المتباينة حتى أنتج فيلم (سعيد افندي) عام 1957 وكان اول فيلم بمواصفات سينمائية عالمية كون اغلب الافلام العراقية انذاك كانت تميل للاستعراض والميلودراما والسمة التجارية ومتأثرة بطابع الفيلم المصري
ويمكن عد الفترة مابين عام 1967 وعام 1980 هي الفترة الذهبية للسينما العراقية كما ونوعا حيث شهدت انتاج افلام مثل الحارس للمخرج قاسم حول والجابي لجعفر علي والظامئون لمحمد شكري جميل والمنعطف والاسوار والرأس ويوم اخر وغيرها من الافلام المهمة والتي حصل اغلبها على جوائز وشهادات تقديرية وتنويهات نقدية في العديد من المهرجانات السينمائية المتخصصة..
وشهدت السينما العراقية نكوصا وتراجعا على مستوى الكم والمضمون الفكري خلال فترة الحرب العراقية الايرانية بسبب تجيير السينما لدعم المجهود الحربي وتجميل صورة الحرب ولذا كانت اغلب الافلام المنجزة حربية او قريبة من هذا التوجه ولم تحمل افكارا انسانية او معالجات لقضايا اجتماعية موجودة على ارض الواقع ومن اهم الافلام التي انتجت آنذاك (القادسية والمسألة الكبرى والحدود الملتهبة شمسنا لن تغيب والفارس والجبل وغيرها)..
وجاء عقد التسعينيات لينهي الامل بعودة الحياة للسينما العراقية مع اشتداد الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق بعد غزو صدام للكويت وخصص ماتبقى من مخزون الشرائط السينمائية لانتاج فيلم الملك غازي الذي يؤصل لفكرة الملك غازي بضم الكويت للعراق عام 1938..
وبعد سقوط نظام صدام ودخول قوات الاحتلال الاميركي للعراق شهدت السينما العراقية انفراجا كبيرا وانتجت العديد من الافلام المهمة نتيجة لرفع الرقابة وعودة الكثير من المخرجين العراقيين المحترفين والمعروفين عالميا فضلا عن توفر الدعم الفني والمادي والاعلامي للفيلم العراقي المعاصر وانتجت افلام مهمة وبمواصفات عالية مثل فيلمي احلام وابن بابل للمخرج محمد الدراجي وغير صالح للمخرج عدي رشيد وصمت الراعي لرعد مشتت والسياب لجودي الكناني وسر القوارير لعلي حنون وغيرها..
كما انتجت العديد من الافلام السينمائية الروائية والوثائقية القصيرة مما لايسع المجال لذكرها هنا والتي حققت شهرة عالمية وحصدت جوائز كثيرة في مهرجانات معروفة مثل مهرجان كان وبرلين والبندقية وروتردام ونيويورك القاهرة ودمشق وابو ظبي ودبي وتونس وغيرها
هنا اود ان اسالك دكتور عن علاقة السينما بالاعلام وتاثرها وتاثيرها بالمجتمع وقضايا الشعب ؟
مما لاشك فيه ان السينما تعد احدى اهم وسائل الاعلام والاتصال الجماهيري حضورا وانتشارا وتأثيرا لقدرتها الفائقة على الوصول لمختلف الجماهير حول العالم دون الحاجة الى لغة منطوقة وحسبها الاتكاء على عناصر لغتها الصورية والصوتية والايحائية
وتأريخيا يمكننا الاستشهاد بالكثير من المنعطفات السياسية والعسكرية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية التي احدثتها السينما عبر تاريخها الممتد منذ عام 1895 ولحد الان ونشير الى التوظيف المميز الذي استخدمته الثورة البلشفية بعد عام 1917 في دعم وتصدير توجهاتها الشيوعية والاشتراكية ذات الصبغة الثورية والنضالية عبر افلام مثل المدرعة بوتومكين والاضراب والام واكتوبر وغيرها من الافلام المعروفة عالميا وكذلك اشتهر النازيون باستثمار الطاقة التاثيرية الهائلة للفيلم السينمائي عبر افلام مثل انتصار الارادة وصعود الرايخ والأمة وغيرها فضلا عن عشرات الافلام الوثائقية التي اشرف عليها شخصيا وزير الدعاية النازي غوبلز
كما لايسعنا الا ان نشير الى الاستثمار الهوليوودي لقوة الفيلم السينمائي اقتصاديا وسياسيا وفكريا وكذلك يمكننا التعمييم بأن معظم الثورات والانظمة لاسيما الشمولية منها استغلت السينما لتحقيق اهدافها والترويج لمبادئها مما يدلل على جماهيرية السينما وعمق علاقتها بالناس وتأثيرها في قناعاتهم واتجاهاتهم ويمكن عد ذلك كنوع من (القوى الناعمة) والفاعلة في تكوين الرأي العام ويجب الاشارة الى ان السينما قد اخذت مظهرا تنبؤيا او استغلت لتحقيق الكثير من الأحداث العلمية والسياسية والاقتصادية حيث تنبأت بالصعود الى القمر عبر فيلم رحلة الى القمر عام 1903 وانهيار الاتحاد السوفياتي واحتلال الكويت وتفجير برجي التجارة في نيويورك وظهور ثورات الربيع العربي وانتشار وباء الكورونا ومجيء حاكم اسود لاميركا وغيرها من الاحداث المعروفة
بعد ظهور شبكات الانترنت وتصاعد وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة هل لك ان تحدثنا الى أي مدى وصلت السينما بتجسيدها لقضايا الحراكات الشعبية العربية او الثورات العربية وتفاعلها مع قضايا الشارع؟
لا اعتقد بأن السينما باتت قادرة على التغلب على تأثير شبكة الانترنت على الجماهير بل يمكن لها مسايرة هذه التوجه الجماهيري نحو وسائل التواصل الاجتماعي والدليل ان الحراك العربي او ثورات ما يسمى بالربيع العربي قد استعانت بالأنترنت للتحشيد لمظاهراتها والترويج لأفكارها وتوجهاتها ولاسيما الفيسبوك..
كما ان التكلفة العالية لميزانية الافلام السينمائية وطول فترة انتاجها ربما تجعلها لا تستطيع منافسة البرمجيات السهلة لتقنيات الانترنت وسرعة تصنيع الافلام القصيرة والمقاطع الصورية ذات التأثير الكبير في وجدان المشاهدين
وهذا لا يعني بأي حال من الاحوال اضمحلال السينما ولكن واقعيا يجب ان ننتظر وبموضوعية لما حل بالمسرح والتلفزيون والاذاعة وغيرها من الفنون التقليدية التي اصبحت لا تستطيع مقاومة الانترنت ومحتوياته وحسبها ان تتلمس السبل للبث عبر الانترنت والبحث عن مشاهدات عالية او الوصول لمتلقيها
وختاما يمكننا التشبيه بأن السينما حالها كحال أي مهنة كلاسيكية وصلتها الحداثة وما بعد الحداثة فأضعفتها وجعلتها تلهث ورائها.