رأي مصير
قامت الثورة الفلسطينية المعاصرة على أكتاف اللاجئين الفلسطينيين، وقدموا منذ ارهاصاتها الأولى وطيلة محطاتها الكفاحية، مداداً من التضحيات الغالية، انطلاقاً من إيمانهم الراسخ أنها الطريق إلى استعادة الحقوق الوطنية كافة، والطريق إلى تحررهم الناجز وعودتهم إلى أرض الآباء والأجداد. رغم كل المحطات التاريخية التي واجهت الثورة في الأردن ولبنان، بقيَّ اللاجئون في دول الطوق والمنافي جندها المخلصين وأبناءها الأوفياء. وعندما اندلعت الانتفاضة الأولى في الداخل الفلسطيني نهاية الثمانينات، وجدوا فيها امتدادهم الثوري ومصدر تجدد آمالهم وتطلعاتهم. فكانوا سندها المعنوي وصدى صوتها العارم. تمسّكوا ودافعوا طيلة تلك المحطات عن منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت ممثلهم الشرعي الوحيد. غير أن جنوح القيادة الفلسطينية نحو التوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993، وما نجم عنه من تنازلات وطنية فادحة على حساب حقوقهم، لاسيما بعد شطب ثمانية مواد أساسية من الميثاق الوطني الفلسطيني في الدورة (21) للمجلس الوطني الفلسطيني، بالتوازي مع تغيير الخطاب الرسمي الفلسطيني، بما يتساوق مع مشاريع تجزئة الحقوق الفلسطينية، وتحوير مفهوم حق العودة، واقتصاره على أراضي الدولة الفلسطينية الموعودة وفق اتفاق أوسلو. كل تلك الانحرافات الخطيرة عن ثوابت المشروع الوطني الفلسطيني، والتي كشفتها مسارات التفاوض العبثية بين قيادات أوسلو وقادة الاحتلال الصهيوني، أوضحت حجم استضعاف دور اللاجئين، وتجاهل مكانتهم الوطنية، والقفز عن حقهم المنصوص عليه في الشرعية الدولية بموجب القرار 194.
كان تهميش وإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية، على حساب تضخيم دور السلطة الفلسطينية، هو الترجمة الفعلية لمسلسل إدارة الظهر لملايين اللاجئين، ممن يشكلون قرابة نصف الشعب الفلسطيني من الموزعين خارج وطنهم. ونتيجة لتلك التحولات الدراماتيكية في الواقع الوطني، شعر اللاجئون بأنهم أصبحوا عبئاً فائضاً في برامج ودوائر صنع القرار الفلسطيني، وتم التخلي عنهم من كافة الجوانب الوطنية والإنسانية. ولم تكن الشعارات الجوفاء التي تأتي على ذكرهم في خطابات القيادات الفلسطينية، سوى ذراً للرماد في العيون، بهدف تسكين مخاوفهم ريثما يجرف زمن التنكر كل آمالهم وتطلعاتهم. بينما كشفت خلافات وصراعات الفصائل في حقبة السلطة القائمة تحت حراب الاحتلال، عن مخاطر الانقسام الوطني الذي حدث عام 2007 بين فتح وحماس، وآثاره الكارثية في تقطيع الأوصال بين غزة والضفة، واستغلال الاحتلال الصهيوني، لحالة الضعف والتآكل في النظام السياسي الفلسطيني المنقسم على نفسه، لتوسيع شأفة الاستيطان السرطاني في الضفة، وتحويل أجهزة السلطة العسكرية والأمنية إلى حامية لأمنه تحت غطاء التنسيق الأمني. فيما أدى حصار غزة بفعل التواطؤ بين الاحتلال والنظام المصري، ومع توغل أسلوب حماس السلطوي في إدارة شؤون الغزيين المحاصرين، إلى دفع الكثير من ذوي الكفاءات والشباب العاطل عن العمل للتفكير بالهجرة بأية وسيلة توفرت.
طالت آثار الانقسام الوطني الذي تمادى أفقياً وعامودياً، حتى تلك الشرعيات التي انتجها اتفاق أوسلو، سواء فيما يتعلق بمؤسسة الرئاسة أو مؤسسة المجلس التشريعي، وكليهما أصبحا مثلومان في شرعيتهما. فالرئيس محمود عباس الذي انتخب عام 2005، والذي كان يتوجب أن تنتهي ولايته وفق القانون الأساسي عام 2009، ما زال قائماً على عمله بحكم الأمر الواقع إلى يومنا هذا، والمجلس التشريعي الذي تم انتخابه عام 2006، والذي تنتهي ولايته أيضاً في عام 2009، لم يلتئم بطريقة شرعية بعد حدوث الانقسام عام 2007، وانشطر بدوره تبعاً للصراع بين السلطتين، حتى عندما صدر قرار حله عام 2018، ثارت العديد من المناقشات القانونية حول مدى مشروعية ذلك. أما مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية (المجلس الوطني – اللجنة التنفيذية – المجلس المركزي) فقد تآكلت شرعيتها القانونية خلال العقود الثلاثة الأخيرة. عدا عن ضمور أدوار تلك المؤسسات والدوائر الملحقة بها، والتي تم تقزيمها وإخراجها أحياناً من براد الموتى وفق اعتبارات موسمية، وفي تجاهل صارخ لضرورات إعادة بناء المنظمة، كمطلب وطني مُلّح تم صمُ الآذان حياله، من القابضين على قرار تلك المؤسسات.
كلما كان يتطاير الخطر الذي أحدثه الانقسام على القضية الفلسطينية برمتها، كان يستيقظ الحديث مجدداً عن أولوية الحوار الوطني، لإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، ويلتقي المنقسمون في جولات ولقاءات بين الفينة والأخرى، رعتها عدة عواصم عربية طيلة السنوات الماضية، ولم تصل إلى أية نتيجة سوى بيانات تبعث الآمال، سرعان ما تبددها وقائع الانقسام المتمادية. فيما كانت تتزايد طردياً المخاطر والتحديات التي تعصف بالواقع الفلسطيني، في مختلف ساحاته وميادينه. ولعلَّ النكبة الثانية التي ألمّت بفلسطيني سورية منذ العام 2011، كانت الشاهد الأكبر على بؤس تعاطي الفصائل الفلسطينية وقيادة المنظمة، مع معاناة وآلام أحد أكثر تجمعات اللاجئين نشاطاً وحيويةً، والذي حمل مشاعل الثورة الفلسطينية المعاصرة، وقدم تضحيات كبيرة في مختلف المراحل والمحطات، ولم يلقَ في محنته سوى الإنكار والخذلان ممن يدّعون تمثيله، بل وناله الكثير من الأذى على يد تلك القيادات التي احتضنها ومحضها ثقته الوطنية.
في ضوء تلك النتائج الكارثية وحصادها المرير، الناجمة عن تدهور المشروع الوطني، بالتلازم مع انهيارات متتالية في النظام الرسمي العربي، جاءت كلاً من صفقة القرن ومعاهدات إبراهيم، للتطبيع بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني تتويجاً سافراً لها. في حين استحالت محطات أوسلو والانقسام الوطني، إلى عنوان لتجزئة وحدة الأرض الفلسطينية، وتحويل الشعب الفلسطيني إلى شعوب مشتتة، لكلٍ منها أولوياته واهتماماته ومشكلاته. أخيراً وعندما شعرت قيادات حركتي فتح وحماس بوجود متغيرات دولية وإقليمية وعربية، باتت تحشرهم بزوايا حادة. عادتا إلى الاتفاق على المصالحة بينهما، وتوافقوا على خوض الاستحقاق الانتخابي لترميم شرعيات مؤسسات السلطة، بعد طول تهرب ومراوغة، وأصدر أبو مازن مراسيم رئاسية، حددت انتخابات المجلس التشريعي في 22مايو /أيار المقبل، وانتخابات الرئاسة في 31 يوليو/ تموز، على أن تكون انتخابات التشريعي وفق المراسيم الصادرة، المرحلة الأولى من انتخابات المجلس الوطني، على أن يتم استكمال انتخابات الأخير في 31 أغسطس/ آب، وفق النظام الأساسي للمجلس و”التفاهمات الوطنية”.
أظهرت هذه الخطوة بدورها، الدوافع الحقيقية التي تحكم رؤية الفصائل الفلسطينية، تجاه فهما السلطوي الخاص لمعالجة أزمة العمل الوطني الفلسطيني، وهي محاولة مكشوفة للالتفاف على المعالجة الوطنية المطلوبة، والتي كان يجب أن يكون مفتاحها ومدخلها منذ عدة سنوات، إعادة تصويب المشروع الوطني الفلسطيني، من خلال مراجعة شاملة وجذرية، لتجارب وأداء الطبقة السياسية التي راكمت فشلاً ذريعاً، في إدارة الصراع مع الاحتلال، وفي إدارة شؤون الشعب الفلسطيني، وانخرطت في مسارات التفاوض، دون استراتيجية وطنية عامة تضبط تحركاتها ومواقفها. فارتضت بيع أوراق القوة الفلسطينية، وأهمها دور اللاجئين كحامل أساسي للمشروع الوطني، مقابل الركون إلى أوهام الحصول على دولة فلسطينية، لم يدّخر الاحتلال جهداً في تقويض مقوماتها السيادية بكل دأب وتعنت. علاوةً على دور تلك القيادة في تهميش وإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية، وركوبها كمطية لأغراضها السلطوية، ومسؤوليتها الفادحة، عن إخماد روح الكفاح الوطني من نفوس الشعب الفلسطيني، وإفسادها للمناخ العمومي وإنتاج فئات مستفيدة من وجودها، على حساب المصلحة الوطنية العامة. غابت تلك المراجعات كلياً عن أذهان قادة فتح وحماس والفصائل الأخرى، تحت سطوة الحسابات التكتيكية والمصلحية، التي كما أطلقت خلافاتهم حكمت بوحيها مصالحاتهم. مع غياب والأرجح تغييب تلك المراجعة، تم القفز كالعادة عن استحقاق إعادة ترتيب البيت الداخل الفلسطيني، الذي تم اختزاله من قبلهم بترتيب البيت السلطوي، مع أن التسلسل الوطني والعقلاني في المعالجة، كان يستوجب البدء أولاً، بإعادة تعريف المشروع الوطني، من خلال رؤية فكرية وسياسية جديدة، تُعيد الربط والتكامل بين تجمعات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وتقوم على مقاربة تصون حقوق الكل الفلسطيني دون اجتزاء أو تفريط، وتؤسس لمرحلة فارقة تستنهض قوى الشعب في كل مكان وبمختلف طاقاته وكفاءاته.
خلافاً لما يجب أن يكون أولوية أية توافق وطني، يقوم على تصويب مسارات العمل السياسي الفلسطيني طيلة المراحل الماضية، جاءت خطوة الانتخابات في محاولة لإعادة تدوير أزمة الفصائل الفلسطينية تحت سقف أوسلو. ولا يُغير من ذلك شمول المجلس الوطني الفلسطيني بالانتخابات المزمع إجراؤها، فمن الناحية العملية، لا يمكن إنتاج مجلس وطني جديد وفق “تفاهمات وطنية” من منظور الفصائل، بحكم عودة منطق المحاصصة في اختيار أعضاء المجلس، وفق تعويذة الفصائل نفسها باستحالة إجراء انتخابات المرحلة الثانية لأعضاء المجلس. سيما أن الوقت المحدد لاستكمال انتخابات أعضاء المجلس، في 31 أغسطس/ آب المقبل، لن يسمح بأكثر من اللجوء إلى تعيينات أعضائه وفق المحاصصات الفصائلية المكشوفة. أما من الناحية المبدئية، ففي استمرار هذه العقلية في إعادة ترميم المؤسسة الوطنية التشريعية الأولى، بمثابة تضليل وتلاعب مفضوحين، طالما أن مقومات إعادة بناء مجلس وطني، يمثل بعدالة وإنصاف الثقل النوعي للاجئين الفلسطينيين، يمر من خلال فتح حوار وطني شامل، بمشاركة الشخصيات والكتل المُستقلة، التي تشكل الغالبية في المجتمع الفلسطيني، وأن يكون لأصواتها ومطالبها حول استنهاض المشروع الوطني، دوراً أساسياً في صياغة الرؤية الكليّة للأولويات والمهام الوطنية، القادرة على تجديد دماء الحركة الوطنية، من خلال مشاركة الشباب والكفاءات المتعددة بين أوساط اللاجئين، وتفعيل أدوارها ضمن برنامج وطني، يجيب على أسئلة وتحديات تراكمت، على ضفاف الفشل المزمن في التجربة الوطنية. بيد أن تجاهل الطريق الأصوب لمعالجة ما أفسده دهر القيادات والفصائل المنفصمة، عن معاناة وحقوق شعبها وتطلعاته، وإصرارها على تجريب ما ثبت عقمه وأضراره الفادحة، وذهابها نحو تسويات ومساومات حزبية، على حساب الشعب الفلسطيني، صاحب المصلحة العليا في التغيير الوطني، ما يدفعنا اليوم للقول: أن الرهان على هذه الطبقة السياسية وعلى انتخاباتها التجميلية لواقعها المنزاح عن متطلبات النهوض والتغيير في الواقع الفلسطيني، بات يفرض تحركاً شعبياً واسعاً، عماده ومحركه اللاجئون الفلسطينيون، وكل المتمسكين بخيار التحرر الوطني من أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. لا يبدو أن هناك طريقاً آخر يمكن البناء عليه حاضراً ومستقبلاً، للدفاع عن عدالة القضية ووحدة أبنائها، وتحصين الحقوق الوطنية من التفكك والذوبان، سوى من خلال البدء بمهمة تنظيم صفوف اللاجئين، وتحشيد أصواتهم وطاقاتهم، وإعادة الاعتبار لأدوارهم المسلوبة ومكانتهم المحتجبة. ليس من السهل تنكّب هذا الطريق الشاق في ظل مناخات التراجع والتيئيس التي تظلل حياة اللاجئين أينما كانوا، لكن من أوقدوا مشاعل الثورة جيلاً بعد جيل، ولم يتخلوا عن حلمهم الفلسطيني العنيد، من حقهم وواجبهم أن ينهضوا لمهمة الدفاع عن قضيتهم، بعد أن فشل من تولوا زمام أمرها. ما أحوجنا اليوم إلى إطلاق ورشة وطنية للتفكير والبحث بمسؤولية واقتدار، عن صيغ عملية خلّاقة ومُبدعة، تسهم في إحياء الإرادة الجمعية، واجتراح بدائل وطنية على أسس تشاركية وديمقراطية، تستفيد من دروس التجربة الفلسطينية الطويلة، وتفتح أفقاً جديداً أمام الأجيال الفلسطينية الناشئة، التي تختزن إمكانيات وطاقات هائلة، وقدرات مذهلة على العمل والعطاء، ورغبة قوية للعبور إلى فضاءات النهوض والتغيير.