ينبغي تذكُّر أن ما يجري ليس معركة بين طرفين متساويين. إنه صراع أحد طرفيه واحدة من أقوى القوى العسكرية في العالم، المدعومة من الولايات المتحدة، والعازمة على حرمان وإذلال شعب مسلوب من ميراثه وحقوقه وممتلكاته. وهذا مثال مخيف على الاستعمار الاستيطاني العنيف المستمر، وعجز العالم عن رؤية الفلسطينيين على أنهم بشر معذَّبون، يستحقون أن يكون لديهم ما لدى جيرانهم ومحتليهم اليهود الإسرائيليين الأقوياء. وإذا لم يجبر المجتمع الدولي إسرائيل على التعامل مع الأسباب الجذرية لهذه الكارثة، فسوف تتكرر المأساة نفسها مرة بعد مرة.
* *
بينما تتناوبني مشاعر الحزن والغضب بسبب التصعيد المتوقع للعنف في إسرائيل/ فلسطين، فإنني أتعجب مرة أخرى من القدر الهائل من سوء الفهم والتقدير الذي يخالط وصف الأحداث بينما تتكشف هناك، والسيناريو الذي يؤطر معظم التقارير الإعلامية السائدة. (في الآونة الأخيرة، كانت صحيفة “نيويورك تايمز” استثناءً يستحق الملاحظة).
ما تزال القصص عن أن “لكل من الجانبين أسبابه، لكن إسرائيل هي الضحية” تتبع نمطًا متوقعًا: اليهود الإسرائيليون، الذين ما يزالون يعيشون في ظل المحرقة، يعودون إلى منازلهم التي حقهم المشروع، ثم يقاتلون من أجل كل شبر مما هو حق لهم. وهم يواجهون مراراً وتكراراً إرهابيين عرباً عنيدين يهاجمون المدنيين الأبرياء ويجب سحقهم بكل القوة التي تحت تصرف الجيش الإسرائيلي. ليس مرة أخرى أبداً! أضف إلى ذلك الحديث عن “حماس” والمسلحين الإيرانيين الذين “بالكاد بشر”، واليهود الأرثوذكس والمستوطنين المتطرفين المسلحين والعدوانيين الذين يحرضهم الجنود الإسرائيليون والذين يدافعون عن وعود الله ويسيرون بتحد عبر القدس وهم يهتفون “الموت للعرب”، وسوف يكتمل لديك السرد. وتشير الأمم المتحدة، ومجموعة من جماعات حقوق الإنسان، والمحكمة الدولية، إلى جرائم مختلفة ضد الإنسانية ترتكبها إسرائيل، بينما يعبر الإسرائيليون عن إحباطهم ويحتجون على الظلم، في تقمص لدور الضحية مرة أخرى. وتظل الولايات المتحدة صامتة بشكل لا يُصدّق بالنظر إلى هذا القدر الهائل من الأسلحة التي لدينا. هلّا يقوم الطرفان بخفض التصعيد فحسب، لو سمحتم؟
ما المُختلف هذه المرة؟
بينما كانت هناك انتفاضات للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل ضد مصادرة الأراضي والانتهاكات الأخرى، ودعم للفلسطينيين الذين يعانون في المناطق الفلسطينية (يتبادر إلى الذهن “يوم الأرض” في العام 1976)، يحتج الفلسطينيون الآن في عكا وحيفا ويافا واللد والناصرة والرملة بقوة وبصوت عال. وقد يسمي رئيس بلدية اللد هذا “ليلة الزجاج المكسور” (1)، لكن المواطنين الفلسطينيين وصلوا إلى نقطة التوتر القصوى، وأصبحوا غير قادرين على الاستمرار في تحمل 72 عامًا من السياسات العنصرية والاستبعادية التي انتهجتها الحكومة الإسرائيلية، وهجماتها الأخيرة في القدس، وميلها المتزايد نحو الأحزاب السياسية اليمينية الفاشية المتطرفة.
ربما تكون الحكومة الإسرائيلية قد أخطأت في الحسابات، على الرغم من أنه من المحتمل كثيراً أن يكون نتنياهو المخادع قد اعتقد أن إثارة حرب سيحشد الشعب الإسرائيلي الممزق ويحسِّن فرصه الشخصية في الظهور مرة أخرى مثل “هوديني” (الساحر الذي يتقن الاختفاء والظهور) كمرشح مقبول -والبقاء خارج السجن، بطبيعة الحال. وأظن أن معظم السياسيين الإسرائيليين يعتقدون أن أي شيء يسبب شرخًا في العلاقة المختلة أصلاً بين حماس والسلطة الفلسطينية، ويوفر ذريعة لاغتيال بعض من قادة حماس، سيكون مفيداً لإسرائيل أيضًا. وقد وضعت إسرائيل عصاً مسبقاً في دولاب الانتخابات الفلسطينية التي ألغِيت الآن من خلال حرمان سكان القدس الشرقية من حق التصويت، مما زاد الكرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي يضربها الوباء مسبقاً.
على الرغم من أن المسؤولين الإسرائيليين يزعمون أن السيناريو المعتاد لـ”مؤامرة حماس لتدمير إسرائيل” الذي يمكنني قول أنه محاولة شنيعة لتشتيت الانتباه، فإن أسباب اندلاع الغضب الحالي يمكن فهمها بطريقة أدق على أنها تصاعد آخر في النكبة المستمرة التي بدأت قبل وقت طويل من العام 1948.
كان سكان حي الشيخ جراح في القدس الشرقية قد طُردوا من منازلهم في حيفا ويافا على يد الجنود الإسرائيليين في العام 1948. وقد أسكنت الحكومة الأردنية 28 عائلة منهم في الشيخ جراح في خمسينيات القرن الماضي بالتنسيق مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”. وانتقلت هذه العائلات إلى منازل كانت قد بنتها عائلات فلسطينية ثرية فرت من الشوارع المتعرجة المزدحمة في البلدة القديمة في أوائل القرن العشرين، وكذلك إلى منازل مبنية حديثًا. وسميت المنطقة باسم الطبيب الشخصي للقائد الإسلامي صلاح الدين، الذي كان قد استقر هناك عندما استولت الجيوش الإسلامية على المدينة من الصليبيين المسيحيين في العام 1187.
في الستينيات، أبرمت العائلات صفقة مع الأردن (الذي كان يسيطر على المنطقة حتى العام 1967) لتصبح مالكة لمنازلها. وحصلت على صكوك ملكية الأراضي الرسمية مقابل التنازل عن صفة اللاجئ، مع تدابير الحماية الدولية الخاصة بهذه الصفة. وقدمت الحكومة الأردنية مرارًا وثائق تثبت ملكية الفلسطينيين لهذه العقارات. وبعد حرب 67، وضعت الحكومة الإسرائيلية خطة استيطانية للمنطقة، تسمى “الحوض المقدس”، والتي تتضمن بناء سلسلة من الوحدات السكنية للمستوطنين والمنتزهات حول البلدة القديمة وإزالة منازل الفلسطينيين بالمصادرة المباشرة والمعارك القانونية المضنية التي لا تنتهي.
وباستخدام القوانين الإسرائيلية التي تسمح لليهود باستعادة ملكية الأراضي التي فقدوها في العام 1948، إضافة إلى مجموعة من الوثائق المزورة، طعن المستوطنون في الملكية الفلسطينية، وفازوا مرارًا وتكرارًا في المحاكم الإسرائيلية. أما أن تسمي الحكومة الإسرائيلية ما يجري بأنه مجرد “نزاع عقاري” فشأن غير نزيه بطريقة يتعذر فهمها. وغني عن القول إن الفلسطينيين الذين فقدوا منازلهم وممتلكاتهم في القدس الغربية، أو في أي مكان في إسرائيل –إذا كان ذلك يهم- لا يتمتعون بمثل هذا الغوث القانوني. وهناك أكثر من عشرين ألف منزل فلسطيني معرضة حالياً لخطر الهدم في المدينة.
بينما واجه الفلسطينيون عمليات الإخلاء الجديدة، تصاعدت التوترات، وكان شهر رمضان يشرف على نهايته عندما اختارت الحكومة الإسرائيلية هذه اللحظة لمنع الفلسطينيين من خارج القدس من دخول المسجد الأقصى في واحد من أقدس أعيادهم الدينية. واندلعت أعمال العنف بشكل أكبر في ما يُسمى “يوم القدس”، وهو احتفال قومي يهودي صاخب بالاحتلال الإسرائيلي للمدينة في العام 1967، والذي أضاف الملح إلى الجرح المتقرح أصلاً. واقتحمت شرطة الاحتلال المسجد الأقصى، وأطلقت الرصاص المطاطي والقنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع على المصلّين الفلسطينيين وآخرين من الذين يلقون (على نحو غير مستغرب) الحجارة، (السلاح المفضل للمحرومين، والغاضبين، والمعرضين للإذلال). وقد أصيب في المواجهات ثلاثمائة وثلاثون فلسطينياً بجروح.
ليس من المستغرب أن تكون “حماس” قد شعرت بضرورة الرد على هذه الاستفزازات المتكررة. ولا بد لي من التساؤل عما إذا كانت هذه الاستفزازات متعمدة في الحقيقة. وعلى مدار الأيام القليلة الماضية، أصابت المئات من الصواريخ التي أطلقتها “حماس” عدة مدن إسرائيلية، مما أسفر عن مقتل سبعة أشخاص حتى كتابة هذه السطور، وقصفت القوات الإسرائيلية القطاع الفلسطيني مرارًا وتكرارًا، مما أسفر عن مقتل أكثر من 113 فلسطينياً وإصابة 530 آخرين. ولا شك أن المزيد من الموت والدمار سيتبعان في حال اختارت القوات الإسرائيلية القيام بغزو بري. وسوف يموت الأطفال، وستتضاءل الخسائر البشرية في إسرائيل أمام حجم الموت المروع في غزة. وسوف يبكي الآباء والأمهات وسيتعهد الشبان بالانتقام. ونحن نعرف هذه القصة جيداً. وقد صرح وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، بأن “إسرائيل لا تستعد لوقف إطلاق النار. لا يوجد حاليًا تاريخ انتهاء محدد للعملية”. وأعلن القيادي في “حماس”، إسماعيل هنية، أن الهجمات الصاروخية ستستمر حتى توقف إسرائيل “كل مشاهد الإرهاب والعدوان في القدس والمسجد الأقصى”. والآن، اندلعت الاحتجاجات في الضفة الغربية، في الخليل، وجنين، ونابلس، وقلقيلية وطولكرم.
ينبغي تذكُّر أن ما يجري ليس معركة بين طرفين متساويين. إنه صراع أحد طرفيه واحدة من أقوى القوى العسكرية في العالم، مدعومة من الولايات المتحدة، وعازمة على حرمان وإذلال شعب مسلوب من ميراثه وحقوقه وممتلكاته. وهذا مثال مخيف على الاستعمار الاستيطاني العنيف المستمر، وعجز العالم عن رؤية الفلسطينيين على أنهم بشر معذَّبون، يستحقون أن يكون لديهم ما لدى جيرانهم ومحتليهم اليهود الإسرائيليين الأقوياء. وإذا لم يجبر المجتمع الدولي إسرائيل على التعامل مع الأسباب الجذرية لهذه الكارثة، فسوف تتكرر المأساة نفسها مرة بعد مرة. وقد سمّمت التصرفات الإسرائيلية سرد التحرر والاستحقاق اليهودي بعقود من السياسات العنصرية الظالمة التي وصفها الكثيرون بأنها إبادة جماعية بطيئة للفلسطينيين. ولا أحد يكسب من هذا.
والآن، أصبح الأمر متروكاً لوسائل الإعلام الدولية، والحكومات، ومنظمات حقوق الإنسان، والمنظمات الشعبية والمجتمعات في جميع أنحاء العالم لجعل هذه القصة مختلفة هذه المرة.
Alice Rothchild : طبيبة ومؤلفة وصانعة أفلام، ركزت اهتمامها بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منذ العام 1997. مارست طب النساء لمدة 40 عامًا تقريبًا. وحتى تقاعدها مؤخرًا، عملت كأستاذ مساعد في أمراض النساء والتوليد في كلية الطب بجامعة هارفارد. تكتب وتحاضر على نطاق واسع، وهي مؤلفة “وعود مكسورة، وأحلام محطمة: قصص عن الصدمات والصمود لليهود والفلسطينيين”، و”على حافة الهاوية: إسرائيل وفلسطين عشية غزو غزة للعام 2014”. أخرجت فيلمًا وثائقيًا بعنوان “أصوات عبر الانقسام” وهي ناشطة في منظمة “صوت يهودي من أجل السلام”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Nakba Continues
هامش:
- “ليلة الزجاج المكسور”، أو “ليلة البلور” Kristallnacht، وتسمى أيضًا “مذبحة نوفمبر”، هي مذبحة نفذتها ضد اليهود القوات شبه العسكرية والمدنيين من “جيش الإنقاذ” في جميع أنحاء ألمانيا النازية ليلة 9-10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1938. قامت قوات من الشرطة وقوى الأمن الألمانية بتحريض النازيين على القيام بأعمال ضد اليهود أينما تواجدوا في ألمانيا، فقام الألمان بالهجوم على الكنس اليهودية والمتاجر والمحلات التابعة لليهود ودمروها وأحرقوها وهدموا المنازل والمستشفات ومنشآت أخرى في الليلة المذكورة. سميت الحادثة كذلك بسبب شظايا الزجاج المكسور التي تناثرت في الشوارع بعد تحطيم نوافذ المتاجر والمباني والمعابد اليهودية المملوكة لليهود.
المصدر: الغد الأردنية/ (كاونتربنتش)