ساطع نور الدين
في واحد من خطبه التلفزيونية الاخيرة، كشف الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وبشكل خاطف، عن سر إيراني مذهل، هو ان القيادة الايرانية التي كانت تناقش في صيف العام 2006 الحرب الاسرائيلية على لبنان، جادلت في مسؤولية الحزب عن إندلاع تلك الحرب وعواقبها، لكن الجنرال قاسم سليماني، وطبعا المرشد علي خامنئي، حسما الجدل، فقررت إيران في النهاية أن تشارك الحزب في تحمل المسؤولية وفي حمل العواقب.
ويتردد اليوم، ان الشخص الثالث في القيادة الايرانية الذي إنضم الى المرشد وسليماني في إنهاء النقاش، الذي لم يكن يخطر في البال يومها أن يدور مثله في طهران بالذات، عندما كان العدو الاسرائيلي يرتكب المجازر المروعة بحق الشيعة في الجنوب والضاحية والبقاع، ويوسع أهدافه لتشمل جغرافية لبنان من أقصاه الى أقصاه..هو بالذات الرئيس الايراني المنتخب إبراهيم رئيسي، المعروف بأنه ربيب خامنئي منذ أن كان قاضيا في الثلاثينات من عمره، يحكم بالاعدام على المئات (الآلاف)من السجناء السياسيين في العام 1988، الذين إعتقلوا بتهمة التخريب والتمرد على الثورة، في أعقاب هزيمتها الساحقة أمام العراق.
في تاريخ الرئيس الايراني الجديد الكثير مما يضاف الى هذه الوقائع، ويبرر إحتفال حزب الله بفوزه في الانتخابات، لكن أهمها أنه مصدر للاطمئنان الى أن سلطة المرشد الحالي لم تتزعزع، ولو أنها إقتصرت على 17 مليون صوت من أصل 59 مليون ناخب، من مجموع أكثر من 80 مليون مواطن إيراني، بل هي ترسخت وأمتدت الى ما بعد وفاته: رئيسي هو، وفق هذا التقدير الذي لا يقتصر على الحزب، رئيس إيران لولايتين من ثماني سنوات مقبلة، ثم مرشد إيران حتى الممات. وهو اليوم في الستين من عمره. وإذا تدخلت الطبيعة فجأة في تحديد الأقدار، فإنه من المرجح أن يتم إختصار الولايتين أو قطعهما..ما لم تحدث “معجزة” من داخل النظام، أو من خارجه.
تمديد شراكة الحزب مع ذلك النظام لفترة زمنية غير محدودة، هو بمثابة تجديد للقيادة الحزبية الحالية، التي لا يبدو حتى الآن أنها في وارد التناوب، ولو بعملية إنتخابية داخلية، كما جرى الهمس أكثر من مرة مؤخراً، وهو بمثابة تصويت لمصلحة سياساتها الحالية، التي كانت أحد أهم عوامل رسم المسافات والهوامش الواضحة للتدخل الايراني في لبنان، مقارنة بالعراق واليمن، والتي كانت ولا تزال أحد أهم مصادر التورط الايراني الباهظ الثمن في الحرب السورية دفاعا عن نظام بشار الاسد..غير المرغوب من قبل الغالبية الايرانية.
لكن خروج الحزب منتصراً من هذه المعركة السياسية الايرانية، لا يلغي حقيقة ان النظام الايراني، الذي إكتسب تشكيله القيادي والرئاسي صفة العجلة، يواجه اليوم تحدي التفاوض، والتصالح مع أميركا، بشروط قد تبدو اليوم لصالح طهران التي تترقب تراجع الاميركيين عن القرارات الخرقاء لرئيسهم السابق دونالد ترامب، لكنها في نهاية المطاف تفرض قدراً من الإنفتاح في داخل إيران، ونوعاً من الاعتدال في التعاطي مع محيطها العربي خاصة، لا سيما إذا تحول الانسحاب الاميركي المتسارع هذه الايام من أفغانستان الى عبوة ناسفة في وجه القيادة الايرانية.
هامش الحزب في الداخل اللبناني لن يتغير في المستقبل المنظور، والارجح ان طهران لن تعمد الى تقليصه، ولا الى تغيير دور الحزب في الصراع مع العدو الاسرائيلي، الذي ثبت في معركة القدس الاخيرة أنه معني بالاحتفاظ بسلاح “يوم القيامة” (الصواريخ والطائرات المسيّرة) حتى موعد يحدد لاحقاً، ولا الى تغيير دور الحزب في الحرب السورية التي ترخى بظلالها على الاقتصاد الايراني، وعلى التضارب الفعلي مع روسيا.
ولعل من أهم عناصر توضيح دور الحزب في هذا السياق الايراني، هو إستيراد النفط من إيران، الذي كان يبدو حتى الأمس القريب، مبالغة أو مزايدة داخلية لبنانية، لكنه قد يصبح مؤشراً بالغ الدقة على ما تبيحه المفاوضات الايرانية الاميركية، من صفقات وتفاهمات في لبنان. ناقلات النفط الايرانية معبأة وجاهزة في مياه الخليج. هذا ما تقوله طهران هذه الايام. وإن لم تكن المرافىء اللبنانية العطشى، وجهتها الاولى.
تفويض الحزب من جانب طهران، لم يكن مطلقاً ولن يكون. لكن ثمة فرصة لاستكشاف سلوكه في الفترة المقبلة، إزاء قضايا محلية ضاغطة مثل الحلف الذي بات الرئيس ميشال عون وصهره وتياره يهدد بفكه، ومثل البحث المضني عن بديل للرئيس المكلف سعد الحريري، ومثل السعي المعطل لتوفير سلع “تافهة” للمواطن اللبناني كحليب الاطفال والادوية والخبر وغيره.. من دون الرجوع الى طهران، التي لن يكون نقاشها الداخلي لتلك التحديات اللبنانية، شبيهاً بنقاشها الداخلي للحرب الاسرائيلية في العام 2006!
المصدر: المدن