أحمد مظهر سعدو
من المسائل القديمة الجديدة، التي تتمظهر بين الفينة والأخرى، نتيجة الصراعات البينية الأيديولوجية بين تيارات الأمة. قضية هيمنة السياسة على الدين واتحاذه أداة للوصول إلى مبتغيات سلطوية نفعية مصلحية. وقد ارتأينا الانخراط في هذا العدد من صحيفة إشراق للبحث في ماهية هذه الانجدال المستمر، الذي يقلق الحالة السورية أحيانًا، ويحيل المسألة بقضها وقضيضها إلى مماحكات ومجادلات قد لاتؤدي إلى أي توافقات تحل القضية وخلافاتها، وتنتج وضعًا فكريًا سياسيًا يحاول أن يلامس عملية تصالح وتفاهم بين الطرفين .
حيث سألنا بعض الباحثين والمنخرطين بالشأن العام حول: حدود ارتباط الدين بالسياسة في الواقع السوري. ومتى تتوقف السياسة عن التدخل بالدين؟ وكيف نؤطر ونحدد عملية تدخل الأديان في السياسة ولماذا؟. وقد أجابتنا الناشطة والكاتبة السورية السيدة ندى الخش عن ذلك قائلة: “العلاقة بين الدين والسياسة في الوطن العربي عمومًا ومنه سورية معقدة وقديمة ومتداخلة للدرجة التي يصعب فيها القول كيف هي هذه العلاقة؟ بدايات تكون الأمه العربية كانت مع بدايات ظهور الرسالة المحمدية وانتشار الإسلام مما أدى إلى تشابك مابين الإسلام كدين وعقيدة والسياسة كدولة ونظام حكم . ورغم أن تجربة الرسول (ص) في المدينة المنورة كانت دليل على إدارة للحكم بعقل مدني لاديني فقد كانت القواعد التي تضبط الجميع كل كما يؤمن وهذا يعني اعترافًا بالتنوع إلا أن تجارب الحكم فيما بعد من الخلفاء الراشدين، إلى الأمويين والعباسيين وصولًا للعثمانيين فقد كان الحكم هو تداخل بين السياسة والدين تصل إلى حد التطابق والحاكم هو الخليفة تيمنًا بتجربة الخلفاء الراشدين وإن كانت التجربه أقرب لحكم الملوك في ذلك الزمن. حكم الإمبراطورية في بدايات القرن العشرين بدأت الصيحات تتعالى لفصل الدين عن الدولة وللانفصال عن العثمانيين وحصلت سورية على استقلالها لكن بانتداب فرنسي عليها وبعد نضال وطني حصلت على استقلالها والذي بشر بانقلابات عسكرية متتالية أنهكت سورية ومنعت تواجد حكم سياسي مستقر يؤسس لتداول في السلطة واستقرار لنمو أحزاب حقيقية قوية يكون لها دورها الفعال بعيدًا عن تجاذبات العسكر والاستقواء بهم ورغم الإشارة الدائمة إلى ازدهار للديمقراطية في تلك الفترة دون الإشاره إلى أن بعضًا من القيادات السياسية حيذاك كانت قد ذهبت إلى مصر للضغط على جمال عبد الناصر وقبول الوحده رغم عدم توفر الشروط الكافية لحمايتها آنذاك وأتساءل كيف يمكن لديمقراطية مزدهرة آنذاك التفكير بالوحدة مع نظام واضح أنه مركزي وشمولي وقبلوا شروطه دون مناقشة فعلية حول الاختلافات مابين مصر وسورية، على كل إنه حديث طويل وليس مجال حديثنا اليوم والذي يبحث في العلاقة مابين الدين والسياسة أستطيع القول إن فترة الخمسينات والستينات أي في ظل نهضة المشروع العربي التحرري بقيادة عبد الناصر تراجع دور الدين في السياسة إلى أن يعود نشيطًا مابعد حرب تشرين وتدخل دول الخليج بمساعداتها المادية وبالتالي تصدير مفاهيمها الدينية المرتبطة سياسيًا ونشط دور الإخوان الملسمين وكثيرًا من الحركات الأخرى كالتحرير الاسلامي، والصدام الكبير الذي حصل في ثمانينات القرم العشرين مابين حافظ الأسد وحركة الطليعة المقاتلة الفصيل المسلح في الأخوان المسلمين والمجزرة الكبيرة التي حصلت في حماه وحلب وجسر الشغور نقلت الاهتمام بالدين إلى شكل مختلف فالدولة توجهت بنفسها إلى احتكار الاهتمام بمعاهد تحفيظ القرآن على مستوى سورية إضافة إلى رعاية نشاط القبيسيات والتي كانت من أقوى الحراكات النسائية الدينية في عموم سورية وبالذات في المدن الرئيسية في الوقت الذي كان هناك تضييق على أي تجمعات سياسية مدنية أخرى وكانت تلك أخطر حراك يتحركه نظام حافظ الأسد في سورية أعاد للمشايخ المضبوطين أمنيًا مبادرة الحركة والتجمع إضافة إلى رعاية تواجد وتمدد المذهب الاثني عشري (ولاية الفقيه الإيراني) في سورية عبر إحداث حوزات دينية ومساجد لهم رغم عدم وجود هذا المذهب في سورية فنظام الحكم أخذ واجهة عَلمانية ظاهريًا وعمل على تمدد لدور المشايخ السنة وشيعة ولاية الفقيه وكانت هذه بداية إنعاش لتطرف ديني سينمو في عمق المجتمع السوري وتنشيط لفتاوي متطرفة تواجه تطرف مايفعله نظام الحكم في العمق السوري في مرحلة الأسد الأب والإبن فيما بعد. تدخل السياسة في الدين. وتدخل الدين في السياسة مرهون بوجود دولة مواطنة وقانون، حينها لايصبح هناك حاجة لاستخدام الدين للسيطرة على المجتمع ولايحتاج الدين لوسائل تحمي وجوده بين الناس، دولة المواطنة والقانون تؤسس لعلاقة سليمة بين الدولة وكافة المواطنين وتلعب الدولة دورها بمؤسساتها كحامي للمؤمنين والملحدين معًا، إنها تمنع تغول أي طرف تجاه الطرف الآخر نحن في بلد الدين موجود في عمق الثقافة والتقاليد والعادات وأي إنكار له هو اغتراب عن هذا المجتمع لكن ايضًا الدولة هي كيان محايد يعيش فيه المسلم والمسيحي واليهودي و.. والملحد وعليها بمؤسساتها الرسمية حماية الجميع ومنع تغول طرف تجاه أي طرف آخر.”.
من جهته فقد تحدث الباحث السوري السيد سليمان الشمر قائلًا :” بعيدًا عن الخوض في فقه الدين ومدى معقولية شعار الإسلام دين ودولة في القرن الحادي والعشرين، وحجم التطور البشري والحضاري الهائل، الذي أحدثته ثورة المعلومات والاتصالات وما سبقها من إنجازات نتيجة الثورة الصناعية، والتي غيرت في علاقات دول وشعوب العالم ببعضها بعضًا على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، إلا أن دخول الدين على خط السياسة، والذي أنتج تباعًا ما يعرف بالإسلام السياسي، جاء كرد فعل على إلغاء الخلافة الإسلامية العثمانية على يد كمال أتاتورك في تركيا، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية كنتيجة للحرب العالمية الأولى، بغاية إعادة بناء الخلافة الإسلامية ربما بايهاب عربي، ومن هنا نشأت أحزاب وقوى حاولت التصدي لهذه المهمة، وربما لمهمة أخرى هي مواجهة الدين التقليدي الذي كان سائدًا، وربما تثويره أو على الأقل إصلاحه، وعلى الرغم من الصراعات الهائلة التي خاضتها تلك القوى بعد الحرب العالمية الثانية مع النظم القائمة في أكثر من دولة عربية والتكلفة البشرية والاجتماعية الهائلة، التي ترتبت على هذا الصراع العنيف والمفتوح حتى الآن، وعطلت من حيث النتيجة أي تطور مجتمعي على المستوى السياسي، والمقصود هنا الحريات السياسية وحق التعبير والتنظيم، بحكم أن الأنظمة القائمة اعتبرت هذه القوى عدوها الأبرز والأكثر تنظيمًا، كما أنه يأتلف على قاعدة اجتماعية واسعة، بحكم حالة التدين الطبيعية التي تعم المجتمعات العربية.
قوى الإسلام السياسي ما زالت مصرة على الاستمرار في هذ الصراع، وبغض النظر عما تتركه من تداعيات وأثمان، كلما أنست ضعفًا في خصمها (الأنظمة الحاكمة وأغلبها عسكرية)، دون أن تدرك أو أنها لا تريد أن تدرك، أن ثمة مواجهتين تخوضهما وكلاهما فوق طاقتها، أولاهما أن الغرب بشكل خاص والكثير من دول العالم الفاعلة، لن تسمح بقيام نظام ديني في هذه المنطقة الحساسة من العالم والغنية بالثروات، بحكم تقييمها ورؤيتها المتوارثة حول خطر قيام نظام ديني قوي، كما والخطر على مصالحها، والثاني في شقه الأول هو الانقسام العمودي في المجتمعات العربية التي تتخوف من سيطرة الإسلام السياسي( ما حصل في انقلاب السيسي في مصر مثالًا)، وفي شقه الثاني عجز قوى الإسلام السياسي عن تقديم برامج سياسية واجتماعية تتلائم مع قوانين العصر، ودرجة التطور الذي وصله العالم على كافة المستويات، فهي أصبحت رهينة خطابها الشعبي البسيط الذي يركز على البعد الأخلاقي للدين، وطريقة إدارة الدول، وثمة مشكلة أخرى لم تستطع قوى الإسلام السياسي التعامل معها، بخاصة في الدول الثلاث ( لبنان- سورية- العراق ) التي تأتلف على تنوع قومي وديني وطائفي، سوف يبقى متخوفًا وعائقًا أمام قيام نظام ديني.
قد يقول قائل كيف سمح الغرب بقيام نظام الملالي في طهران، وهذا عدا عن أن النظام الإيراني قدم نموذجًا بائسًا وعدوانيًا لحكم ديني، إلا أن هذا سهل الغرب حصوله لمواجهة الوجود السوفيتي في أفغانستان، أما نظام البشير الذي قدم نموذجًا استبداديًا وإقصائيًا وإفقاريًا لحكم ديني بانت نتيجته بعد ثلاثة عقود، وفي المقلب الآخر رأينا الموقف الغربي الذي ساند عسكر الجزائر في العشرية السوداء، أو الموقف الخذلاني منه تجاه ما شهدته سورية.
من حق الجميع أفرادًا أو أحزابًا أن يمارس حقه السياسي في التعبير والتنظيم والمشاركة، لكن عليه أن يتقدم من الناس ببرامج ملائمة للعصر، وأن يتخفف من ثقل التجربة الإسلامية التاريخية، فلكل مرحلة ظروفها وحيثياتها، وأن يقتنعوا بالمشاركة السياسية مع كافة القوى الأخرى من ضمن حياة ديموقراطية، وتبني روح المبادرة والخروج من عقلية المظلومية، وربما كانت تجربة حزب العدالة والتنمية التركية نموذجًا جيدًا حقق إنجازات واستقرارًا ملموسًا، قبل أن تصل إلى الحائط المسدود بفعل عوامل ليس موضوعها هنا.”.
الكاتب والباحث اللبناني السيد الدكتور عبد الناصر سكرية قال في ذلك ” في الواقع السوري كما في أي واقع عربي وحيث أن الأديان السماوية نشأت ونبتت في بلادنا العربية وتحديدًا في بلاد الرافدين وما بين النهرين وسورية الشامية. فكانت المسيحية أحد مكونات شخصيتها التاريخية الحضارية. كذلك أصبح الإسلام المكون الأبرز لشخصية الأمة ومؤسس تميزها الروحي والثقافي والأخلاقي. إن الإيمان الديني في سورية اليوم يشكل أحد أبرز محركات البنية الإجتماعية وضمانتها أيضًا، كما يمتلك فعالية واضحة في مظاهر الحياة وما فيها من تضامن ومن صبر وقوة احتمال وما فيها من قدرة هائلة على العطاء والتضحية ومن القيم أيضًا. لهذا كان الدين حاضرًا دائما في الحياة السياسية لسورية في كل المراحل. حاضرًا بمعناه ودوره الإيجابي الفاعل المحرض على النهوض والتقدم والتكافل. لم يصبح الدين عاملاً سلبيًا إلا عندما سيطرت على الحياة السياسية السورية عقلية متسلطة وظيفية غير وطنية احتاجت استخدام الدين كواجهة لتغطية عصبية مذهبية تحريضية انقسامية؛ مما جعلها تبرز المؤسسة الدينية بعد أن أحكمت سيطرتها عليها لتلعب دور الغطاء والمسوق للمشروع الطائفي المذهبي.
أما متى تتوقف السياسة عن التدخل بالدين فالأمر متوقف على طبيعة السلطة الحاكمة ومشروعها السياسي. لن تتوقف السياسة عن اللعب بالدين الا عندما تتأسس سلطة وطنية نابعة من حيثيات الواقع السوري، تلبي احتياجاته وتعبر عن آماله وتطلعاته كشعب واحد في بناء دولة المواطنة والقانون. عندها لن تكون بحاجة إلى توظيف الدين فتتركه ليمارس دوره الإجتماعي التفاعلي الإيجابي في حماية القيم الحضارية والأخلاقية التي تعبر عن وجدان الشعب وضميره الحر.
السلطة الوطنية تحتاج الدين لا كغطاء بل كمحرك فاعل داعم لعملية الجدل الإجتماعي والحوار الحر بين أبناء المجتمع بخلفية أخلاقية تحترم الآخر وتشد عضدها به.
بالمقابل فإن المؤسسة الدينية لم تصبح أداة سلبية تتعاطى السياسة إلا حينما نشأت أحزاب سياسية ذات أهداف ومصالح غير متلائمة مع تراث الأمة ومقوماتها وقيمها الوطنية التوحيدية الجامعة، فلجأت إلى استخدام الدين كشعار بمضمون فئوي تحزبي متعصب وأقحمته في السياسة بهذه الصفة فكان أن أساءت للدين ولم تنفع السياسة.
أما تأطير دور الدين في السياسة فلا يمكن أن يتم خارج إطار المشروع الوطني التوحيدي الجامع حين تستغني جماهير الشعب عن إخفاء حقيقة تطلعاتها وأهدافها لانعدام أجواء الحوار الحر والتفاعل الجدلي الذي توفره سلطة وطنية تمارس دورها في إطار ديمقراطية حقيقية تضمن مشاركة شعبية في تحديد ورسم مسارات المصير الوطني”..
المصدر: إشراق