وفاء وسوف
أجلس على شرفتي أقضم الوقت في القراءة، تطالعني جملة لشوبنهاور في نقده ليهيغل: يُعرف الحمار من أذنيه. هل هناك من كلمة أو توصيف يصف عصرنا؟ قد يعتقد الكثيرون أننا نعيش في حصن حصين بمنأى عن التفاهة لأننا نملك حرية الاختيار والانتقاء، لكن عندما تسأل شخصا عاديا، وأنا منهم ما هي التفاهة؟ سيجيبك فورا: السطحية.. أن تكون أجوف.. اهتماماتك تتعلق بالمظهر وما يقال عنك.. الرداءة.. تعويم الجاهلين.. الابتذال، وغيرها الكثير، لا أعتقد أن أيا منها خاطئ. لكن الرؤيا تتوضح عندما تمسك كتاب نظام التفاهة! لألن دونو، تقرأ على صفحته الأولى نصيحة مقتضبة: «هذا كتاب مهم، ينبغي أن يُقرأ.. بهدوء». إن سلمنا أننا نعيش في عصر التفاهة سنعرف أن لها من الأنصار الكثير وخيرهم اللغة.
القص
في كل مرة أستمع مهتمة أو شبه مهتمة لحديث أدبي أو فكري أو سياسي أشتم رائحة الكذب، أتساءل إن كان المتحدث يودّ الاستعراض، أم الهداية المزعومة أم تراه ينشد التأييد؟ وهنا ندرك أن المهارة الأولى التي ينبغي تعليمها للناس ليست مهارة اكتساب الرأي، بل مهارة «لا- اعتناقه». لكن هل نملك القدرة على غض الطرف عن إغواء فكرة تُعرض بأكثر الطرق جاذبية؟! يقول سقراط إن هناك مرتكزات ثلاثة للإقناع: العقلانية والمصداقية والعاطفة. لكن عندما نرى انقياد وخضوع آلاف الأشخاص لخطيب ديني مثلا، نسأل لماذا؟ ما حدث أن خطيبهم هو القاص البارع، بأسلوب قد يبدو شيقا، وقد يبدو منفرا وقد يبدو للبعض ساذجا، لكنه رغم ذلك تراه قادرا على تحريك مشاعر الجماهير واستمالتهم. إن المسألة توحي بأمرين لا ثالث لهما، إما ضحالة المتحدث، وإما افتراض المتحدث لضحالة المتلقي.
اللغة الخشبية
قد يخطر في بالنا أن اللغة الخشبية تميز السياسة والأحزاب، لكن الأمر امتد الآن، خاصة مع القفزات الضوئية بالتطور التقني والفني ليشمل كل وسائل العرض البصرية والسمعية. إن امتلاك ناصية اللغة فن لا يجيده إلا قلة من الناس، لكن من احترفه كثيرون، فكم هي كثيرة الكتب التي تطفح بتلك اللغة المؤثرة، ألم يسبقنا أبو حيان التوحيدي عندما أطلق حكمه على إخوان الصفا ووصف خطابهم بالتفاصح والتشدق، وأن ما يقدمونه هو محض لغو. وخير مثال على ذلك اللغة التي استخدمها الكاتب جورج أورويل في روايته 1984 والتي تصل حد التكلف والتحمل والتخمين والاستنتاج، فنرى الكتاب زاخرا بالاستعارات والكلمات الطنانة، قد تبدو للوهلة الأولى أن لا معنى لها، لكن من منا لم يقع تحت تأثير هذا الكتاب نحن الذين نعوم بعتمة أنظمة 1984.
إذن لنترك التعقيد ونلجأ للتبسيط
روى لنا برتراند راسل، أن أحد ملوك مصر طلب إلى إقليدس أن يعلمه دروسا قليلة وسهلة في الهندسة فكان الردّ الشهير: «لا يوجد طريق ملكي إلى الرياضيات». قد يقع بعض الكُتّاب في فخ التبسيط الخطر بغية إيصال الفكرة للمتلقي والقارئ، أيا كانت درجة ثقافته، وهنا يقع في مطب تحديد جمهوره، لكن أي غرور هذا الذي يدفع الكاتب قبل أن يخط حرفا أن ينتقي جمهورا؟ عندما نقرأ شيئا بسيطا وواضحا نصبح عرضة للشك في أنفسنا، ونتساءل أهذا سطحي وتعوزه الأصالة الفكرية؟ لكن لماذا نطرح على أنفسنا هذا السؤال؟ ولماذا نشكك أصلا؟ هل لأننا اعتدنا على التعقيد والمبالغة في كل ما نكتب وما نقرأ ونتعلم؟
التشكيك السابق سيكشف جريمة التبسيط العلمي الساذج، الذي ينزل بالمعرفة إلى مستوى قدرات غير العارف، عوضا عن أن يرفع قدرات الأخير بما يليق بمستوى المعرفة.
فأين دور المعلم من ذلك؟
المعلم الحقيقي ثوري، لا يحتمل الفروق المعرفية فيسعى إلى تحطيمها. لذا عليه أن يتجاوز أنانيته المريحة ويمد كلتا يديه لطلبته حتى يساعدهم جميعا على تسلق تلك الربوة العالية كي يروا بأعينهم المنظر البانورامي المعرفي الذي كان يراه وحده. سينتهي به الأمر إلى أن يقف طلبته إلى جانبه تماما، سيخلق نظراء له، يناقشونه ويتعبونه ويتفوقون عليه معرفيا، لكنه بذلك يحوّل طلبته من أنداد إلى امتداد سيعيش إلى الأبد.
هل هدمت المدارس والجامعات الحكمة العالية؟
القصد من العلم هو الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق، لكن بتنا نرى الهوس بالحصول على الشهادات العلمية بغرض الظهور الاجتماعي. والأمر ليس جديدا فعندما علم علماء بغداد ببناء المدارس أقاموا مأتما للعلم. وقالوا: «كان يشتغل به أرباب الهمم العالية، والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتي علماء يُنتفع بهم، وإذ صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل». وهنا نرى تسليع المعرفة الأكاديمية الذي أغرق الجامعات في غياهب التفاهة، فقد تحولت من منتج للمعرفة إلى تاجر. وبتنا نرى الخبير ممثلا بارعا وحاميا لنظام التفاهة. الخبير الذي أغرق في اختصاص دقيق ومعقد في علم ما دون الإحاطة بكل جوانب هذا العلم.
السياسة والاقتصاد!
إن أوجه الانحطاط المجتمعي والأخلاقي مردها الممارسات التجارية التي خلعت عباءتها على كل تفصيل. وعباءتها تلك لم تكن سوى الحوكمة، التي انتقلت من المجال التجاري إلى السياسي، والداعم الأساسي كان وصول حكومات التكنوقراط إلى السلطة. وبتنا نرى سياسيين هادئين، راجحي العقل، حصيفين في الشؤون العامة، منصبهم مرتبط بالتمسك بكلمتهم والتراجع عنها باستمرار، وأمسى الوصف «تقلب المواقف». وارتفع شعار: «إنه المال أيها الغبي» الذي استخدم لهيكلة الخطاب الخاص بحملة بيل كلينتون الانتخابية عام 1992. ومعه فرض علينا الاقتصاد ما يجب أن نهتم به ومنع عقولنا من التفكير، لكن لماذا نكون ملجومين ثقافيا عندما نواجه بمواقف صادمة مثل هذه؟ لأنه لا يوجد مجال تتسيد فيه التفاهة بثقة مثلما تسود في الاقتصاد. وبتنا شعوبا ترى النخبة تستعرض في سيارات وطائرات مذهبة، لكن لا يفوتنا أن نلاحظ أننا نحن مصدر الثروة التي تتمتع بها هذه النخبة.
السياسة هي المساحة الخصبة لازدهار التفاهة.. أهم انتقاد يوجه إلى الديمقراطية هو خطر طغيان الأغلبية على الأقلية، لكن الأغلبية تكتل وتفاهم لا يخشى عليه من إجحاف الأقلية، لذا فالأقلية بحاجة لضمانات سياسية تقدمها الدساتير، لكن التفكير حول ما نشترك فيه وما أعطي لنا لنتقاسمه ما عاد يُرى كفرصة للاحتواء في الكل الجمعي، بل دفع بالأقليات والجماعات المهمشة نحو المركز، وهناك تم ابتلاعها وتكاثرت الهويات ويظن المهمشون أن هذا هو الخلاص.
الكتابة الواضحة هي أصعب بكثير من تلك الغامضة، وعلى الرغم من أن الكتابة لا يمكن فصلها عن الفكر، إلا أن كثيرا من الكتاب يهملونها، ويبلغون حد احتقار الأعمال المهمة الموجهة للعامة، لذا ينبرون في الكتابة المعقدة التي تحتاج الكثير من الشرح والتوضيح.
أين نحن العرب من ذلك؟
نحن غارقون في أزمة مفاهيمية، استعاض العرب عن الفهم العميق لأي مفهوم برفضه، لذا بتنا نرى عقلا عربيا جمعيا مطمئن اليقين بارعا في الرفض وابتكار بدائل مفاهيمية، فكلمة علمانية تستبدل بكلمة مدنية، وكلمة فلسفة تستبدل بكلمة التفكير النقدي، وكلمة قانون بكلمة نظام، وفائدة بكلمة مرابحة، وهذا يوصلنا إلى الكلمة الأفظع وهي القتل التي استبدلت بكلمة تصفية، وكأن القتل يحتاج تعريفا. وهذا يسهل لك القيام بتصرفات أقلها وصفها بأنها لا أخلاقية.
ما دور الصحافة؟
الصحافة لها طبيعة اختزالية، فهي تبخر ثم تكثف، تجتزئ ثم تتوسع وتضيف ما يلائم مصالحها وتوجهاتها السياسية والاقتصادية. وحذر الشاعر الإسباني بيدرو ساليناس من صحافة تؤدي إلى إنتاج الأميين الجدد، وهم على درجة من الخطورة، لأنهم يطمحون للوصول إلى ضوء المعرفة المقدس، بينما هم يرتعون في تخمة الجهل. لا يقرأون الكتب، لكنهم مفتونون بما كُتب عنها، يسرقون شذرات من هنا وهناك، ويظهرون الكرم والسخاء عند الكتابة عنها، وبعدها يمسي ما كتبوه عنوانا للحقيقة.
ماذا حل بالكتابة والكتب؟
الكتابة الواضحة هي أصعب بكثير من تلك الغامضة، وعلى الرغم من أن الكتابة لا يمكن فصلها عن الفكر، إلا أن كثيرا من الكتاب يهملونها، ويبلغون حد احتقار الأعمال المهمة الموجهة للعامة، لذا ينبرون في الكتابة المعقدة التي تحتاج الكثير من الشرح والتوضيح. في المقابل ظهر كُتّابٌ غزيرو الإنتاج، وبتنا نسمع بعبارة الكتب الأكثر مبيعا، وهي في الحقيقة الأقل قيمة فكرية، وخير مثال «الخيميائي» لباولو كويلو، الذي لم يشبع نهمنا لسبر أغواره، ولا نُغفل ظاهرة الكتابة بالوكالة، فثمة من يستميت لنشر اسمه وتطريزه بجهود الآخرين، وهنا تظهر الكتابة المتعفنة، التي تتعكز على الكاتب البديل، الذي يعمل لإرضاء خيلاء (كاتب) مهزوم نفسيا لكنه سيعوم. في العالم العربي بتنا نرى التعويم الأدبي والثقافي، وجوائز كُبرى تذهب لأدباء أقل ما يُقال فيهم يا للخيبة! قد تكون الكنوز في الأطراف وليس في المركز.
التلفزيون قوة لنزع الصفة الجمعية
نحن نتعايش اجتماعيا من خلال التشارك في واقع لا نستهلكه إلا في العزلة. لكننا نلتزم البقاء في المنزل، ونقبع أمام حاوية الكليشيهات، نبني علاقة مع الصورة، لكننا في العمق ندرك أن ما أمامنا ليس سوى شركة استثمار، الجمال فيها معيار أساسي للقبول. والنتيجة تشوه بصري مرضٍ في بدايته، ونسيان سريع لمن كانوا وقودا في الموقد الجهنمي، عزز كل ذلك افتقارنا لثقافة الجمال الحقيقي. هل نسينا أن السينما والتلفزيون ليس عليهما أن يتظاهرا بأنهما فن، بل هم أنفسهم من سموا أنفسهم صناعات.
الشبكات الاجتماعية
على الرغم من كل ميزاتها الإيجابية الكثيرة، إلا أنها ساهمت في ترميز التافهين، أي تحويلهم إلى رموز ثمّ إلى أيقونات. أصبحنا أمام قلاع يوتيوبية، كل يتمترس في قلعته وينفصل عن المملكة، من أبراج قلعته يظهر الكثير من الأفكار والمبادرات، وقد نلمس بعض المثالية، لكنهم يمارسون العنف المبطن بطريقة منظمة تحت مظلة الحرية المريحة، يهتفون بشعار هذا حقي! أو ما أريده! وخير مثال ما نراه على شبكات التواصل من تظاهر العوائل التي تم سحب أطفالها من السوسيال السويدية.
الفن والفنانون أين هم من التفاهة؟
يقول ألبير كامو: «اليوم يركب كل فنان على متن سفينة العبيد المعاصرة، مهمته الخدمة التي في الأغلب طوعية!». أصبح الفن استعراض عضلات، وأصبح الإبداع سلعة ثقافية، وأصبحت الأعمال منتجات، والفنانون موارد بشرية، والجمهور مستهلكين. الفنان يجب أن يخضع للترويض من قبل راعيه أو مموله. في كثير من الأحيان يتم استخدام الفنانين والرمي بهم إلى جانب سرير الضحية، يتلطى الساسة وأصحاب المال (الرعاة) وراء الحفلات الخيرية، ويلعب الفنان دور مصلح وداعم اجتماعي لمجتمع مصدوم بشدة، ثمة تلازم بين الكوارث والفنانين، لكن لا مجال لطرح سؤال: هل يتم التلاعب بي؟ هل أعمل لصرف انتباه الناس عن الحدث الحقيقي؟ يمثل الفنان نموذج الضمير الحي، لكن الأمر تحول من ضرورة إيجاد حل إلى ضرورة الشعور بمشاعر طيبة فقط، وهذا ما نراه في الأزمة السورية، هل لكم أن تحصوا عدد المنظمات والشعوب المتعاطفة معنا؟
التعاطف مجاني!
أدوات تمكين نظام التفاهة:
- البهرجة والابتذال: الغاية إذهال العين وغياب العقل، فالعمل المبهرج يتمتع بقوة نفسية قادرة على تشكيل العقول: يتم التظاهر بالعمل الجاد، وتقطف ثمار توصف باليانعة، وواصفها متورط في التظاهر، صاحب ابتسامة متواطئة، متزلف للقواعد، متملص منها، وفي النهاية يتخلى عن مسؤوليته ليفسح الطريق لظهور السوبرمان أو المنقذ المخلص، الذي اختزل العدالة بالقوة، صبره نافذ وحلوله عنيفة افتراضية بمعظمها، حالها كحال البارجة الروسية «أورورا» التي وقفت على أعتاب اليابان، لم تطلق طلقة واحدة، لكن الهجوم تم بنجاح! النتيجة تخليد اسم المنقذ المخلص. يا لها من رغبة مظلمة تنهش الكثيرين؟!
• المبالغة في التفاصيل: هل كنتم تعتقدون أن التافهين لا يعملون؟ بل يعملون بجد، ليقنعوا أنفسهم والآخرين أن أعمالهم مهمة. وهنا يقتربون مما قاله نيتشه: «جلّ ما يفعلونه أنهم يكدرون مياههم كي تبدو عميقة». وهذا يشبه الكيتش غير المتجانس وغير المتوافق جماليا، لكنه يُشبع، ويندمج في الحياة اليومية فيصبح جزءا منها. ووصف ميلان كونديرا الكيتش بقوله: «إنه ترجمة بلاهة الأفكار الجاهزة إلى لغة الجمال والوجدان». إن المظهر الخارجي للغباء يشبه التقدم والمهارة. إن التافه ينجو والتفاهة فرصة أفضل في النجاح. التفاهة تشجعنا بكل طريقة على الاغفاء بدلا من التفكير، النظر إلى كل ما هو غير مقبول وكأنه حتمي وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري، إنها تحيلنا أغبياء.
نعم، لكن ما الذي أستطيع عمله في هذا الصدد؟
اليوم لم يعد بإمكاننا استخدام كلمة تفاهة بمعناها المعتاد، إن قمت بذلك سيعتبرونك ساخطا ومتمردا وطرفا في المؤامرة، باعتبارك فائضا قمت بتحويل كرهك لذاتك إلى كراهية للمجتمع ككل، إنهم عشاق نظرية المؤامرة!
ما الذي نستطيع عمله في هذا الصدد؟ هذا السؤال يكشف الحالة التي قام النظام الحالي باختزالنا إليها. ومع ذلك، فإن السؤال يرفع من وعينا الاجتماعي والسياسي.
إذن: اعمل بلا هوادة للقاء الآخرين في تجمعات بخلاف الطائفية والشللية، اسخر من الأيديولوجيات، وتجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، وحاول خلق بنى تشبهنا… كن راديكاليا! كما خَلُص آلان دونو.
المصدر: القدس