منذ تسلم إبراهيم رئيسي مقاليد الرئاسة في إيران، في شهر آب (أغسطس) الماضي، طرأت تغييرات ملموسة على طريقة التعاطي الإيراني مع الملف السوري كماً ونوعاً. وقد عكست الزيارات المتكررة التي قام بها رئيس الدبلوماسية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان لسوريا بعض جوانب هذه التغييرات، إذ ليس من العاديّ أن تستقبل دمشق وزير خارجية إيران ثلاث مرات متتالية خلال أقل من سبعة أشهر.
قد يكون للكيمياء الشخصية المتناغمة بين الرئيس السوري بشار الأسد وعبد اللهيان دور في ترتيب هذه اللقاءات المكثفة، لا سيما أن هذه الكيمياء كانت في أدنى درجاتها مع وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف الذي كان هدد بالاستقالة لعدم إبلاغه بزيارة الأسد طهران في شباط (فبراير) 2019، ولكن هذا لا يكفي لتبرير الهبوط المتكرر لطائرة عبد اللهيان في مطار دمشق، لأن خريطة التحركات الدبلوماسية لأي دولة لا تبنى على مجرد العلاقات الشخصية، وإن كانت تحاول الاستفادة منها بما يخدم المشروع السياسي الذي تعمل على تحقيقه.
حملت الزيارة الأولى لعبد اللهيان بعد أيام قليلة من تسلمه حقيبة الخارجية في حكومة رئيسي، في أواخر شهر آب الماضي، طابعاً تعويضياً لعدم دعوة الرئيس السوري الى المشاركة في مؤتمر بغداد لقادة دول الجوار، وصرح عبد اللهيان في حينه بقوله: “طبعاً نحن على اتصال ومشاورات مع القيادة السورية في ما يتعلق بالأمن والتنمية المستدامة للمنطقة، وسنتشاور مباشرة مع دمشق حول قمة بغداد، وتأكيد الدور المهم لدول المنطقة في أي مبادرة إقليمية”.
بعد ذلك زار عبد اللهيان دمشق مرتين متتاليتين: الأولى في 18 تشرين الثاني (نوفمبر)، والثانية قبل أيام في 23 آذار (مارس)، أي بمعدل زيارة كل ثلاثة أشهر تقريباً. ولاحظ “مركز جسور” للدراسات أن كل الزيارات تؤكد “حرص إيران وتركيزها على أولوية القضايا الدبلوماسية والاقتصادية”.
الحسابات الاقتصادية
من الناحية الاقتصادية، حرصت إيران منذ النصف الثاني من عام 2021 على إرسال الوفود التجارية والاقتصادية بشكل كثيف وغير مسبوق إلى دمشق، عدا التشديد المستمر خلال الزيارات الدبلوماسية والأمنية على أولوية قضايا الاقتصاد بالنسبة الى إيران.
وعليه، يمكن القول إنّ إيران تحاول ضمان تعويض النفقات التي تكفلت بها في سوريا وتصل قيمتها الى أكثر من 30 مليار دولار، وذلك عبر ضمان الانخراط الفعّال في عمليات إعادة الإعمار أو التعافي المبكر. وبالتالي توسيع الاستحواذ على الاقتصاد السوري الذي لا يتجاوز 3% بحسب تصريح لنائب رئيس غرفة التجارة الإيرانية محمد أمير زاده في 22 تشرين الثاني 2021.
لكنّ تعويض إيران نفقاتها وضمان تعزيز حضورها في الاقتصاد السوري يحتاج أولاً إلى فكّ العزلة الدبلوماسية عن النظام أو على الأقل إعادة تطبيع العلاقات العربية معه؛ لأنّ ذلك يعني تقليصاً نسبياً لحجم العقوبات الاقتصادية والتجارية المفروضة عليه.
ومن الواضح مدى حرص إيران على تحقيق تقدّم ملموس في التعاون الاقتصادي مع النظام والتطبيع العربي معه قبيل توقيع الاتفاق النووي الذي يضمن لها الإفراج عن جزء من أموالها المجمّدة، والاستفادة منها في الإنفاق على ميليشياتها في سوريا وبقية الدول.
تجاوُز روسيا؟
ورأى “مركز جسور” المعارض أن “زيارة وزير خارجية إيران الأخيرة لدمشق تحمل، عموماً، دلالات أخرى من حيث التوقيت، كالرغبة في توسيع دورها في سوريا على حساب روسيا؛ التي إذا طال صراعها مع أوكرانيا قد تكون غير قادرة على توفير دعم مستمر للنظام، وهو ما يعني فرصةً لإيران لتقديم البدائل”، كما أنه “لا بدّ من أن إيران أرادت من إيفاد عبد اللهيان إلى دمشق الاطلاع على تفاصيل زيارة بشار الأسد للإمارات، ومناقشة الخطوات التالية الأمنية والدبلوماسية”.
وبالنسبة الى الدلالة الأولى، يلاحظ أن زيارة عبد اللهيان تزامنت مع انعقاد الجولة السابعة لاجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف، وقد كان الغائب الأبرز عن المشهد ألكسندر لافرنتييف، مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا الذي لم يقم بأي نشاط دبلوماسي استباقاً لانعقاد الاجتماع الحالي على غير عادته في الاجتماعات السابقة التي عقدتها اللجنة الدستورية على مدار العامين الماضيين. وقد دفع ذلك بعض المراقبين إلى الحديث عن تفويض روسي لإيران لمتابعة تفاصيل الملف السوري، بما يسمح لروسيا بأن تتفرغ لإدارة الملف الأوكراني.
وقد ترافق ذلك على الأرض، مع تغييرات واسعة طرأت على خريطة انتشار الميليشيات الإيرانية في سوريا، إذ قام العديد من القوات المحسوبة على إيران بإجراء عمليات إعادة تموضع وانتشار جديدة قبيل أسابيع قليلة من إطلاق موسكو شرارة الحرب ضد أوكرانيا. وقد فُسّر ذلك برغبة موسكو في تحجيم نشاطها العسكري في سوريا بغية التفرغ للتحديات التي تواجهها على الجبهة الأوكرانية.
وكان من اللافت للانتباه أنه قبيل أقل من شهر من انطلاق مغامرة بوتين في أوكرانيا، أُعلن للمرة الأولى عن تشكيل غرفة عمليات روسية – إيرانية مشتركة لمواجهة خطر “داعش” في البادية السورية، وذلك بعدما كانت القوات الروسية تتبع نهجاً متشدداً إزاء أي تعاون عسكري مباشر مع قوات لا تتبع للحكومة السورية.
مراقبة التقارب السوري – الإماراتي
أما بالنسبة الى الدلالة الثانية المتعلقة بزيارة الأسد للإمارات، فيبدو أن تطور العلاقة بين دمشق وأبو ظبي بات يشكل أحد أهم الهواجس التي تتحرك الدبلوماسية الإيرانية على إيقاعها. فإذا كانت زيارة عبد اللهيان الأخيرة لدمشق في 23 آذار جاءت بعد أيام قليلة من عودة الأسد من الإمارات في أول زيارة له للخارج منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، فإن زيارته السابقة جاءت أيضاً بعد أسبوع واحد من الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإماراتي لدمشق في تشرين الثاني. وقد لا يترك هذا التتابع الزمني بين تطور العلاقة على خط دمشق – أبو ظبي، وزيارات عبد اللهيان سوريا، أي مجال للشك في مدى الاهتمام الإيراني بمسار العلاقة المستجدة بين البلدين العربيين، لا سيما أن هذا المسار كان في قلب التصريحات التي أدلى بها عبد اللهيان أثناء زيارته الأخيرة لدمشق، حيث قال إن بلاده “ترحب بتطوير العلاقات بين سوريا وبعض الدول العربية”.
ولعل تصريح عبد اللهيان الإيجابي بخصوص تقارب دمشق مع الإمارات لا يمكن قراءته بمعزل عن السياسة التي تنتهجها دولة الإمارات العربية المتحدة بخصوص تخفيف التوتر في الإقليم، ورؤيتها لضرورة نقل الخلافات بين دول المنطقة من الميدان العسكري إلى طاولة السياسة. وكان من الواضح أن هذه السياسة قادت أبو ظبي إلى محاولة خلق توازن بين محور تركيا ومحور إيران، بما يعطي فسحة أكبر لبلورة دور عربي قادر على منافسة هذين المحورين أو على الأقل احتوائهما. ومما لا شك فيه أن نأي الإمارات بنفسها عن السياسة الأميركية في المنطقة قد يساهم في تعزيز فرصها للقيام بمثل هذا الدور المتوازن.
لذلك قد لا يكون السؤال المناسب في هذه اللحظة: هل تدعم إيران حقاً تقارب دمشق مع الإمارات وهل ترغب في رؤية دمشق تعود إلى حاضنتها العربية؟ كما ذهبت إلى ذلك معظم التحليلات التي تطرقت الى موضوع الزيارة، بل قد يكون من الأجدر التساؤل: ألم تنجح الإمارات عبر سياستها المتوازنة في إثارة تنافس بين تركيا وإيران من شأنه أن يدفع كلا البلدين إلى محاولة التلاقي مع خطها السياسي في المنطقة؟
المصدر: النهار العربي