آدم بوسن
خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، رزح الاقتصاد الروسي تحت وطأة العقوبات. بعد فترة وجيزة من غزو الكرملين لأوكرانيا بدأ الغرب في مصادرة أصول أغنى الأفراد المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومنع الرحلات الجوية الروسية في مجاله الجوي، وقيد وصول الاقتصاد الروسي إلى التكنولوجيا المستوردة. والأمر الأكثر دراماتيكية هو أن الولايات المتحدة وحلفاءها جمدوا الأصول الاحتياطية الخاصة بالبنك المركزي الروسي، وعزلوا روسيا ليس عن نظام المدفوعات المالية “سويفت” (SWIFT) وحسب، بل أيضاً عن المؤسسات الأساس في التمويل الدولي، بما في ذلك جميع البنوك الأجنبية وصندوق النقد الدولي. ونتيجة لما أقدم عليه الغرب انهارت قيمة الروبل وظهر فجأة نقص في جميع أنحاء الاقتصاد الروسي، ويبدو أن الحكومة الروسية على وشك التخلف عن سداد ديونها بالعملة الأجنبية. إضافة إلى ذلك، أسهم الرأي العام والخوف من التعرض للعقوبات في إجبار الشركات الغربية على الفرار بشكل جماعي من البلاد، وقريباً لن تتمكن روسيا من إنتاج الضروريات سواء لأغراض الدفاع عن نفسها أو لتلبية المستهلكين، لأنها ستفتقر إلى المكونات الأساس.
في الواقع، يعتبر رد العالم الديمقراطي على عدوان موسكو وجرائم الحرب محقاً من الناحية الأخلاقية واستناداً إلى مقتضيات الأمن القومي، وهذا أكثر أهمية من الجدوى الاقتصادية، بيد أن تلك الإجراءات لها عواقب اقتصادية سلبية ستذهب إلى ما هو أبعد من الانهيار المالي الروسي، وستستمر وستجعل الوضع صعباً.
على مدى السنوات الـ 20 الماضية أسهمت نزعتان في تدمير [تقويض] العولمة على الرغم من مسيرتها نحو الأمام والتي كان يفترض أن لا هوادة فيها [منفلتة من كل عقال]. أولاً، أرسى الشعبويون والقوميون قيوداً [عراقيل] أمام التجارة الحرة والاستثمار والهجرة وانتشار الأفكار، خصوصاً في الولايات المتحدة. ثانياً، جاء تحدي بكين للنظام الاقتصادي الدولي القائم على القواعد والترتيبات الأمنية الطويلة الأمد في آسيا ليشجع الغرب على إرساء حواجز أمام التكامل الاقتصادي الصيني، والجدير بالذكر أن الغزو الروسي والعقوبات الناتجة من ذلك سيفاقمان تقويض أو تآكل العولمة.
في الحقيقة، هناك أسباب متعددة. أولاً، تحاول الصين توجيه رد غير تصادمي على الغزو الروسي، وبطريقة موازية يلتزم كل من نظامها المالي واقتصادها الحقيقي بالعقوبات خوفاً من الانتقام الاقتصادي المحتمل إذا قاما بتمويل روسيا أو تموينها أو تقديم مساعدة مالية إلى موسكو، بيد أن أي تصرف لا يصل إلى حد الانضمام الكامل إلى الحصار سيغذي السياسات المعادية للصين في الغرب، مما يقلل من تكامل البلاد الاقتصادي. ثانياً، تخشى الدول أن تخضع لأهواء جبروت واشنطن الاقتصادي بعد أن عاد شعور افتتانها بقوتها الظاهرة والمتبدية.
في الوقت الحالي قد تكون الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها الولايات المتحدة عادلة، وقد يكون هناك خطر ضئيل بأن ينتهي الأمر بالدول التي لم تجتاح أوكرانيا في الجانب الخطأ من سياسات الولايات المتحدة، لكن في المرة المقبلة قد تكون واشنطن أكثر أنانية وتقلباً.
أخيراً، فالأضرار التي تلحقها العقوبات بالاقتصاد الروسي والكلف الباهظة التي ستتحملها أوروبا الوسطى إذا قطعت روسيا إمدادها بالغاز الطبيعي والنفط رداً على ذلك، قد تجعل الحكومات تسعى إلى الاعتماد على الذات وتحرر نفسها من الروابط الاقتصادية، ومن المفارقات أن ذلك سيؤدي إلى نتيجة عكسية.
في ذلك الإطار يُظهر الانكماش الاقتصادي الحاد الحالي في روسيا مدى صعوبة ازدهار الدول من دون اعتماد اقتصادي متبادل، حتى عندما تحاول تقليل ضعفها الملموس إلى الحد الأدنى، وإضافة إلى ذلك أدت محاولات روسيا لجعل نفسها مستقلة اقتصادياً في الواقع إلى زيادة احتمال تعرضها للعقوبات، لأن الغرب لم يكن مضطراً إلى القيام بالقدر نفسه من المخاطرة والمجازفة حين فرض تلك العقوبات، بيد أن هذا لن يمنع عدداً من الحكومات من محاولة التراجع إلى زوايا منفصلة بحثاً عن حماية نفسها من خلال الانسحاب من الاقتصاد العالمي.
وبطبيعة الحال، أطلق النقاد إنذارات كاذبة تحذر من مثل تلك الانقسامات لسنوات، ومن إخفاق الدول الأصغر التي تحاول عزل نفسها، ولكن يبدو الآن من المحتمل أن الاقتصاد العالمي سينقسم حقاً إلى تكتلين، واحد موجه نحو الصين وآخر نحو الولايات المتحدة، وسيكون الاتحاد الأوروبي، بمعظمه وليس بكامله، في المعسكر الأخير، وسيحاول كل تكتل عزل نفسه عن الآخر ثم تقليص تأثير الآخر عليه.
في المقابل، ستكون العواقب الاقتصادية على العالم هائلة، ويحتاج صانعو السياسة إلى إدراكها ثم التعويض عنها قدر الإمكان.
صمود الدولار
على الرغم من كل الحديث عن ” تحويل الأدوات المالية إلى سلاح”، لم تكن العقوبات المفروضة ضد روسيا فعالة إلا لأن التحالف الدولي الذي فرضها كان واسع النطاق وملتزماً، وليس تجميد احتياطات البنك المركزي الروسي مجدياً، على سبيل المثال، إلا إذا كان النظام المالي العالمي بغالبيته موافقاً على القيام بذلك. إذاً، ما كان مهماً هو التحالف وليس التمويل، نظراً إلى أن التحالف المناهض لروسيا يضم جميع المؤسسات المالية الرئيسة باستثناء البنوك الصينية، وبما أن تلك الأخيرة لا تريد أن تُستبعد من هذا النظام، فلن تؤدي العقوبات المالية إلى أي تغييرات جوهرية في النظام النقدي أو المالي العالمي.
وتجدر الإشارة إلى أن الاقتصادات التي تشعر بالتهديد من قبل واشنطن صارت تملك الآن حافزاً [ذريعة] لتسحب احتياطاتها من الأرصدة الأميركية.
من الناحية النظرية، لطالما شكل ذلك امتحاناً لإفراط واشنطن في استخدام القوة المالية إذا كانت الدولة تفرض عقوبات متكررة، فقد تدفع الدول الأخرى إلى إيجاد بدائل أفضل للدولار ونظام المدفوعات من حوله، وعلى المدى الطويل للغاية فالاقتصاد العالمي المنقسم تحت تهديد العقوبات سينعطف نحو ذلك الاتجاه، لكن في غضون ذلك ما توضحه حال روسيا هو أن التنويع في الـ “يورو” والـ “يوان” وحتى الذهب لن يساعد الدول إذا كان المشاركون الآخرون في السوق هم أنفسهم خائفون من استبعادهم من نظام الدولار، لأنهم لن يحظوا بطرف آخر يبيعون احتياطاتهم له، وسيتعين على العملات الرقمية أن تقرر ما إذا كانت ستلتزم بالعقوبات وبالتالي تفقد بعض مستخدميها (الذين يتعاملون مع العملات على أنها ملاذ) أو ما إذا كانت ستسهل محاولات التملص من العقوبات، وفي تلك الحال من المرجح أن تقوم الحكومات بإيقافها أو تهميشها.
سيكافح الـ “يوان” الصيني ليصبح بديلاً رئيساً للدولار حتى بالنسبة إلى الاقتصادات في كتلة بكين، وطالما أن الصين تمنع الناس من إخراج الأصول بحرية من نظامها المالي المحلي، فلن يسع المستثمرين وحتى البنوك المركزية التي تتبنى ذلك النظام إلا استبدال تهديدات العقوبات التي تفرضها واشنطن بتلك التي تفرضها بكين.
في منحى مقابل، يمكن أن تتغلب بكين على تلك المشكلة بجعل الـ “يوان” قابلاً للتحويل من دون قيود، بدلاً من التحكم فيه بشدة، ولكن إذا حدث ذلك فمن المرجح أن تنخفض قيمة الـ “يوان” بشكل حاد لفترة طويلة، كما حدث في الفترة من 2015 إلى 2016، عندما فتحت الصين حساب رأس المال مؤقتاً، لأن المليارات من الأشخاص الذين يحتفظون بمدخراتهم في الصين كانوا مستميتين لتنويع محافظهم المالية من طريق نقل أصولهم إلى مكان آخر سعياً وراء عوائد أعلى.
بالطبع يمكن للـ “يوان” أن يصبح عملة احتياطية للاقتصادات الصغيرة التي تهيمن عليها وكذلك للدول المنبوذة، أي البلدان التي ليس لديها بديل حقيقي، بيد أن ذلك لن يكون نافعاً بما يكفي لتنويع أو خلق عوائد تفضيلية للمدخرات الصينية، ويمكن أن يأتي بنتائج عكسية من خلال توريط النظام المالي الصيني في عدم الاستقرار المالي في دول أخرى.
في مقلب مغاير، هذا لا يعني أن شيئاً لن يتغير من الناحية المالية، وكلما زاد تضخيم الانقسامات الاقتصادية بسبب الخلافات بين القوى الصلبة [القوى العظمى النافذة]، زادت الحكومات مواءمة أنظمتها المالية مع الحامي العسكري الأساس، ففي الواقع تميل عمليات ربط أسعار الصرف إلى اتباع التحالفات العسكرية (كما بينت لكم في العام 2008). واستطراداً، شهد العالم مثل هذه الأحوال في جميع أنحاء أفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب آسيا خلال الحرب الباردة، حين أعادت الحكومات توجيه أهدافها المتعلقة بأسعار الصرف أو ربط العملات حينما كانت تختار الاصطفاف وراء الاتحاد السوفياتي أو الولايات المتحدة، ولكن على الرغم من أن ذلك قد يعني أن بعض البلدان تتحرك داخل وخارج منطقة الدولار بحكم الأمر الواقع، إلا أنه لن يخلق عملة بديلة جذابة بطريقتها الخاصة.
التفكك وانفراط العقد
إذاً، لن تؤدي العقوبات والغزو إلى تغييرات مالية ضخمة في الاقتصاد العالمي، لكنها ستسرع من تآكل العولمة الذي سبق وبدأ، وهي عملية ستخلف تأثيرات واسعة النطاق، ومع ترابط اقتصادي أقل سيشهد العالم نمواً أصغر وابتكاراً أقل، وبطريقة موازية ستتمتع الشركات والصناعات المحلية القائمة بمزيد من القوة للمطالبة بحماية خاصة. بشكل عام، ستنخفض العوائد الحقيقية على الاستثمارات التي تقوم بها الأسر والشركات.
لمعرفة سبب ذلك، فلنأخذ في الاعتبار ما قد يحدث لسلاسل التوريد.في الوقت الحالي تحصل غالبية الشركات الصناعية وتجار التجزئة على كل مورد رئيس أو خطوة أساس في عمليات الإنتاج الخاصة بها من مكان واحد أو بضعة أماكن منفصلة، وفي الواقع كان هناك منطق اقتصادي قوي لإنشاء سلاسل التوريد العالمية بهذه الطريقة، مع عدد قليل نسبياً من الزوائد، ولم يقتصر الأمر على توفير الكلف من خلال تشجيع الشركات والمصانع على التخصص، بل قاموا أيضاً بزيادة حجم الإنتاج وتوفير التسويق المحلي والأفضلية في استخدام المعلومات، ولكن بالنظر إلى الحقائق الجيو-سياسية والوبائية الحالية، قد لا تكون سلاسل القيمة العالمية تلك تستحق المجازفة بعد الآن بالاعتماد على مناطق مفصلية واقعة على فالق مواجهة استراتيجية، لا سيما إذا كانت تلك النقاط في بلدان غير موثوقة أو غير مستقرة سياسياً.
بتشجيع من الحكومة ستؤمن الشركات المتعددة الجنسيات نفسها ضد المشكلات بعقلانية من خلال بناء سلاسل إمداد بديلة في مواقع أكثر أماناً، ومثل أي شكل من أشكال التأمين، سيوفر ذلك حماية من بعض الأخطار السلبية، لكن سيكون له كلفة مباشرة لا ينتج منها عوائد اقتصادية فورية.
وفي الوقت نفسه، إذا لم تعد الشركات الصينية والأميركية تواجه منافسة من بعضها (أو من شركات خارج تكتلها الاقتصادي)، سيزيد احتمال أن تكون غير فعالة، فيما سيتضاءل احتمال أن يحصل المستهلكون على التشكيلة المتنوعة نفسها والموثوقية اللتين يحصلون عليها حالياً. عندما يكون هذا المستهلك هو الحكومة فمن المرجح أن تشارك الشركات المحلية المحمية في الهدر والاحتيال، إذ إن المنافسة على عقود المشتريات الحكومية ستكون أقل وأضعف، وبزيادة القومية والخوف من تهديدات الأمن القومي، سيكون من السهل على مثل تلك الشركات أن تتخذ لنفسها ببراعة مظهراً يوحي بالوطنية، وهي تعلم أنها أكبر من أن تفشل سياسياً. في الحقيقة، هناك سبب يجعل الاقتصادات المغلقة أكثر عرضة للفساد.
واستطراداً، يمكن للمحللين رؤية هذا يتحقق بالفعل في الالتزامات التي تبدو وطنية والتي تبناها كل من الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترمب ومفادها “إعادة الصناعة إلى الوطن”، بتعبير آخر، نقل سلاسل التوريد التي تصنع السلع الأميركية إلى داخل الولايات المتحدة. هما يستخدمان الأمن القومي والاعتزاز أو الاعتداد الوطني لتبرير السياسات التي تنتقص من حق الدفاع الوطني والعمال الأميركيين غير العاملين في الصناعات الثقيلة الذين تتخطى نسبتهم 85 في المئة، والجدير بالذكر أن الهوس في التصنيع المحلي بدلاً من التركيز على دعم التجارة العابرة للحدود في مجال الخدمات والشبكات أمر غريب للغاية وينطوي على تناقض كبير، بالنظر إلى أن القطاعين المذكورين هما اللذان أعطيا بالفعل أفضلية للغرب على روسيا في تنفيذ عقوبات فعالة، وردعا الشركات الصينية عن مساعدة روسيا.
وعلى نحو مشابه، سيخلف تآكل العولمة عواقب سلبية على التكنولوجيا. في الحقيقة يكون الابتكار أسرع وأكثر شيوعاً عندما تشارك مجموعة المواهب العلمية العالمية وتتمكن من تبادل الأفكار وإثبات المفاهيم أو دحضها، وفي المقابل هناك سبب سياسي وجيه وراء محاولة الدول ضمان أن يكون الحلفاء هم الوحيدين القادرين على الوصول إلى التكنولوجيا الخاصة بهم، حتى لو كانت القيود ذات أهمية عسكرية مشكوك فيها (في عالم التجسس الإلكتروني من السهل الحصول على تصاميم تكنولوجية).
وفي سياق متصل، ستكون النتيجة المحتملة تراجعاً في الابتكار، إذ إن المؤسسات البحثية الأميركية والغربية الأخرى تحرم نفسها من عدد من الطلاب والعلماء الصينيين والروس الموهوبين.
وفي هذا السياق، سيؤدي انسحار مد العولمة إلى زيادة تقليص العائد على رأس المال في الاقتصاد العالمي، وسوف يحصل ذلك على كل جانب من جوانب الانقسام الاقتصادي، وستفرض قيود جديدة على المكان الذي يمكن للناس استثمار مدخراتهم فيه، مما يؤدي إلى تدني نطاق التنويع ومتوسط العائدات. على نحو مماثل، من المرجح أن يؤدي الخوف والقومية إلى زيادة رغبة الناس في الاستثمار الآمن في الداخل أو في الحكومة أو في الأوراق المالية المدعومة من القطاع العام، وكذلك ستجمع الحكومات أيضاً بين الحجج المتعلقة بالأمن القومي وإجراءات الاستقرار الاقتصادي والمالي المصممة لتشجيع الاستثمار في ديونها العامة، كما تفعل أثناء الحروب.
رص صفوف أوروبا
ينجم عن الانقسامات العالمية المتزايدة تأثير جانبي واحد مفيد اقتصادياً، وهو تحفيز الاتحاد الأوروبي لتوحيد مزيد من سياساته الاقتصادية.
في ذلك السياق، يخصص الاتحاد موارد مشتركة لتقاسم العبء المالي الناتج من التدفق الهائل للاجئين الأوكرانيين الوافدين إلى بولندا ودول أعضاء شرقية أخرى، ويتم إصدار السندات الأوروبية لدفع ثمن تلك الإجراءات بدلاً من الديون الفردية المترتبة على الدول الأعضاء.
واستطراداً، قد يصدر الاتحاد الأوروبي أو منطقة الـ “يورو” مزيداً من الديون العامة الأوروبية في المستقبل، مما سيساعد الاقتصاد العالمي بشكل أكبر، وفي الواقع يعزز الغزو الروسي حقيقة أن هذا عالم منخفض العوائد، ولدى العديد من المستثمرين رغبة كبيرة في الأمان. من خلال إنشاء أصول أكثر أماناً لهم، يمكن للاتحاد الأوروبي ومنطقة الـ “يورو” استيعاب بعض مدخرات المستثمرين الذين يتجنبون المخاطرة مما يؤدي إلى تحسين الاستقرار المالي، والجدير بالذكر أن تضامناً أكثر تماسكاً في الاتحاد الأوروبي سيولد أيضاً فرصاً جديدة للنمو.
بقيادة المستشار الألماني أولاف شولتز تعهد كل عضو في الاتحاد الأوروبي تقريباً بالالتزام لسنوات عدة بزيادة الإنفاق الدفاعي والاستثمار العام في تحقيق تراجع سريع في اعتماد القارة على الوقود الأحفوري الروسي، وسيقطع هذان الاستثماران شوطاً طويلاً نحو إنهاء الاستفادة المجانية الأوروبية من الولايات المتحدة والصين من أجل النمو، كما أن إعطاء الاقتصاد العالمي محركاً آخر سيساعد في موازنة الصعود والهبوط في دورة الأعمال، وتحقيق الاستقرار في العالم ضد حالات الركود، وكذلك سيمنع الاقتصادات السريعة النمو من جعل الديون الخارجية تتراكم مثلما حدث عندما قامت ألمانيا وغيرها من الاقتصادات الأوروبية ذات الفائض بتصدير المنتجات لكنها فشلت في الاستهلاك.
واستكمالاً، ستساعد تلك المبادرات على وجه الخصوص منطقة الـ “يورو” نفسها، وكان أحد الأسباب الرئيسة لأزمة الـ “يورو” قبل عقد من الزمن هو الاختلالات بين اقتصادات الـ “يورو” الناتجة من التقشف الألماني.
إذاً، من خلال زيادة الطلب المحلي الألماني ستكون الدول الأعضاء في جنوب منطقة الـ “يورو” قادرة على التخلص من بعض ديونها من طريق زيادة الصادرات بدلاً من الاضطرار إلى خفض الأجور والواردات من أجل تسديد مدفوعاتها، وهذا من شأنه أن يعزز استمرار الـ “يورو” وصموده على المدى الطويل، فضلاً عن زيادة جاذبيته للأعضاء الجدد المحتملين في أوروبا الشرقية ومديري الاحتياطات حول العالم. والجدير بالذكر أن الـ “يورو” الذي يتعرض إلى توترات ومخاوف داخلية أقل سيكون ذا قيمة أعلى وأكثر استقراراً، الأمر الذي سيقلص بدوره التوترات التجارية مع الولايات المتحدة.
واقع مرير
لسوء الحظ سيكون وقع الغزو الروسي أشد قسوة بكثير على العالم النامي، وفي ذلك الإطار يُلحق ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة الضرر بالفعل بمواطني الدول الفقيرة، وبطريقة موازية سيكون التأثير الاقتصادي لتآكل العولمة أسوأ بعد إذا أجبرت البلدان ذات الدخل المنخفض على اختيار أحد الجانبين عند اتخاذ قرار في شأن المكان الذي ستحصل على مساعداتها منه والاستثمار الأجنبي المباشر، وستضيق الفرص المتاحة لقطاعاتها الخاصة.
إضافة إلى ذلك، سيزداد اعتماد الشركات داخل تلك البلدان على وسطاء الحكومة من النافذين في الداخل والخارج، ومع زيادة توسل الولايات المتحدة ودول أخرى بالعقوبات يتراجع احتمال استثمار الشركات في تلك الاقتصادات، وفي المقابل تريد الشركات المتعددة الجنسيات القلقة تجنب ازدراء الولايات المتحدة، ولذا فهي ستتخلى عن الاستثمار في الأماكن التي ترى أنها تتمتع بشفافية لا يمكن الاعتماد عليها.
الجزء الأتعس في ذلك هو أنه يزيد طين الاستجابة العالمية غير المتكافئة لكورونا بلة، إذ لم تقدم البلدان ذات الدخل المرتفع اللقاحات والإمدادات الطبية الكافية للعالم النامي، والجدير بالذكر أن ذلك التجاهل السياسي لسلامة السكان ذوي الدخل المنخفض على الصعيد العالمي يغير على نحو بارز الظروف الاقتصادية على أرض الواقع، وهذا بدوره يوفر مبرراً تجارياً للقطاع الخاص حتى لا يستثمر في تلك الاقتصادات، وبالتالي فالسبيل الوحيد للخروج من تلك الدوامة هو من خلال الاستثمار العام والمعاملة العادلة والمنصفة.
وعلى الرغم من ذلك فالأرجح أن يؤدي انقسام الاقتصادات الرئيسة إلى جعل استثمار مماثل في العالم النامي غير كاف وغير موثوق به ومبعثراً بشكل عشوائي.
تجدر الإشارة إلى أن مساعدة الاقتصادات الفقيرة ليست الهدف الإنمائي الوحيد الطويل الأمد الذي يعرضه الغزو الروسي للخطر، ومن أجل الصمود ستحتاج المجتمعات في جميع أنحاء العالم إلى تخفيف آثار تغير المناخ والتكيف معه، لكن الدور المحوري الذي تلعبه روسيا وأوكرانيا في إمدادات الطاقة العالمية يرسل قوى متناقضة من شأنها أن تجعل التحول في نظام الطاقة [الانتقال إلى الاعتماد على مصادر الطاقة البديلة] أكثر صعوبة.
في غضون ذلك، يوجه السياسيون الغربيون دعوة إلى الابتعاد من الغازات المسببة للاحتباس الحراري ويشجعون زيادة التنقيب عن الوقود الأحفوري خارج روسيا. وفي سياق متصل، تريد الدول منع التلاعب في الأسعار وخفض ضرائب الطاقة وتعويض الأسر عن ارتفاع أسعار الغاز، لكنها تريد في الوقت نفسه زيادة الحوافز لتوسيع إنتاج الطاقة الخضراء وتقليص الاستهلاك، الأمر الذي يتطلب أسعاراً أعلى، وفي الحقيقة تمتد التسويات إلى ما هو أبعد من تغير المناخ، إذ ترغب الديمقراطيات في بناء تحالفات حول القيم الليبرالية والأسواق الحرة أكثر [رفع القيود عن التجارة]، وفي المقابل تلجأ إلى حكومات استبدادية مثل فنزويلا لخفض كلف الطاقة، وتعرض إضفاء الشرعية على أنظمة تلك الدول مقابل زيادة إمدادات النفط.
تكمن وراء كل ذلك حقيقة مزعجة: من أجل إبطاء ارتفاع درجات الحرارة يحتاج العالم إلى عمل جماعي دولي يشمل مشاركة الصين، إذ لا يمكن لتحالف الديمقراطيات أن يفعل ذلك بمفرده.
في ذلك الإطار، تمكنت الحكومتان الصينية والأميركية في بعض الأحيان من إحراز تقدم مشترك في مبادرات المناخ حتى أثناء صراعها في شأن قضايا أخرى، وقال كل من الرئيس الصيني شي جينبينغ وبايدن إنهما يريدان القيام بذلك مرة أخرى، لكن الأمر سيزداد صعوبة مع تقوقع كل دولة في كتلة منفصلة، وفي الوقت نفسه ونظراً إلى أن تآكل العولمة يبطئ وتيرة الابتكار من طريق تقييد التعاون البحثي، فسيصبح من الأصعب أيضاً على العلماء التوصل إلى حل خارق غير متوقع يمكنه إنقاذ الكوكب.
لملمة الشتات
إلى وقت قريب، اعتبر وقف تقويض العولمة أمراً عسيراً، وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليجعل الأمر أكثر صعوبة، بينما يقوم السياسيون في الولايات المتحدة وأماكن أخرى بسرد روايات كاذبة حول مدى الضرر الذي يلحقه الانفتاح الاقتصادي بالعمال، ويؤدي الغزو الروسي والعقوبات الناتجة من ذلك إلى دفع الصين والولايات المتحدة إلى مزيد من التباعد.
بيد أن أصحاب القرار ليسوا عاجزين، فقد كانت العقوبات المالية على روسيا قوية للغاية لأنها فرضت من قبل تحالف قوي من الديمقراطيات ذات الدخل المرتفع، وإذا كان بإمكان أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واقتصادات السوق المهمة الأخرى توجيه القوة نفسها التي استُخدمت لمعاقبة روسيا من أجل مساعدة الاقتصاد، فهي ستتمكن من إصلاح التآكل، وربما أيضاً تشجيع الصين على البقاء على اتصال.
ومن أجل القيام بذلك، يجب على المسؤولين اتباع مجموعة واسعة من السياسات، ويمكنهم البدء بإنشاء سوق مشتركة بين الديمقراطيات تكون واسعة وعميقة قدر الإمكان، وتتضمن السلع والخدمات وحتى فرص العمل، وإضافة إلى ذلك يجب عليهم وضع معايير مشتركة لفحص الاستثمار الخاص عبر الحدود وذلك لأسباب تتعلق بالأمن القومي وحقوق الإنسان.
وعلى نحو مماثل، عليهم خلق تكافؤ نسبي في الفرص بين الحلفاء يكون قادراً على تعزيز المنافسة الصحية، مما قد يقلل من الآثار الجانبية الأسوأ المترتبة على القومية الاقتصادية، على غرار الفساد، وتحصين أصحاب المناصب، والهدر. كذلك ينبغي على صانعي السياسة أيضاً إنشاء جبهة استثمار عام مستدامة على سنوات عدة عبر التحالف الغربي، مما سيقلل من الاختلالات بين الاقتصادات ويزيد العوائد الإجمالية على الاستثمار.
لا تستطيع الديمقراطيات في العالم نزع فتيل كل انقسام مدمر في الاقتصاد العالمي ناجم عن العدوان الروسي والموافقة الصينية المضمرة ولا يسعهم ذلك، إذ تجدر مواجهة بعض أشكال العنف بالعزلة الاقتصادية، وفي المقابل يمكنها أن تعوض عن خسائر متعددة، وتؤدي من خلال ذلك إلى استقرار الكوكب.
*آدم بوسن رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي.
مترجم عن فورين أفيرز في مارس (آذار) 2022
المصدر: اندبندنت عربية