حسن النيفي
شهدت أواخر سبعينيات القرن الماضي بدايةً لحالةٍ جديدة من الاعتقال، أعني الاعتقال الجماعي الذي طال عشرات الآلاف من المعتقلين السوريين، وذلك موازاة مع المواجهات الدامية آنذاك بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة، إلّا أن موجات الاعتقال اتسعت لتطال كافة أطياف القوى المعارضة آنذاك، ولم تشهد السجون السورية حالة إخلاء جماعي للمعتقلين حتى أواخر العام 1991 ، إذ أصدر حافظ الأسد أمراً بالإفراج عن ( 2800 معتقلاً ) كان معظمهم من الإسلاميين، وربما المئات من التيارات الأخرى، علماً أن عدد المعتقلين في السجون السورية آنذاك يبلغ عشرات الآلاف. إثنا عشر عاماً هي المدة الزمنية التي ظل فيها أهالي المفقودين والمعتقلين ينتظرون خبراً عن أبنائهم، أأحياءٌ هم أم ميتون، باعتبار أن سجن تدمر آنذاك كان صندوقاً أسود. يذكر من عايش تلك المرحلة من السوريين، أنه بمجرد شيوع خبر الإفراج عن معتقلين، شاعت حالة من الاستنفار الشديد لدى الأهالي في معظم المدن السورية، وخاصة حلب وحماة وأدلب، اذ امتلأت مداخل مدينة حلب من الجهة الغربية، وكذلك مدخل مدينة حماة، بأهالي وذوي المعتقلين، بل منهم من قضى ليلتين أو ثلاثة على أرصفة الطرقات وفي مداخل العمارات، وعيونهم ترصد الحافلات التي تأتي من دمشق باتجاه حلب وأدلب، علّها تقل أبناءهم المفقودين، قسم منهم قد عاجلته حالة الانكسار بمجرد لقائه بأحد المعتقلين الذي أخبره بأن من ينتظره قد استشهد، وقسم آخر هدّه الخذلان فسئم الانتظار، وعاد إلى بيته معزّيا نفسه بالمثل القائل: ( باب السجن ما يتسكّر على حدا )، في حين أن الأجهزة الأمنية كانت قد أعدّت برنامجاً إعلامياً لتوجيهه إلى الشارع العام، ليبيّن للناس عموماً التجليات العظيمة التي جاد بها الرئيس حافظ الأسد على شعبه، وليؤكدوا للجميع كم كان الرئيس مسامحاً وصاحب شفقة ورحمة واسعة، وبالتالي يتوجب على هذا الشعب الذي ظفر بهذه المكرمة أن يتوجه بأسمى آيات الشكر للرئيس العطوف، ولا يُستثنى من ذلك المعتقلون أنفسهم، إذ يتوجب عليهم أن يدينوا للرئيس ببقائهم أحياء. بينما من ينظر في طبيعة الحالات المُفرج عنها آنذاك، يجد أن معظم المعتقلين الناجين، وبخاصة الإسلاميون منهم، هم ممّن ثبتت براءته أو لم يكن له أي صلة تنظيمية حقيقية، أو أنه تكتّم على رؤية قريب ،أو جار، له صلة بتنظبم سياسي، أو أنه ضُبط وهو يحمل أو يقرأ منشوراً سياسياً، أو أنه قد التقى بأحد معارضي السلطة في الخارج، أو قبضت عليه عناصر المخابرات نتيجة تقرير كيدي من خصم أو واشٍ لأجهزة الأمن، وعلى الرغم من ذلك فقد قضى أكثر هؤلاء مدّة لا تنقص عن عشر سنوات في السجن، بل يمكن التأكيد على أنه لم يتم الإفراج عن أي معتقل ثبتت صلته بالأخوان المسلمين، لأن القانون ( 49 ) القاضي بحكم الإعدام كان بالمرصاد لكل من تثبت عضويته في تنظيم الجماعة.
اليوم ، وفي مشهد مشابه في عهد الأسد الوريث ، ينتشر أهالي وذوو المعتقلين بين ما يُدعى جسر الرئيس وسجن صيدنايا وهم يلوبون بقلوب أرهقها الوجع ، أم ترقب ولدها الذي فقدته منذ سنوات، وأب يتجدد الأمل في نفسه علّه يجد ابنه حيّاً، وأبناء وبنات يتلفتون بعيون متعبة عن غائبٍ لعله يعود. هذا المشهد الذي يدمي القلوب هو في الوقت ذاته مبعث نشوة لبشار الأسد وزمرته، إذ ما كان منهم سوى أن أرسلوا شبيحتهم للتفرّج على السوريين كيف يتجرعون القهر، وليمارسوا ساديتهم التي لا حدود لها بالكذب على الأهالي وإيهامهم أن كل حافلة قادمة ربما كانت تحمل مفقوديهم، فقط من أجل أن تعلو ضحكاتهم حين يُخذلُ أهالي المعتقلين ويعودون إلى اجترار حسراتهم، ثم يتشظّى هذا المشهد لتصبح كل جزئية منه مبعث قهر ووجع مضعّف، حين تطوف وسائل إعلام النظام المرئية والمسموعة لجني حصاد المكرمة التي أغدق بها بشار الأسد على السوريين، ولنا أن نتخيّل مقدار الألم المتدفق من كلمات الأمهات والرجال والأطفال الذين يتحلقون حول ميكرفون المذيع أو المذيعة، ظنّاً منهم بأن وسائل الإعلام يمكن أن تنصت لأوجاعهم ولهفاتهم المحروقة، لا شك أن لسان حالهم جميعاً يفصح عن حالة شديدة التعقيد، إذ إن قلوبهم ترجف انتظاراً وترقباً، بينما الخوف لا يغيب عنهم، ففي فورة اندفاعهم واحتجاجهم على حالات الانتظار الطويلة التي يمضونها على الأرصفة تارةً، وتارة ركضاً وهرولةً وراء كل حافلة تلوح من بعيد، نعم لا يغيب عنهم أن عليهم أن يشكروا الرئيس على هذه المكرمة، بل ربما بدهياً تهيأ لهم أن احتجاجهم على حالة الترقّب وشكواهم من سلوك رموز النظام هو جريمة توجب العقوبة، فيبادرون ، وهم في غمرة الوجع إلى التلفّظ بكلمات شكر للرئيس، تحاشياً لاعتقالهم أو إيذائهم من جانب الشبيحة وعناصر المخابرات، بل ربما يصل بنا أحد المشاهد إلى ذروته التراجيدية حين يتحدث أحد المواطنين المتواجدين ضمن الجموع الغفيرة للمذيع الذي يحرص أن يجعله قريباً من لواقط الصوت: أبي معتقل منذ ( 11 سنة ) وأخي معتقل منذ ( 9 سنوات) وأنا أشكر السيد الرئيس، ثم يتابع: والله صارلي يومين ما رجعت على البيت، وبدون أكل، عما انتظر، ليش عم يصير فينا هيك، والله قلبي وعيوني احترقوا)، وللعالم أجمع أن يتخيّل مبلغ القهر حين يُجبر الضحية على شكر جلّاده، وحين تُجبَرُ الأم المكلومة على شكر المجرم الذي خطف بنتها أو ابنها وغيّبه في السجون، في الوقت الذي ترى فيه الطغمة الأسدية في تلك المشاهد ذروة نشوتها المنبعثة من إذلال ما بعده إذلال لدى الأهالي المفجوعين.
ليس من المُستغرب أن تلتقي ذروة النشوة بالنصر لدى الطغمة الأسدية بذروة الإحساس بالفجيعة لدى السوريين، تلك هي المعادلة الوحيدة التي يعتمدها حكم الإبادة الأسدي، باعتبار أن الحرب التي يشنها الأسد على السوريين منذ أحد عشر عاماً هي معركة وجودية يتحدّد بنتائجها بقاؤه أو زواله، كما أنه ليس من المستغرب – كذلك – أن يقف الأسد حيال هذا المشهد المروّع مزهوّاً أمام نظرائه من الحكام العرب، وأمام معارضيه من ائتلافهم إلى لجانهم الدستورية، وكذلك أمام العالم أجمع، ليثبت لهم أن آلة قتله ووسائل إبادته أبلغ من مسارات التفاوض جميعها، وليؤكّد لهم أن اليد التي تزهق الأرواح وتعتقل البشر هي ذاتها ستبقى صاحبة الفضل عليهم والمنّة والعطاء، لأنها هي التي أفرجت عن بضع عشرات من المعتقلين، معظمهم قد فقد ذاكرته أو انعطب جسده أو تشوّهت روحه. وربما لم يغب عن الأسد توقيته لصدور العفو الذي أطلقه، على أعقاب ظهور الفيديو الذي يروي مشاهد مروّعة لمجزرة التضامن التي ارتكبتها ميليشياته في نيسان عام 2013 ، ليصبح العفو نقطة تحوّل في تاريخ المفاهيم والقناعات الراسخة ( العفو عند المجزرة) وليس عند المقدرة، كما كتب أحد الأصدقاء.
وفي الوقت الذي ينتظر فيه نظام الإبادة ردّة الفعل الدولية والإقليمية على ما يمكن اعتباره تغييراً لسلوك الأسد، وبالتالي تكون السلطة الأسدية قد قدّمت خطوة، تنتظر من الآخرين أن يكافئوها بخطوة، يمضي السوريون في اجترار فواجعهم.
المصدر: تلفزيون سوريا