بسام شلبي
بالنسبة لنا نحن العرب هي أرض عربية تشكل جزءاً لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير، وبالنسبة لنا نحن المسلمون هي أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم. فالقدس لها قداسة قومية، وقداسة دينية لا يمكن تجاهلها أو القفز فوقها بأي شكل من الأشكال. لكننا لا نعيش وحدنا في هذا العالم، بل نعيش في قلبه، وفي أكبر منطقة للصراع الدولي، نجد أن هناك إضافة للمشروع القومي العربي ذي البعد الإسلامي، مشاريع أخرى تصارعه أو تنازعه حقه في هذه البقعة الشريفة، فهناك المشروع الصهيوني الاستعماري الذي يعتبر القدس عاصمة أبدية لدولته المزعومة التي صارت واقعاً لا يمكن تجاوزه بسهولة “في المدى المنظور على الأقل” بالأخص بعد الانتكاسات الكبيرة للمشروع القومي العربي واعتراف معظم الدول العربية بدولة “إسرائيل” وإقامة علاقات أو عقد اتفاقيات سلام معها، جميعنا يعرف مضامينها وظروف عقدها، كما أن هناك تداخلات خارجية دولية أو مشاريع أخرى، مثل المشروع الأميركي “الشرق أوسطية” والمشروع الأوروبي “المتوسطية”. إضافة للمشروع الإيراني الصفوي التشيعي والمشروع التركي العثمانية الجديدة. و حاليًا بدا الامتداد الصيني بمشروع الطريق.
فماذا تشكل القدس بالنسبة للمفهوم الدولي، المتمثل في قرارات الأمم المتحدة ومؤسساتها؟ وكيف يمكن التعامل مع هذا الواقع، والاستفادة القصوى منه؟؟
وإن كان من الواجب هنا التأكيد على نقطة مهمة جدًا وهي أن أي قرار أو بيان دولي لا يساوي قيمة الحبر والورق المكتوب عليه إذا لم تتوفر له وسائل القوة التي تستطيع فرضه أو إرغام الأطراف المختلفة على الالتزام به وتطبيقه والقوة هنا ليست فقط القوة العسكرية على أهميتها ولكن نقصد كافة وسائل القوة.
مع ذلك لا نقلل من أهمية أية قرارات أو بيانات دولية ناضل من أجل الحصول عليها نخبة الدبلوماسية العربية بالأخص في فترة الصعود القومي في الستينات و بداية السبعينات من القرن الماضي. لذلك سنستعرضها بالتفصيل وكلنا ثقة وإيمان أنه لابد أن يأتي يوم تتعدل فيه موازين القوى وعندها يصبح لكل حرف من هذه القرارات قيمته وأهميته.
لقد نالت القدس مساحة واسعة من أعمال المنظمة الدولية، وصدرت بشأنها مجموعة كبيرة من القرارات كان أولها قرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29/ 11/ 1947، الذي أفرد الجزء الثالث منه بالكامل لمعالجة قضية القدس، فأقر قيام كيان منفصل في المدينة مع القرى المجاورة لها، وأبعادها شرقاً أبو ديس، وجنوباً بيت لحم، وغرباً عين كارم، تتولى الأمم المتحدة إدارتها وتعين مجلس وصاية ليقوم بأعمال السلطة الإدارية نيابة عنها، ويقوم مجلس الوصاية بتعيين حاكم للقدس مسؤول أمامه، يكون اختياره على أساس كفاءته، دون مراعاة الجنسية، على أن لا يكون مواطناً لأي من الدولتين. كما تنص الفقرة الرابعة على أن تكون القدس منطقة مجردة من السلاح، يعلن حيادها، ولا يسمح بقيام أي تشكيلات أو تدريب أو نشاط عسكري ضمن حدودها، وتؤكد الفقرة الثامنة على حرية الدخول والإقامة ضمن حدود المدينة، ويحدد الحاكم وفق تعليمات مجلس الوصاية شروط الهجرة إلى داخل حدود المدينة، وتجعل الفقرة العاشرة اللغتين العربية والعبرية رسميتين فيها، أما الفقرة الثانية عشرة فتضمن حرية العقيدة والدين والعبادة والتعليم، وحرية القول والاجتماع، وتكوين الجمعيات، وحرية التظلم، كما تضمن احترام قانون الأسرة، والأحوال الشخصية لمختلف الأفراد والطوائف، وتضمن حرية وتأمين التعليم لكل الطوائف بلغتها ووفق تقاليدها الثقافية، وتمنع أي تمييز بين السكان بسبب الدين أو اللغة أو الجنس، وتمنع أي إجراء يعوق أو يتدخل في نشاط المؤسسات الدينية أو الخيرية لأي مذهب.
وتنص الفقرة الثالثة عشرة “جيم” على أن تصان الأماكن المقدسة، والأبنية والمواقع الدينية، ويحرّم كل فعل من شأنه أن يسيء بأي صورة إلى قداستها، وتنص الفقرة الرابعة عشرة على أن يعاد النظر في النظام الخاص بالقدس من قبل مجلس الوصاية بعد عشر سنوات، ويكون للمقيمين في المدينة حرية الإعلان بطريق الاستفتاء عن رغباتهم في التعديلات الممكن إجراؤها على النظام.
ثم جاء القرار رقم 185 في 26/ 4/1948 على إثر اندلاع المعارك الضارية في القدس بين المجاهدين العرب والعصابات الصهيونية، مؤكداً أن حفظ النظام والأمن في القدس مسألة تعني الأمم المتحدة ككل. وتلاه القرار 187 تاريخ 6/ 5/ 1948 بتعيين رجل محايد يعمل كمفوّض للأمم المتحدة، فاختير لهذه المهمة الأميركي “هارولد إيفانز” من جماعة الكويكرز، لكنه فشل في محاولة الوصول إلى أية حلول للتوفيق بين الطرفين المتصارعين، مما أدى به إلى طلب إعفائه من منصبه، وتولى المهمة بعده وسيط الأمم المتحدة “الكونت فولك برنادوت” الذي عهدت إليه الجمعية العامة في قرارها رقم 186 تأمين حماية الأماكن المقدسة والأبنية والمواقع الدينية في فلسطين والعمل على إيجاد تسوية سلمية للوضع المستقبلي في فلسطين، فقدم مجهوداً عظيماً في تأدية مهماته وكان على قدر كبير من الحياد مما دفع العصابات الصهيونية إلى اغتياله في فلسطين.
ثم جاء قرار الجمعية العامة رقم 194 بعد عدة أشهر من إعلان دولة إسرائيل، واحتلالها 80 بالمائة من أراضي فلسطين بما فيها جزء من القدس، فأكد القرار على وضع القدس المميز نظراً لارتباطها بالديانات العالمية الثلاث، ولذلك يجب أن توضع تحت رقابة الأمم المتحدة، وتحت نظام دولي دائم يؤمن لكل من الفئتين الحد الأقصى من الحكم الذاتي المحلي، وأكد القرار على ضرورة تأمين أقصى حرية للوصول إلى القدس بكل الطرق. وأكد ضرورة كونها منطقة منزوعة السلاح، كما نصت الفقرة (11) على وجوب عودة اللاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش مع جيرانهم، ووجوب دفع التعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر.” كما تقرر تشكيل لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء من الأمم المتحدة تحددهم الدول العظمى لتتولى المهمات التي كانت موكلة إلى الوسيط الدولي المغتال، وكل المهمات الأخرى التي يحددها مجلس الأمن.
ثم جاء القرار (273) تاريخ 11 أيار/مايو 1949 الذي قررت فيه الجمعية العامة قبول دولة إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة بناء على توصية مجلس الأمن الدولي، وقد جاء القرار مستنداً على تعهد إسرائيل بأن تقبل –دون تحفظ- الالتزامات الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، ومذكراً بقراري الأمم المتحدة رقم (181) لعام 1947 ورقم (194) لعام 1948، ومشيراً إلى تصريحات مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة “إبا إيبان” وأهمها اعترافه، أن للقدس وضعاً قانونياً يختلف عن بقية البلاد.
ثم جاء القرار (303) في 9/ 12/ 1949 الذي أكد على المضامين الواردة في القرار (194) وأكد على مجلس الوصاية بضرورة إنجاز قانون النظام الدولي للقدس، لكن إسرائيل قامت بعد يومين فقط بإعلان نقل عاصمتها إلى القدس مخلة بالتزاماتها وتعهداتها السابقة.
كما قامت الأردن –بعد ذلك- بضم الضفة الغربية بما فيها الجزء الشرقي من القدس، في حين تأخر مجلس الوصاية بإنجاز عمله بدعوى عدم تعاون إسرائيل والأردن معه، فلم يقدم مشروعه للأمم المتحدة حتى شتاء 1950 فلم تبت بأمره، ولم توله أهمية نظراً لانشغالها في معالجة الأزمة الكورية، فظل المشروع أسير أدراج الأمم المتحدة، دون أن يطالب أحد بإطلاقه من جديد.
ثم جاء العدوان الإسرائيلي عام 1967 واحتلت القوات الإسرائيلية القدس الشرقية في 8 حزيران/يونيو بعد ثلاثة أيام من المعارك العنيفة، دار بعضها بالسلاح الأبيض في شوارع القدس القديمة.
وبعد عشرين يوماً اتخذت السلطات الإسرائيلية قراراً بضم القدس الشرقية للغربية، وتطبيق القوانين الإسرائيلية عليها، ثم اتخذت قراراً آخر بتغيير اسمها إلى “أورشليم”، وقد ردت الأمم المتحدة بقرار صدر بأغلبية 99 صوتاً، وامتناع عشرين، دون اعتراض أحد، وفيه اعتبرت جميع تلك التدابير غير مشروعة، وطالبت إسرائيل بإلغائها والامتناع عن أي عمل من شأنه تغيير وضع القدس، ثم أكدت على مضامينه بالقرار 2254 الصادر بعد أسبوع، فتأسفت فيه لعدم تطبيق القرار السابق، وطلبت من الأمين العام تقديم تقرير دوري لمجلس الأمن والجمعية العامة عن وضع القدس.
ومنذ عام 1980 أصبحت القدس بنداً ثابتاً في القرارات التي أصدرتها الجمعية في دوراتها كل عام، وأهم هذه القرارات رقم 35/ 122 تاريخ 11/ 12/ 1980 الذي نص على سريان اتفاقية جنيف لعام 1949 على جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس، كما طلب من إسرائيل –التي وصفها بدولة الاحتلال- الامتناع عن أي إجراء من شأنه تغيير المركز القانوني أو الطبيعة الجغرافية بما في ذلك القدس، واعتبار كل الإجراءات والتدابير التي قامت بها سابقاً لاغية.
وجاء القرار 36/15 تاريخ 28/ 11/ 1981 الذي أشار إلى القلق العالمي للانتهاكات التي تتعرض لها المواقع التاريخية والثقافية والدينية في الأراضي المحتلة، وبالأخص القدس، فتقرر ما يلي: 1- إن أعمال الحفر والتغيير في المنظر العام والمواقع التاريخية والثقافية والدينية للقدس تشكل انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي واتفاقية جنيف. 2- إن هذه الانتهاكات تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين. 3- تطالب بأن تكف إسرائيل عن أعمال الحفر وتغيير المعالم التي تقوم بها في المواقع التاريخية والدينية للقدس خاصة تحت وحول الحرم الشريف (المسجد الأقصى وقبة الصخرة) الذي تتعرض مبانيه لخطر الانهيار. كما تبنى القرار الموافقة على اقتراح لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة بإدراج مدينة القدس القديمة وسورها في قائمة التراث العالمي.
ثم جاء القرار 45/ 38/ جيم في 13/ 2/ 1990 الذي شجب نقل بعض الدول بعثاتها الدبلوماسية إلى القدس منتهكة القرارات الدولية السابقة، كما طلب من تلك الدول الالتزام بأحكام القرارات ذات الصلة طبقاً لميثاق الأمم المتحدة، واعتبر القرار فرض إسرائيل قوانينها وولايتها وإدارتها على القدس “غير قانوني، ومن ثم فهو باطل وليس له أي شرعية على الإطلاق” وقد استند هذا القرار في مقدمته على كثير من القرارات الدولية السابقة.
أما مجلس الأمن الدولي فكان أول قرار اتخذه بشأن القدس تحديداً هو صاحب الرقم (250) في 27 نيسان 1968 المتضمن دعوة إسرائيل إلى الامتناع عن إقامة العرض العسكري في القدس في 2 أيار/ مايو 1968 بمناسبة مرور ذكرى عشرين عاماً على قيامها، وقد صدر
القرار بالإجماع.
ثم تتالت قرارات مجلس الأمن بشأن القدس من القرار 252 في 21 أيار 1968 الذي شجب عدم امتثال إسرائيل لقرارات الجمعية العامة، واعتبر جميع الإجراءات الإدارية والتشريعية وجميع الأعمال التي قامت بها إسرائيل بما في ذلك مصادرة الأراضي والأملاك. باطلة، ولا يمكن أن تغير في وضع القدس.
ثم القرار 267 الصادر في 3 تموز/يوليو 1969 الذي أكد على القرار 252 ويدعو بإلحاح إسرائيل لأن تبطل جميع الإجراءات التي تؤدي إلى تغيير وضع مدينة القدس كما يطلب منها أن تمتنع عن اتخاذ أي إجراءات مماثلة في المستقبل.
وبعد أيام قليلة من حادث إحراق المسجد الأقصى في 15 أيلول/سبتمبر 1969 جاء القرار (271) مؤكداً على القرارين السابقين، ومؤكداً عدم جواز اكتساب الأرض بالغزو العسكري، واعترف أن أي تدبير أو تدنيس للأماكن المقدسة أو المباني والمواقع الدينية في القدس، وأن أي تشجيع أو تواطؤ للقيام بعمل كهذا يمكن أن يهدد بحدة الأمن والسلام الدوليين، كما قرر أن العمل المقيت لتدنيس المسجد الأقصى يؤكد الحاجة الملحة إلى أن تمتنع إسرائيل عن خرق القرارات المذكورة أعلاه، وأن تبطل جميع الإجراءات والأعمال التي اتخذتها لتغيير وضع القدس، ويدعو إسرائيل إلى التقيّد بنصوص اتفاقيات عن إعاقة المجلس الإسلامي الأعلى في القدس عن القيام بمهماته، بما في ذلك أي تعاون يطلبه ذلك المجلس من دول أكثرية شعوبها من المسلمين، أو من مجتمعات إسلامية بما يتعلق بخططها من أجل صيانة وإصلاح الأماكن المقدسة في القدس.
وفي 30 حزيران/يونيو 1980 جاء القرار الهام رقم (476) الذي صدر بموافقة 14 عضواً وامتناع الولايات المتحدة فقط، وهو ينص على ما يلي: 1- يؤكد مجلس الأمن من جديد الضرورة الملحة لإنهاء الاحتلال المطول للأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967 بما في ذلك القدس. 2- يشجب بشدة استمرار إسرائيل بصفتها القوة المحتلة في رفض التقيد بقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ذات الصلة. 3- يؤكد مجدداً أن جميع الإجراءات والأعمال التشريعية والإدارية التي اتخذتها إسرائيل –القوة المحتلة– الرامية إلى تغيير معالم مدينة القدس ووضعها، ليس لها أي مستند قانوني، وتشكل خرقاً فاضحاً لاتفاقية جنيف الرابعة.. كما تشكل عقبة أمام تحقيق سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط.
وفي آب/أغسطس من نفس العام جاء القرار (478) الذي لام إسرائيل أشد اللوم لمصادقتها على القانون الأساسي بشأن القدس ورفضها التقيد بقرارات مجلس الأمن، وأكّد على أن هذه المصادقة تشكل انتهاكاً للقانون الدولي، ولا تؤثر في استمرار انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية بما في ذلك القدس، وقرر عدم الاعتراف بالقانون الأساسي وغيره من الأعمال التي تستهدف تغيير معالم القدس، ودعا جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لقبول هذا القرار وسحب البعثات الدبلوماسية من القدس.
كما صدرت العديد من القرارات بالأخص بعد الانتفاضة الباسلة، وأهمها القرارين 672 و 273 الصادران في 13/ 11/ 1990 بعد مجزرة الحرم الشريف في القدس التي راح ضحيتها عشرون شهيداً، وأكثر من مائة وخمسين جريحاً، وأهم ما في هذا القرار أنه أقر صراحة بحقوق الشعب الفلسطيني السياسية المشروعة، بعكس القرار 242 الذي اكتفى بذكر: “حل مشكلة اللاجئين”، وقد أدان القرار 673 صراحة أعمال العنف التي ارتكبتها قوات الأمن الإسرائيلية التي أسفرت عن حدوث خسائر في الأرواح والإصابات.
وتبع هذا القرار مجموعة من القرارات اللاحقة كالقرار (672) في 30/ 12/ 1990 والقرار (694) في 25/ 5/ 1991 ثم القرار 726 الصادر في 7/ 1/ 1992 الذي أدان طرد اثني عشر مدنياً فلسطينياً من الأراضي المحتلة، وأكد استمرار انطباق اتفاقيات جنيف على الأراضي المحتلة بما فيها القدس.
وتكمن أهمية هذا القرار بأنه استمر في معاملة القدس بشكل خاص منفصل عن باقي الأراضي المحتلة، بما يعني استمرار نفوذ القرار 181 لعام 1947 حتى بعد انعقاد مؤتمر مدريد، كما أن جميع القرارات الدولية تظهر أن هناك نية للمحافظة على مبدأ الكيان المستقل، وإلغاء جميع الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل منذ العام 1948. فرغم أن التدويل لم يطبّق بشكل عملي على أرض الواقع فإن نتائجه القانونية قد جرى الاعتراف بها دولياً والنظرة الدولية لا تميز إطلاقاً بين شطري المدينة أو معاملة أحدهما معاملة مختلفة عن الآخر، وكل ذلك يحيل إلى أن وجهة النظر الدولية ما زالت معتمدة على القرار 181 لعام 1947 الذي لا تستطيع إسرائيل إنكار شرعيته لأنه أساس قبول عضويتها في الأمم المتحدة.
لكن المبادرة الأميركية للسلام تعمدت أن تهمل كل القرارات الدولية عدا قراري مجلس الأمن 242، 338 اللذين لا يذكران شيئاً صريحاً عن القدس، ورفضت إسرائيل مشاركة شخصيات من أبناء القدس في الوفد الفلسطيني إلى محادثات السلام. وعمدت إلى التأكيد في كل اللقاءات أو المؤتمرات على أن القدس عاصمة أبدية لها، ابتداءً من خطاب بيغن في كامب ديفيد إلى خطاب شامير في مدريد. فكل ذلك يؤكد النية المبيتة لدى إسرائيل المدعومة أميركياً، بدليل قرار الكونغرس الأميركي عام 1995 القاضي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، الذي لم يجرؤ أي رئيس أميركي على تنفيذه حتى جاء الرئيس الخارج عن النص دونالد ترامب ليتخذ القرار عام ٢٠١٦ وهذا متناقض مع التزامتها الدولية الموقعة على القرار 181 والقرار 194 في الجمعية العامة، كما أنها وافقت على قرار مجلس الأمن رقم (465) في 1/ 3/ 1980 الذي صدر بالإجماع المطلق، ويقرر عدم قانونية أي إجراء لتغيير وضع القدس الجغرافي أو الديمغرافي.
لكن تغير الوضع السياسي الدولي، وسقوط المعسكر الشرقي، وانفراد أميركا، وسيطرتها المطلقة على المنطقة العربية بعد حرب الخليج جعلها تحصر الشرعية الدولية في القرارين 242 و 338، وأن تحصر الرعاية الدولية التي نص عليها القرار 338 بها وحدها، مع وجود شكلي لروسيا، ودور مساعد تكميلي لأوروبا.
إزاء هذا الواقع الحرج، من الطبيعي أن يشعر المفاوض العربي بالضعف والإحراج، فالمفاوضات هي الوجه الآخر للصراع المسلح، والانعكاس الطبيعي له على أرض الواقع، فما تم من معاهدات واتفاقيات مع العدو الصهيوني ليس هزيمة لمنظمة أو نظام أو فصيل أو. لنحمّله كامل المسؤولية ونرتاح، بل هي انعكاس لهزيمة الأمة العربية كاملة والنظام العربي دون أي استثناء. فالآن لابد لنا من إعادة بناء التضامن العربي من جديد في أعلى الصور الممكنة، وأن يكون هنالك موقف موحّد اتجاه القضايا الحساسة المطروحة وفي رأسها مشكلة اللاجئين والقدس الشريف، فهذه القضايا ذات أهمية خاصة بالنسبة لكل الشعوب والأنظمة العربية، بل الشعوب الإسلامية قاطبة، ولا بد من حشد أكبر دعم ممكن منها. ومن كل الشعوب والدول الصديقة، فلا ننسى أن كل هذا الكم الكبير من القرارات الدولية كان نتيجة طبيعية للحقوق الثابتة للأمة العربية ولوقوف الكثير من الأمم الصديقة إلى جانبها بالأخص دول عدم الانحياز التي ساهمت الأمة العربية –بالأخص مصر- مساهمة كبيرة في بنائها وتدعيمها، فيجب علينا من جديد إثبات مدى قدرات أمتنا وحجم تأثيرها، كما يجب أن تثبت لكل مراكز القوى العالمية إن مصالحها الحقيقية –على المدى الاستراتيجي- مع العرب، فذلك أهم ما يمكنه دعم موقف المفاوض العربي لنيل أكبر قدر من حقوقه الثابتة في القرارات الدولية التي يجب أن تكون –في المرحلة الحالية- مطلبنا الدائم، دون أي تنازل عن أي من هذه المكاسب التي طالما طبّل لها النظام العربي عند الحصول عليها، فماذا يبقى له إن فرّط بها؟
وأخيراً لا يجب أن لا ننسى أمرين مهمين أولهما: أن لا أحد في العالم يمكن أن يطالب أو يدعم حقوق شعب إذا تنازل عنها طواعية أو كرهاً، وليس مطلوباً من أحد أن يكون عربياً أكثر من العرب، أو مسلماً أكثر من المسلمين، وثانيهما: إن الهزيمة العسكرية في عام ١٩٤٨ أمام العدو قد قلبت النظام العربي القديم كاملاً، وغبي من يعتقد أن الهزيمة السياسية لن يكون لها تأثير على النظام العربي القائم. وقد كانت ثورات الربيع العربي إحدى النتائج للرد على هذه الهزائم والفشل على كل الصعد، و مازال هناك مزيد من الثورات القادمة حتى نستعيد التوازن ثم نستعيد الحقوق.
المصدر: اشراق