عبد الباسط حمودة
لن يخدعنا المديح والإطراء الزائف الذي يبديه “غير بيدرسون” عند كل جولة لما تسمى ’’اللجنة الدستورية‘‘، إنها جزء من عدة الشغل التي يحرص عليها ممثلو الأمم المتحدة لكل الدول ولجميع القضايا، فإنه/ـهم غير عابئ/ـين بقضايا الحرية والتغيير التي تنشدها الشعوب ومنها شعبنا السوري، بل إن الهدف إطالة مهامهم وبالتالي تعويضاتهم الخيالية ومن ثم إطالة معاناتنا، انتظاراً لتوافق دولي معين!، فهل كان اختيار روسيا للتفاوض على صياغة الدستور، كبندٍ جرى إدراجه ضمن قرار مجلس الأمن 2254، خياراً عبثياً دون درايةٍ منها وبعيداً عن الرغبة الأميركية؟
لقد جرى اقتطاع هذا البند من سياق القرار بشكل مقصود، بحيث يتيح لروسيا الظهور بمظهر الطرف الدولي المسؤول، الذي يسعى للالتزام بالقرارات الدولية من حيث الشكل؛ لكن روسيا تدرك أن هذا الالتزام لن يرتّب عليها إجراءات موازية، بهدف تطبيق القرار، كما لن يستطيع أي طرف دولي- إذا كانت هناك أطراف يهمّها إنهاء الكارثة الأسدية في سورية- توجيه النقد إلى روسيا واتهامها بالانحياز لطرف نظام آل أسد.
وما فعلته روسيا أنها صنعت سياقاً يستحيل، في ظله، إنتاج حلول سلمية متوازنة للصراع، فآليات هذا الحل مُعطّلة، والنقاش بشأن الدستور يجب أن يتم بعد تطبيق بند آخر وضروري، هو تشكيل هيئة حكم انتقالي، تكون مهمتها توفير البيئة المناسبة لصياغة الدستور وطرحه للاستفتاء العام؛ وبدون تشكيل هذه الهيئة، يصبح تشغيل آلية صياغة الدستور مستحيلاً، وتتحوّل العملية برمتها إلى حالة عبثية تتطابق تماماً مع مخرجات اجتماعات سوتشي وأستانة بجولاتها العديدة.
ولم تخفِ روسيا أبداً أن ما يهمّها من هذه العملية هو المحافظة على مكاسبها الجيوسياسية في سورية بأي ثمن، على الرغم من كل مزاودات وتبجّحات لافروف وأقرانه، مسؤولي الكرملين، وتكاذبهم بأن روسيا لا تدافع عن شخصٍ بعينه؛ والحقيقة، أن بشار الكيماوي كان ركيزة محورية في مشروع روسيا الجيوسياسي، وأن جميع مخطّطات الكرملين قد جرى بناؤها على ضوء ذلك، واستمرار بقاءه في السلطة لأبعد مدى ممكن بالتواطؤ مع إيران وميليشياتها الطائفية وغياب عربي كامل عن المشهد، لأن خروجه من المشهد ستترتّب عليه تداعيات خطيرة على المشروع الروسي- الإيراني، والاستبداد العربي عموماً.
عقدت تلكم اللجنة كل اجتماعاتها بغياب أي روح وطنية ثورية حقيقية لدى ما يسمى وفد المعارضة، من أول جولاتها في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 بجنيف حتى الجولة الثامنة الأخيرة الشهر الماضي في جنيف أيضاً، والتي حددت موعد جولتها التاسعة في 25 تموز/ يوليو الحالي، وفوراً أرسل ‘بيدرسون’ دعوات المشاركة بهذه الجولة فرِحاً ومُهللاً، وأزعم أنه كان شامتاً أيضاً؛ فالمتابع لكل الجولات يجد أنها قد شهدت خلافات واضحة وخرقاً لمدونة السلوك الناظمة للاجتماعات المتفق عليها بعلم ‘بيدرسون’ نفسه، الذي كان يحيط مجلس الأمن بهذه الخلافات والخروقات ومعترفاً حسب قوله بـ”مجموعة رهيبة من التحديات التي تواجه الشعب السوري”؛ والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا تستمر تلكم الرموز المعارضة أو عمن يفترض أنهم ممثلو المجتمع المدني، بهذه اللجنة وسيناريوهاتها الممجوجة والمُخادعة، بعد كل هذه الفترة الطويلة من اللقاءات الفاشلة بالمطلق؟
لقد باتت المسألة واضحة، فالعلّة في تصميم هذه المفاوضات وهندستها، وفي الخطاب القائم على الفهم القاصر للسياسة والعمل السياسي والعلاقات الدولية القائمة أصلاً على المصالح، ونتيجة للخسائر الكبرى التي مني بها السوريون، خاصة بعد سقوط حلب نهاية عام 2016 بفعل البربرية الروسية القائمة على الحصار والقصف الهمجي، قبِلَ البعض بصيغة هزيلة من تفسيرات اتفاق جنيف والقرار 2254، وهي صيغة أستانة وسوتشي التي ابتدعت ما سمّي ’’اللجنة الدستورية‘‘ بالتواطؤ بين “ستيفان دي مستورا” وروسيا وأميركا وفي خلفية المشهد تقبع إيران المجرمة.
فما جرى هو تحول هذه اللجنة إلى لعبةٍ لتزجية الوقت، أو لعبةٍ لا تنتج أي مخرجاتٍ سوى التكسب النفعي الشخصي على حساب دماء شهدائنا، وآلام المحرومين والمعتقلين من أبناء شعبنا، والطامة الكبرى أن أطرافها تواطأت على الانخراط فيها بوعيٍ كامل، كلٌ لمصالحه الخاصة؛ فالعملية برمتها صناعة روسية خالصة، اشتغل العقل الاستخباراتي الروسي طويلاً على هندستها، بعد قراءته لمعطيات الحالة السورية، ومواقف اللاعبين الخارجيين المنخرطة بها، وظروف اللاعبين الداخليين، وتقديره للتحوّلات التي يراهن على حدوثها ضمن نطاق زمني مفتوح.
ومنذ البداية، كانت الرهانات الروسية واضحةً في التعامل مع اللجنة الدستورية باعتبارها فرصة كي تحقق بالسياسة ما لم تستطع تحقيقه بالحرب، وهو السيطرة على كامل الجغرافيا السورية وتحطيم مناطق سيطرة المعارضة، كيف ذلك؟
تعرف روسيا جيداً أن مجاميع المعارضة الحالية وجدت في ظروف الحرب، تلك الظروف أزاحت القوى المدنية من المشهد، والكوادر الإدارية التي تستطيع إدارة مرحلة غير حربية، بما يعنيه ذلك من إدارة للخدمات والصراعات الاجتماعية والسياسية؛ وبالتالي، سوف تنهار هذه المناطق شيئاً فشيئاً، بسبب سوء الإدارة وضعف التمويل والصراعات المحلية وانعدام الإنتاجية وظروف الحصار الطويل، وصعوبة تكيف الكوادر العسكرية مع واقع الهدوء، وهذه حقيقة؛ وبالتالي، روسيا ليست مضطرة لصناعة سلام حقيقي، ما دام الزمن كفيلاً بانهيار منظومة المعارضة.
ونظام آل أسد لا يجد نفسه مضطرّاً للتعامل بجدّية مع أي مفاوضاتٍ سورية- سورية، وكما يقول المنطق:«إن طرفاً لا يقع تحت ضغط تهديد وجودي، لامصلحة له بخوضِ مفاوضاتٍ جدّية مع خصمٍ يطالبه بتنازلاتٍ سياسيةٍ قد تؤدي إلى إنهاء سلطته»، لكنه كنظام يجد في هذه المفاوضات مصلحة كبيرة، فهي توفر له منبراً يستطيع من خلاله القول إنه يقوم بمهام دولة وليس عصابة، كما أكدت عليه أفعاله واستقر في إدراك أغلب الشعوب طوال السنوات الماضية؛ ولكونه نظاماً معزولاً، فلا يكلفه الأمر شيئاً إلا تشغيلُ لجنةٍ بالأصل أعضاؤها عاطلون عن العمل في ظلِ حكمٍ فردي، ليس الآخرون فيه سوى ديكور شكلي، كما باتت اجتماعات ’’اللجنة الدستورية‘‘ بمثابة موسم لإعلامه، ليتشدّق بالوطنية ويقسّم السوريين إلى وطني وغير وطني.
والواضح أن المطلوب من ’’اللجنة الدستورية‘‘ استنزاف طاقة الأمل من السوريين، وإضعاف إمكانية التفكير ببدائل تحرّرية أخرى، وصولاً إلى لحظة الاستسلام وإدراك أن كل الآفاق مسدودة، فلماذا إصرار ممثلي “المعارضة” على المشاركة بهذه اللعبة، وهي ترى الانهيار يُكملْ مساره بنشاط متزايد، والأخطار لا تُحصى، أسوأها اليأس والشَلل ومعايشة الأفول بسياساتٍ قاتلة ترعاها يد بوتين المجرم بصلافة لا تختلف عن صلافة وغدر ذيله القاتل، ونحن نمضي إلى الغياب مع أفشل ممثلين للثورة السورية وأحرارها؟
ونسأل لماذا كل هذا، ونحن نرى بعيوننا كيف يتنامى قتلنا وتشريدنا؟ بات غضبنا كلامٌ مصابٌ بالعجز!، والإعلام كله، سواء كان مكتوباً أو مرئياً، مشغولٌ بصراع الدول الكبرى مع روسيا القاتلة وهي تمنع دخول المساعدات للشمال السوري، فقد فشل أعضاء مجلس الأمن في الاتفاق على تمديد الآلية الأممية لإدخال المساعدات إلى سورية بعد أن تحوّلت جلسته الأخيرة يوم 08 تموز/ يوليو إلى ساحة صراع دبلوماسي مع استخدام سلطة موسكو “الفيتو” ضد مشروع القرار الغربي، بعد كل الفيتووات غير القابلة للعد، لتلك الدولة المارقة، التي تحمي نظاماً قاتلاً ومارقاً مثلها؛ كان ذلك مع وقفة عيد الأضحى- ما زالت الأعياد في دياركم زاهرة- أمّا نحن، خواريف الأضاحي، فلا مكان للعيد بيننا، هجرتنا الأعياد، منذ زمنٍ بعيد، مذْ حلّت نكبتنا عام 1961 بتسلط آل أسد وبعثهم، فتحوّلت بلدنا بهم وبأيديهم إلى بلدٍ منكوب، وتحوّلنا معه إلى جماعاتٍ منكوبة، فهل يحتفلُ المنكوبون؟
فليس سرّاً أن المعارضة باتت على هامش الحدث السوري بمجمله، وهي لم تعد مهمة، حتى بالنسبة لجمهور المعارضة نفسه، بعدما تحوّلت إلى لعبة بأيدي خارجية لا هم لها سوى تحقيق أهدافهـا الجيوسياسية على حساب وطننـا وشعبنا.
المصدر: اشراق