عبد الرحيم خليفة
تشغل قضية العدالة الانتقالية، كقضية راهنة ومستقبلية، قطاعات واسعة من السوريين المهتمين والمتابعين لقضايا وملفات حقوق الانسان في سورية، كما رجال السياسة والفكر، وقبل ذلك وبعده الضحايا وذويهم، سواء منهم من رحلوا أو مازالوا على قيد الحياة يعانون، يحدوهم الأمل بقرب ذلك اليوم الذي يشعرهم بآدميتهم وإنسانيتهم.
منذ انطلاقة الثورة السورية المباركة في منتصف آذار/ مارس 2011 وحتى اليوم تعرض الملايين من السوريين لشتى أنواع انتهاكات حقوق الإنسان التي يصل بعضها إلى كونها جرائم إبادة جماعية وبعضها الآخر يدخل تحت باب القتل العمد، وكلها سياسات ممنهجة طبقها النظام الأسدي في وجه معارضيه وخصومه ممن انتفضوا وثاروا ضده، وحتى من الحاضنة الشعبية لهؤلاء، فاعتقل وعذب وقتل وهجر وشرد بشكل عشوائي، في مناطق بعينها، كل من ظنه خصماً له، والكل من شعبه خصومه وأعدائه، دون أن يلقى مقترفي تلك الجرائم، حتى الآن، من يحاسبهم أو يقدمهم لمحاكمات عادلة، ودون أن يشعر ضحاياهم ببارقة أمل تعيد الاعتبار لمشاعرهم وكرامتهم وحقوقهم.
سابقاً للثورة السورية كان هناك الكثير من الجرائم والانتهاكات في تاريخ سورية وشعبها التي تستوجب شكلاً من العدالة والانصاف، وجبر الضرر، خصوصاً ما ارتكب في مرحلة الثمانينات من القرن الماضي، إلا أن الظروف العامة وسياقات الأحداث، لم تساعد قوى المعارضة الضعيفة والمنهكة، والمشتغلين بقضايا حقوق الإنسان، وهي منظمات حديثة العهد والتجربة في سورية، من أن تطالب بفتح ملفات الانتهاكات والجرائم السابقة على امتداد عمر نظام آل الأسد، كما أن القضية لم تكن مطروحة بهذا الإلحاح كما هي عليه في السنوات الماضية، ولم تتسع وتتمدد لتطال الملايين، وبعد أن باتت بآثارها مصدر قلق على مستقبلنا كلنا كسوريين، من المحال التعايش بيننا والحفاظ على سورية موحدة أرضاً وشعباً دون أن تأخذ العدالة مساراتها الواجبة، وطي سنوات الألم والمعاناة والعذاب.
والعدالة الانتقالية كما هو معلوم، وكما جرى في بلدان أخرى عديدة، ممر إجباري للسلم الأهلي والاجتماعي، وقاعدة قانونية يجب أن تشملها منظومة القوانين والتشريعات الحديثة، ومرتبطة بشكل وثيق بالشرعة الدولية لحقوق الانسان التي تعتبر اليوم مقياساً لرقي وتقدم الشعوب، كما أنها، أي العدالة الانتقالية، إحدى مقتضيات الحل السياسي ونتائجه التي يترتب عليها محاسبة كل من تورط بجرائم القتل والتعذيب والتمييز، ومصادرة الحقوق والأملاك. والحريات بمختلف أشكالها.
كما هو معلوم ومسلم به تنبع الحاجة الماسة للعدالة الانتقالية لمجتمعنا لمنع الثأر والانتقام وإيقاف احتمالات الاستمرار في دوامات العنف والقتل اللامتناهي، والتمييز على أساس الدين والطائفة والمذهب، أو العرق والجنس والولاء، تطال كل من تورط فيها، وليس النظام وحده، وهي هنا أساس بناء دولة وطنية حديثة تقوم على فكرة المواطنة والقانون، وتخرجنا من دولة العصابة والرق والعبودية.
حتى الآن ليس هناك مايشير، في مسارات الحل المطروح والمتداول، عن قرب تلك اللحظة التاريخية، فاللجنة الدستورية شبه توقفت أو انتهت، بل أخفقت وفشلت، وكان متوقعاً لها ذلك منذ أن طرحت كفكرة، وفي جولاتها كلها لم تطرح هذه القضية، التي هي أصلاً تتويجاً لمسار حل سياسي وانتقال لسلطة هيئة حكم انتقالي كما جاء في القرار الأممي 2254، كما أن الهيئة العليا للمفاوضات بالرغم من حديثها في أوراقها الرسمية عن العدالة الانتقالية، شأنها شأن كل القوى السياسية السورية، لم تتقدم في هذا المجال قيد أنملة كون هذا المسار كله معطل وفاشل ويخضع لضغوط وتجاذبات إقليمية ودولية، وبعيد عن حلم السوريين بالحرية والكرامة والعدالة.
إذا كانت تلك اللحظة التاريخية ماتزال بعيدة، ودونها حتى الآن عقبات كثيرة، فإن ذلك لا يعني أبداً استحالة دنوها، أو التخلي عن المطالبة بها والصفح عن كل تلك الجرائم، والمستمرة حتى اليوم، فهي جرائم لا تسقط بالتقادم ومرور الزمن، وهي حق لأصحابها كما هي حق عام للمجتمع بأكمله.
باتت فكرة العدالة الانتقالية وتجسيدها واقعاً، خطاباً وقانوناً وممارسةً، جزءً من مستقبل سورية والسوريين وبغير ذلك تبدو لنا الآمال ضعيفة في أن تطوى صفحة الطغيان وآل الأسد والانتقال إلى مرحلة جديدة حلم السوريين بها طال إلى مايزيد عن نصف قرن.
المصدر: إشراق