هـ. أ. هليير
ماذا جرى؟
في 26 أيلول/سبتمبر، توفّي يوسف القرضاوي المولود في مصر والذي يحمل الجنسية القطرية، عن عمر 96 عامًا. كان القرضاوي من الشخصيات الدينية المسلمة الأكثر غزارةً في الإنتاج، وقد ارتبط على وجه الخصوص بنزعة حداثية محدّدة. لمع نجمه نتيجة استعداده للخوض في مجموعة واسعة من المواضيع المعاصرة، وحضوره الإعلامي عبر قناة الجزيرة، وشبكته الواسعة في أوساط القاعدة الأكبر لأتباع الإخوان المسلمين، والدعم الذي حظي به من مضيفيه في الدوحة. إثر وفاته، تقدّم كثرٌ بعبارات التعزية في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي، وتجدّد أيضًا النقاش والسجال بشأن إرثه الديني.
أين تكمن أهمية المسألة؟
كان القرضاوي آخر الشخصيات في جيل من أنصار السلفية الحداثية، ولعله كان الأكثر بروزًا في الميدان العام. كانت السلفية الحداثية التي يجب عدم الخلط بينها وبين التيار السلفي السعودي، توجّهًا فكريًا في القرنَين التاسع عشر والعشرين، وكان دافعها الأساسي استعادة الحكم الذاتي السياسي الإسلامي في عالمٍ لا يزال يعاني من تداعيات الاستعمار الغربي، وما تبعه من نزعةٍ إمبريالية. وقد اعتبر أتباعها أن بعض الإصلاحات وأساليب التكيّف ضرورية في المساحة الدينية من أجل تحقيق ذلك. ضمّ التيار في بداياته شخصيات مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده (مفتي الديار المصرية سابقًا)، والمفكّر السوري رشيد رضا. وتعرضت هذه النزعة للانتقادات، على أسس دينية، من شخصيات عدة داخل المؤسسة الدينية الإسلامية. لكنها استمرت وظلّت مصدر إلهام لعددٍ من التيارات السياسية المختلفة، ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر على يد حسن البنا الذي كان من المؤيّدين الأساسيين لأعمال رضا.
أصبح القرضاوي على ارتباط وثيق بالإخوان المسلمين في أربعينيات القرن العشرين. واستمرّ هذا الرابط في المرحلة المتبقية من حياته، وتسبّب بدخوله السجن في مصر في محطات عدة على خلفية صلاته مع التنظيم المحظور. وقد دفعه ذلك في نهاية المطاف إلى مغادرة مصر، علمًا بأنه عاد إليها زائرًا بعد سنوات عدة، قبل انتفاضة العام 2011 وبعدها على السواء.
وفي قطر التي انتقل إليها القرضاوي في العام 1961 حيث أصبح مرشدًا دينيًا، بدأ اسمه بالبروز وحقّق شهرة واسعة، وألّف أعمالًا مختلفة حول مواضيع معاصرة. وتمايز عن أقرانه بتقديم الاستنتاجات بعبارات بسيطة وشائعة موجّهة إلى الجماهير الواسعة، لا إلى زملائه الفقهاء، وكان أيضًا أقل اعتمادًا من نظرائه على المنهجيات الدينية التقليدية. كان القرضاوي، بوصفه خرّيج جامعة الأزهر، يتمتع بمؤهلات رجل الدين الضرورية لإرضاء أتباعه الأكثر تديّنًا، ولكنه كان قادرًا أيضًا على التكلم بلغة بسيطة غير فقهية، مع نزعةٍ حركية في معظم الأحيان. ونتيجةً لذلك، تفوّق إلى حدٍّ كبير على معظم أقرانه في صورته العلنية واستقطابه للجماهير.
صحيحٌ أن النهج الذي اتّبعه القرضاوي كان محط تقدير من جماهيره، لكن كثرًا انتقدوه أيضًا، ولا سيما أن تمسّكه القرضاوي بالتوجّه السلفي الحداثي جعل الفقهاء الأكثر تقليدية الذين يمثّلون التيار السائد ينظرون إلى عمله بأنه مثير للإشكاليات، ويشكّكون في منهجيته الدينية. وقد وجّه كثرٌ انتقادات إليه في هذا المجال، أبرزهم العلاّمة الديني السوري الشهير سعيد رمضان البوطي. وخارج التيار السائد، أبدى أيضًا سلفيون مرتبطون بالسعودية معارضتهم لنهج القرضاوي.
تزايدت شهرة القرضاوي من الدوحة، حيث تولّى عمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر التي كانت قد تأسست حديثًا، ما وفّر له منصة هائلة. وازدادت شهرته الدولية أكثر بفضل برنامجه “الشريعة والحياة” الذي بُثّ على قناة الجزيرة ووفّر مضمونًا لقاعدة بيانات إلكترونية واسعة مع انتشار الإنترنت، ما شكّل ظاهرة فريدة من نوعها في أوساط الشخصيات الإسلامية آنذاك. وعُرف القرضاوي بمواقفه السياسية المثيرة للجدل التي أدّت إلى منعه من دخول الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا ودول أخرى، إذ وضعت حدًّا لزياراته المنتظمة إلى الغرب.
تشمل بعض الأمثلة على هذه المواقف تأييده لعمليات الفلسطينيين الانتحارية ضد الاحتلال الإسرائيلي (مع أنه بدّل موقفه في السنوات اللاحقة)، ودعمه للسوريين الذين يحاربون نظام الأسد. واتّهمه منتقدوه باعتماد تكتيك باتت تستخدمه لاحقًا مجموعات أكثر تشدّدًا بكثير، وعلى نطاق أوسع مما كان القرضاوي يتوقّع. ومع أنه وقّع على بيان رسالة عمّان التي دعت إلى التسامح والوحدة في العالم الإسلامي في العام 2004 ، ازداد خطابه حول الشيعة حديّةً باطّراد، ولا سيما بعد العام 2011 ، في سياق الدعم الإيراني لبشار الأسد في سورية والميليشيات الشيعية في العراق، واعتبار القرضاوي أن أنشطتهم الدعوية موجهة ضد السنّة حول العالم.
أدّى ذلك أيضًا إلى معارضة القرضاوي للانتفاضة في البحرين خلال الربيع العربي، والتي صوّرها على أنها انتفاضة الشيعة ضد النظام الملكي السنّي، على الرغم من دعمه للانتفاضات الثورية في كافة أنحاء العالم العربي تقريبًا. يُشار أيضًا إلى أن سجلّه خلال الانتفاضات العربية كان مثيرًا للجدل. وفيما كان تنديد الحكومات ومجموعات الثورة المضادة بالقرضاوي لدعمه معظم الانتفاضات أمرًا متوقعًا، أدانت بعض المجموعات الثورية بدورها دعمه لجماعة الإخوان المسلمين.
ما المضاعفات على المستقبل؟
توقّف بثّ برنامج القرضاوي التلفزيوني الذي كان يُعرض على قناة الجزيرة في العام 2013، بعد أن استمر لحوالى عقدَين من الزمن. فقد باتت قطر، التي تبنّته ودعمته، متورّطة في صراع جيوسياسي أوسع مع أقرب جيرانها، أي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين. وأدّت التصريحات النارية التي كان القرضاوي يطلقها في الكثير من الأحيان ضدّ التوجهات السياسية لهذه الدول إلى تأجيج جذوة التوترات بين الدوحة وجيرانها. ولهذا السبب، كان صوت القرضاوي غائبًا خلال السنوات الماضية.
استفاد القرضاوي، في مرحلة أبكر من حياته، من شبكات دعم مختلفة بفضل صلاته بجماعة الإخوان المسلمين، ناهيك عن الدعم الحكومي والإعلامي القطري، على خلاف غيره في المؤسسة الدينية الأوسع في العالم العربي. ومع التطوّر الذي شهدته وسائل الإعلام الدولية وشبكة الإنترنت، أصبحت بيئة المعلومات اليوم أكثر تشرذمًا، إذ تعمل مجموعات متنافسة على تعبئة القوة الناعمة الدينية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بدعم من دول مختلفة أبرزها السعودية والإمارات وتركيا.
صحيحٌ أن هذه التوجهات قد لا تتأثّر بوفاة القرضاوي، لكن الأكيد أن وفاته تطوي الصفحة على مرحلة بدأت خلالها الشخصيات الدينية بمواكبة عصر تطوّر القنوات الفضائية الإقليمية وتوسّعها، وانتشار الموارد الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي.
المصدر: مركز مالكولم كير- كارنيغي للشرق الأوسط