معقل زهور عدي
عسكرة المجتمع وحكم الأقليات العسكرية :
بعد انهيار الدولة العباسية مع اجتياح المغول لبغداد عام 1258 م دخلت المجتمعات العربية – الاسلامية في طور حضاري وثقافي مختلف عما سبق , فانقسام الدولة العباسية إلى دول , السلاجقة , الأيوبيون , الدولة الفاطمية , الدولة البويهية , والامارات الأخرى المتناثرة كالدولة الحمدانية , والقرامطة , ثم المماليك حتى العام 1517 م حين استطاع العثمانيون ضم بلاد الشام ومصر ومعظم شبه الجزيرة العربية ومن ثم الشمال الافريقي العربي – الاسلامي .
وبصورة خاصة نجد أن تلك الفترة المقدرة بثلاثمئة عام بين بداية القرن الثالث عشر الميلادي وبداية القرن السادس عشر شهدت موجات بالغة القوة من الغزو ات المغولية والصليبية الأوربية , وما كان لتلك المجتمعات أن تخرج منتصرة على تلك الموجات العاتية بدون عسكرة المجتمع , وتجميد الصراعات الفكرية لصالح حشد الجيوش التي تكونت نواتها من مجموعات مقاتلة غريبة عن النسيج المجتمعي لكنها حملت راية الدفاع عن الاسلام كالسلاجقة الأتراك والأيوبيين الأكراد والمماليك الشراكسة والأتراك , وبقدر ما اهتم أولئك الحكام بتجييش المجتمع بقدر ماحرصوا على توحيد مذهب الدولة ومحاربة المذاهب الأخرى , ربما لمنع الانقسامات الداخلية في وقت يواجه فيه المجتمع خطر الإبادة على يد المغول أو الصليبيين كما حصل في الأندلس .
وفي حين أثمرت جهود تلك الدول في مواجهة الأخطار الخارجية الداهمة , فقد كان الثمن باهظا على صعيد الانحدار الفكري , وتحول الفكر الإسلامي إلى قوالب جامدة أصبحت مع الزمن أفكارا مقدسة لايجوز الخروج عنها بقليل أو كثير , فلم يبق للفكر الاسلامي سوى تكرار تلك الأفكار وشرحها ثم الشرح على الشرح في حركة دائرية لولبية .
وفي هذه الفترة انتقلت النظرة نحو الفلسفة من الإهمال والابتعاد عنها إلى العداوة معها وأصبح الغزالي رمزا لانتصار الفكر الاسلامي المحافظ على الفلسفة , وبدلا عن الفلسفة التي اعتبرت الطريق نحو الزندقة انفتح باب التصوف النقيض الكامل للفكر النقدي الفلسفي , وهكذا نشاهد أن أبا حامد الغزالي الذي قيل عنه إنه بلع الفلسفة ولم يستطع تقيؤها أنهى حياته الفكرية بالتحول الكامل نحو التصوف بما بشر بتحول مجتمع بكامله نحو ترك الفكر النقدي العقلاني بل ومحاربته نحو التسليم الصوفي ليس بحقائق الدين الجوهرية ولكن بكافة الأطر الفكرية الاسلامية لتيار ” أهل الحديث ” الذي تحول إلى تيار ” أهل السنة والجماعة ” .
بقدر ما كانت الأبواب مغلقة خلال تلك المرحلة الزمنية الطويلة على الفكر النقدي العقلاني بقدر ماكانت مشرعة أمام التصوف الذي يبعد المجتمع عن السياسة ويخلق عالما موازيا يطيل النظر والتأمل في معاني الخلاص والعشق الروحي الإلهي . أليس ذلك ما يتمناه أي حاكم يقلقه نشوء المعارضة الداخلية ؟
واستطرادا أليست آثار فكر التصوف الإسلامي حاضرة في تركيا حتى الآن بعد أن وجدت الحاضنة المناسبة لمئات السنين ؟ وقد عرف السلاطين العثمانيون بشدة مواجهتهم لأية بوادر للإنشقاق الداخلي أو المعارضة السياسية ؟
مايهمنا هو ذلك التناغم بين محاربة العقل النقدي الفلسفي وضرورات تثبيت حكم النخب العسكرية الأجنبية في مجتمعات وجدت في تلك النخب المقاتلة أدواتها التي لاغنى عنها للدفاع عن وجودها المهدد .
ففي حين شكلت النخب العسكرية الحاكمة رأس هرم السلطة فقد كان ذلك الرأس بحاجة لقاعدة مجتمعية تمد الجسور بينه وبين مجمع غريب عنه في اللغة والثقافة وكثير من العادات والتقاليد , وأفضل من يقوم بتلك المهمة هم رجال الدين , لكن الثمرة المرة لذلك الزواج كانت تثبيت الأفكار المحافظة ودفن البقية الباقية من الفكر العقلاني النقدي .
يتهم الكثيرون فترة الحكم العثماني بأثرها في تخلف الفكر في المجتمعات العربية , لكن الحقيقة هي أن الفكر العربي – الاسلامي كان قد سبق أن تبلور في ملامحه وأطره العامة إلى حد كبير , ولم تكن الفترة العثمانية سوى حاضنة لاستمرار ذلك الفكر دون تغيير وكأنه وضع بثلاجة كبيرة مدة ثلاثمئة عام أخرى .