تعتبر ظاهرة اللجوء من أهم الظواهر التي تستدعي الاهتمام الإقليمي والدولي، بهدف التعامل معها بمقاربة ذات فاعلية ونجاعة تؤكد على حماية حقوق هؤلاء اللاجئين، ونتيجة لزيادة عدد اللاجئين في العالم تُنادي الكثير من الأصوات- حكومية وغير حكومية- بضرورة التكافل والتحصّن الاستباقي من ظاهرة اللاجئين من خلال العمل المبكر والوقائي للحيلولة دون انتشار الأزمات والنزاعات، وقد ارتبط اللجوء تاريخياً بالحماية، واستمرّ العرف السائد على حماية اللاجئ من جانب الدولة التي يلتجئ إليها، فهو يمثل جزءاً من سمعتها ومكانتها بين الدول، وربما سيادتها، في تأمين حماية من يلتجئ إليها، واقتضى ذلك عدم طرد طالب اللجوء والحماية.
ومايزال الصراع في سورية وعليها مُحتدماً، وغير مرشحٍ للتسوية في الأمد القريب، بظل حالة الاستقطاب الواضح بين القوى الدولية والإقليمية، وعدم تمكين السوريين من تحقيق أهداف ثورتهم وانعدام آليات تسوية سياسية بترك سورية بين أنياب تدخلات عسكرية مدمرة لروسيا وإيران وميليشياتهم دعماً لفاشية نظام “بشار أسد” بعد فشله بالحد من عنفوان ثورتنا، فأدت هذه الأوضاع المتردية لاستمرار المعدّلات المرتفعة لتدفق اللاجئين السوريين داخلياً وخارجياً، التي لن تنتهي ما دامت أسباب اللجوء مستمرة.
مع زيادة عدد اللاجئين في العالم، ضمن أسباب أخرى، فقد عادت مشكلة اللاجئين السوريين للواجهة مع محاولة عدد من الدول التي استقبلتهم إعادة بعضهم إلى سورية أو إلى مناطق أخرى تحت ذرائع مختلفة، وبدأت بعض الدول بإيجاد حلول خاصة بها بعد جمود المسار السياسي المتعلق بالقضية السورية عقب الثورة وتداعياتها، ضمن هذا الإطار أعلنت الحكومة التركية، لضرورات داخلية، عزمها إعادة قرابة مليون لاجئ سوري مقيمين على أراضيها ضمن ما سميَّ ”العودة الطوعية” لمساكن ستقيمها في مناطق الشمال السوري، وفق معايير ومحددات تضمن أن تكون “متوافقة مع القوانين الدولية”؛ مثل ذلك تهديدات السلطات اللبنانية المستمرة بإبعاد اللاجئين السوريين عن أراضيها، وإعادتهم لأماكن هربهم من نظام القتل الأسدي وميليشياته الطائفية العديدة داخل سورية!
وتُعد قضية عودة اللاجئين إلى دولهم من القضايا الإشكالية المعقدة التي تختلف باختلاف الظروف والبلدان، وأنها يجب أن تتم وفق المعايير الدولية وبما يوافق “عتبات الحماية” الـ/22/ التي حددتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والتطبيع المطروح يُسهم في تعقيد المشاكل وزيادة معاناة اللاجئين، بدلاً من تمكينهم، ولعل حجم اللجوء بذاته مشكلة، سواءٌ على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي؛ وإن جمود الحالة السياسية في سورية وتجاهل المجتمع الدولي لحل هذه القضية، مع تراجع المساعدات الإنسانية وتفاقم أوضاع اللاجئين الإنسانية، وزيادة التحديات على بعض الدول المضيفة، أدت لأن تجد لنفسها حلاً منفرداً وفقاً للإمكانيات المتاحة بإعادتهم تحت الضغط إلى مناطق غير آمنة أو ذات ظروف أسوأ، دون تحقيق “عتبات الحماية” والظروف الملائمة لهذه العودة.
ومن الضروري الاعتراف أن أزمة اللاجئين تحمل إلى جانب وجهها الإنساني أعباءً ثقيلة على الدول المضيفة داخلياً وخارجياً، ولذا فإن فهم التحديات التي تواجهها هذه الدول من قبل مجتمعات اللاجئين ومنظماتهم وقادتهم يُعد خطوة أولى نحو توليد حلول ومشاريع تصبّ في مصالح الطرفين، وتخفّف حدّة الاحتقان والمشاكل وتقلّل الآثار السلبية المتوقعة تجاه أي خطوة تستخدم لحل هذه المشاكل، سواء كانت هذه الحلول إعادة توزيع أو إعادة توطين أو اندماج أو عودة آمنة طوعية!
وباعتبار أن البيئة الآمنة وفق “عتبات الحماية” الـ/22/ التي تشجّع اللاجئين على العودة غير متوفرة داخل سورية، بوجود سلطة الاستبداد والقتل وميليشياتها وداعميهم الروس والإيرانيين، فإن أي حديث عن عودة اللاجئين السوريين هو ضربٌ من التنجيم وبيع الوهم، خاصة مع توفر مزيد من إحصائيات التصفيات والاعتقالات لمن يعود لسلطةٍ كانت في الأصل سببَ هروبهم ولجوئهم؛ وتزداد مخاوف اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، من تبعات التقارب بين أنقرة ونظام بشار أسد، مع اقتراب موعد الانتخابات التركية وتزايد التضييق عليهم، أكان من الحكومة التي استقبلتهم، أو من المعارضة التي تعارض وجودهم أصلاً، فالترحيل ليس حلاً ناجعاً بل يشكل كارثة لأبناء الثورة الحقيقيين، فضلاً عن تعقيدات شروط الإقامة وتجديدها وتسجيل المعاملات!
هذا الواقع دفع الكثير من السوريين في تركيا، خاصة من لا يستطيعون العيش في أيٍ من مناطق الأمر الواقع في سورية، للتفكير بتأمين بلد بديل للعيش فيه، قبل أن يجدوا أنفسهم أمام خيار الترحيل وهم ممن يملكون إقامات سياحية، بالتوجه للعدد القليل من البلدان التي تستقبلهم لاستخراج إقامات فيها كونه الخيار شبه الوحيد المتاح أمامهم، أما حاملو بطاقات الحماية المؤقتة فليس من سبيل أمامهم سوى الهرب عبر الطرق غير الشرعية، والتي يتم معظمها عبر المغامرة في البحر من جديد على الرغم من توقّف تهريب البشر بحراً في الشتاء، لكنها تشهد ازدحاماً وتعقيداً في عبور هذا الطريق والمغامرة بالحياة.
هذا الواقع جعل المواطن السوري أكثر من يدفع فاتورة تغيُر سياسات الدول ومحاولة إيهامه بما يسمى التعافي المبكّر، والتحفيز الإنساني والاقتصادي بفتح المعابر والطرق للتجارة، من خلال تطبيعٍ مزيف لن يفيد هؤلاء المُطبعين، ولن ينقذ اقتصاد نظام آل أسد الذي يعاني سكرات الموت، مع استمرار العقوبات الأميركية لكفّ يد المتصالحين مع النظام واستثماراتهم، وسيكون فقط لصالح مافياته للنهب والكبتاغون، في ظل عدم تحقق الانتقال السياسي وتحقيق العدالة الانتقالية في سورية وإطلاق سراح المعتقلين والموقوفين قسرياً، والكشف عن مصير المفقودين وتطبيق مبدأ المحاسبة بإشرافٍ دولي.
المصدر:إشراق