عبد الباسط حمودة
رغم تركّز الزلزال- الذي كان مختبئاً- بالشمال السوري والجنوب التركي، فقد وصلت آثاره وارتداداته لمناطق واسعة، لليونان وقبرص ومصر غرباً، ولأرمينيا وجورجيا شرقاً، وجنوباً للبنان وفلسطين، مما جعل شعوباً وبلداناً متعارضة سياسياً تستشعر الخطر الذي مثّلته الكارثة، لتستذكر العيش على أرضٍ واحدة، ينداحُ فيها أيُ حدثٍ طبيعي خارج الحدود، فقد حرّك الزلزال وتوابعه موجة كبيرة من التعاطف داخلياً وضمن المنظومة الإقليمية والدولية لتتفاعل أجهزة الدبلوماسية العالمية معه.
وبسبب الأوضاع الخاصة وتعدُّد سلطات الأمر الواقع وغياب أي سلطة مركزية في سورية، لم تكن ثمّة سياسة أو استراتيجية لإدارة الكارثة ابتداءً ولم تكن هناك أية منظومة واضحة تحكم عملية البناء العشوائي دون وجود معايير وضوابط تضمن السلامة مما زاد عدد الأبنية المدمرة ورفع حجم الخسائر البشرية، فتوجّهت أغلب فرق الإنقاذ الأجنبية، والمساعدات إلى تركيا أولاً، عدا بعض الدول قامت بإرسال بعثات للبلدين، ومنها من تعامل مع سلطة الإجرام الأسدية واعتبرها فرصة لإعادةِ تدويرهِ المستحيل!
فالمناطق الواقعة بالشمال السوري، تعاني منذ أكثر من /12/ عاماً من الاستنزاف وعدم الاستقرار السياسي والأمني والإنساني بفعل التدمير الممنهج من القتل السوري، وتراجع معدلات الاستجابة الإنسانية عاماً بعد آخر، وارتفاع معدلات الفقر لنسب قياسية، فبلغت معدلات اضطرابات ما بعد الصدمة وحالات التقزُّم نِسباً عالية، وتفاقمت حالات الانتحار، وانتشرت بعض الأمراض المُعدية والكوليرا قبل حدوث الزلزال؛ وبعده أدى غياب التدخل الجادّ من قبل الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية والتذرع بعوائق لوجستية وسياسية وبيروقراطية إلى تفاقم الخسائر البشرية، لا سيما وأن الاستجابة لأضرار الزلزال في الأسبوع الأول كانت استجابة محلية خالصة عانت من غياب المعدات والآليات المطلوبة خاصة الثقيلة منها، مع غياب أي دعم حقيقي من شأنه إنقاذ المزيد من الأرواح.
وبالنظر لملامح الكارثة الإنسانية في سورية تبرز العديد من التحديات أمام العاملين في الشأن الإنساني، منها تحديات المأوى والاستجابة العاجلة الذي يفترض عدم التعويل بشكل كامل على المساعدات الخارجية التي يجب الاستفادة منها وعدم تجاهلها، ويُفترض بنا كسوريين سواءٌ أكنا أجساماً سياسية أو مجالس محلية أو سلطات أمر واقع أو منظمات مدنية التفكير باستراتيجيات أخرى لتوظيف المساعدات في القطاعات ذات الأولوية لتحقيق حالة من الاستدامة، وتسريع التعافي، وإعادة بناء البنى التحتية.
وفي هذا السياق لا بد من بناء هيئة للحماية المدنية للطوارئ والكوارث، تتبنّى آليات ومنهجية الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي والجامعة العربية، تضم ممثلين عن جميع الفاعلين السوريين بمختلف المستويات وفق مرجعية وأهداف وسياسات واضحة وشفافة، تعمل على وضع ميثاق شرف وبرامج وآليات وخطط استجابة مسبقة للتعامل مع حالات الطوارئ، مع العمل على تأمين دعم مادي ولوجستيات وقواعد بيانات حول المتطوعين والآليات والموارد والعلاقات التي يمكن الاستفادة منها، لتكون هذه الهيئة الحامل الوطني المتخصص الذي يقدّم الحلول والمشاريع الخاصة بتذليل التحديات المتوقعة، بحيث تكون منظمة “الخوذ البيضاء” القدوة والمثل كنواة للانطلاق نحو الأشمل؛ فضلاً عن الحذر بالتعامل مع الأنقاض، وعدم سرقتها أو إعادة استخدامها في بعض عمليات البناء التي لا يمكن أن تحقق المتانة المطلوبة، ولا بد من إعطاء الأولوية لبرامج المياه وتقييم شبكات توزيع المياه والصرف الصحي وتطويرها وإعادة تصميمها وتوسيعها لتخدم جميع التجمعات البشرية الموجودة، وإنشاء محطات معالجة للمخلفات بطريقة آمنة تراعي المعايير البيئية.
مع ضرورة إدارة وضبط عمليات البناء والإيواء، سواءٌ إنشاء مخيمات جديدة تطابق المعايير الدنيا، وإعادة حوكمة المخيمات الموجودة والعمل على التأكد من مطابقتها لتلك المعايير التي لم تتحقق حتى الآن، مع ضبط عمليات البناء الإسمنتي الجديد، ووضع القيود على توسع العمران بشكل عشوائي، إذ يلزم التشدُّد في تطبيق معايير الترخيص والدراسة والإشراف الهندسي والتحقق من جودة الإنشاء ومطابقته للشروط ومتطلبات السلامة العامة والأمان من الزلازل، لأن “ الزلازل لا تقتل لكن البناء غير السليم هو الذي يقتل”.
ولا بد من تفعيل جهود الدعم النفسي ودعم كوادره ومؤسساته، وزيادة برامج تدريب الاختصاصيين والمتطوعين المخصصة للتعامل مع أشكال الأزمات المختلفة، خاصة عند الأطفال والنساء، وإقامة برامج وأنشطة طويلة المدى تساعد الكوادر العاملة في هذا المجال على تجاوز الصدمة التي تعرضوا لها حتى يكونوا قادرين على تقديم الدعم لغيرهم، فضلاً عن الاستخدام الفعّال للتكنولوجيا في البحث والتقصي عن المفقودين والمتوفين والحالات الحرجة التي تستدعي تدخلاً عاجلاً، وتتبع الأمراض والأوبئة وحجمها ومراكز انتشارها، والضغط من أجل تطوير أنظمة الاستجابة المحلية للمنظمات العاملة والفرق التطوعية والقيادات المجتمعية وتطوير قدرات أفرادها والتنسيق فيما بينهم، وزيادة الاهتمام بمشاريع التوعية المجتمعية للتعامل مع الزلازل والكوارث الطبيعية.
ولا بد أن تتحرك المنظمات السورية للضغط ومساءلة المنظمات الإنسانية المعنية لمعرفة أسباب التراخي والتباطؤ في الاستجابة إثر فجر يوم 6 شباط/ فبراير الماضي، لضمان عدم تكرار هذه المشكلة في المستقبل، والسعي لتخفيف العوائق البيروقراطية وسدّ الفجوات خاصة مع تدفق السوريين العائدين من تركيا، بسبب الكارثة الزلزالية والعنصرية المقيتة الطافحة ضدهم من بعض رموز المعارضة التركية وأنصارهم، فضلاً عن تواصل هذا البعض مع رأس الإجرام في سورية بالوقت الذي لا تتعاون فيه مع سلطاتِ بلادها!
المصدر: إشراق