لاقت الزيارة التي قام بها (حمدين صباحي) الأمين العام للمؤتمر القومي العربي، ولقائه رئيس النظام السوري (بشار الأسد)، ردود أفعال غاضبة من السوريات والسوريين ضحايا إجرام الأسد وعصابته الحاكمة، الذين رأوا فيها طعنةً جديدة، تضاف إلى طعنات باتت لا تُحصى، من شخصيات وأحزاب وتجمعات عربية، ينتمي طيفٌ واسعٌ منها، إلى التيار القومي العربي وتمثلاته الفكرية والسياسية والكتلوية. لا مبالغة في القول: إن تلك الوفود واللقاءات التي قامت بها شخصيات تعتبر نفسها “الأمينة” على الفكر الناصري، و”الناطق الشعبي” باسم العروبة والعروبيين، والتي تقاطرت طيلة محطات الثورة السورية، إلى حضن طاغية الشام، تعبيراُ عن تضامنها ودعمها لوقوفه في “مواجهة المؤامرة الكونية والدفاع عن المقاومة وفلسطين” إنما تكشف عن حجم المرارة والخذلان في أوساط الشعب السوري الحر، من استخدام “الغطاء العروبي”، وتوظيفه لتبييض الصفحات السوداء للنظام الأسدي، على حساب تضحيات ومعاناة ملايين السوريين التواقين للحرية والخلاص. يُفيد التذكير هنا بما يتجاهله أولئك المتقمصون لمهام الدفاع عن الهوية العربية، وتطلعات شعوبها المنكوبة بالاحتلال الخارجي والأنظمة البائدة، بحقائق راسخة تنتصب شواهدها في الماضي البعيد والقريب، ومن أبرزها: قوة إنتماء الشعب السوري وتمسكه بهويته العربية، وأدواره التاريخية في الدفاع عن قضاياها العادلة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، ما يستوجب من أشقائه العرب قبل غيرهم، دعم حقوقه الوطنية والإنسانية في التخلص من نظام الاستبداد الأسدي الجاثم على صدره طيلة العقود الماضية، والوقوف إلى جانب تطلعاته المشروعة في بناء دولة ديمقراطية حرة.
من الصادم والمؤلم في آنٍ معاً، مدى انحطاط سلوك “صباحي” وآخرون غيره صدّعوا رؤوس شعوبهم، قبل انطلاق ثورات وانتفاضات الربيع العربي، بشعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، مع استبدال أولويات تلك الشعارات في خطابات أحزابهم القومية، وإعلان بعضهم بعد بزوغ الربيع العربي المنتظر، عن تأييده لمساراته التحررية. سرعان ما اتضح زيف طروحاتهم الداعمة للثورات، بدلالة أدوار العديد من الشخصيات والأحزاب القومية المصرية، في وأد تجربة الثورة المصرية وهي لم تزل في بداياتها، حين تحالفوا مع انقلاب العسكر بالضد من الدستور، ومشاركتهم في إنهاء الحكم الذي جاء بالرئيس مرسي عبر صناديق الاقتراع، وكذلك أدوار نخب وأصوات عروبية تونسية، لاتزال تدعم بأفعالها تارةً وصمتها تارةً أخرى، سياسات القمع والتنكيل، التي يمارسها بن سعيد بحق خصومه السياسيين، لمجرد خطابته الفارغة، وتخرصاته الشعبوية عن العروبة وفلسطين.
في حين أسقط امتحان الثورة السورية، وطوفان آلام السوريين على يد المجرم الأسدي وحلفائه، ورقة التوت الأخيرة عن رهطٍ غير قليل من دعاة “النضال القومي”، فآثروا تقديم مصالحهم الرخيصة وحساباتهم الضيقة، بانحيازهم السافر إلى أعتى نظام دموي، قام بقتل واعتقال وتهجّير الملايين من شعبه، دون وخزة ضمير من لقاء ومصافحة سفاح سورية والعصر. يتناوبون بين الفينة والأخرى فرادى وزرافات، على عقد لقاءات ومؤتمرات متنقلة، ذات عناوين عروبية برّاقة، برعاية عرابهم المشهور بالاستثمار القومجي ” معن بشور” وبدعمٍ سخي من عصابة الملالي في طهران، الذي لا ينفك أولئك الدعاة المنافقون، رغم سيطرة أدواتها وميليشياتها المذهبية، على أربع عواصم عربية، ومساعيها بكل الوسائل الهمجية، إلى تغيير وطمس هوية بلادنا الأصلية واقتلاع سكانها منها، من تتويج إيران كقائدة لمحور المقاولة الذي يتغنون به.
تكتمل اللوحة القاتمة، وما فيها من صور التنكر والخذلان بحق السوريين والعروبيين الأحرار منهم، مع مشاركة قيادات وشخصيات فلسطينية في هذه الجوقة الكالحة التي تنتحل مسمّى ” العروبة” بكل صفاقة وفجور، كي يغطوا على تناقضاتهم الأخلاقية الصارخة، بغطاء فصائلي فلسطيني يحاكي مصالحه ومصالحهم الدنيئة. فينخرط اجتماعهم على الباطل ومجافاة الحق، في سياق تشويه الروابط التحررية المشتركة بين حرية فلسطين من الاحتلال الصهيوني، وحق الشعوب العربية في التحرر من أنظمتها المُستبدّة. أخطر من ذلك تصب مواقف العار التي يعبرون عنها دون ذرة خجل، في طاحونة أجندات قوى إقليمية ودولية، تسعى إلى عزل الشعب السوري عن فضاء العروبة الذي ينتمي إليه، وتكريهه بكل الروابط والوشائج التي تجمعه بأشقائه العرب، وفصله عن دوره التاريخي في مناصرة القضية الفلسطينية، التي ضحى بدماء غزيرة دفاعاً عنها.
تطرح تلك الحقائق المريرة مفارقات وأسئلة كبيرة، عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى ارتماء الكثير من رموز وشخوص التيارات القومية والسياسية العربية، في أحضان أنظمة العسكر والاستبداد، والتحالف مع نظام الملالي المعادي للشعوب العربية، وقيامها بلعب دور وكيل الشيطان في محطة تاريخية فارقة !!. يحيل البعض انحطاط تلك الرموز والقوى والتجمعات التي تدّعي تمثيلها، وسقوطها المدّوي في حقبة الثورات العربية، إلى دور المال السياسي، وشهوة المصالح الشخصية، والاختراقات الأمنية للتيارات القومية من أجهزة الأنظمة التي تعيش في كنفها. فيما يرى البعض الآخر ونحن في تجمع مصير من ضمنهم، إن العطب الكبير والعميق في بنية التيارات العربية على اختلاف مرجعياتها الفكرية والأيديولوجية ومنها التيار القومي العربي، يكمن في هشاشة تجاربها الديمقراطية في محطات مسيرتها التنظيمية والسياسية، فغالبية قادة تلك التيارات وباستثناءات قليلة، بقوا في مناصبهم كأمناء عامين إلى عقود طويلة، جرياً على عادة حكام ورؤساء دول الاستبداد، في البقاء على عروشهم وكراسيهم، حتى تنقضي آجالهم بالموت أو بانقلاب عسكري أو بثورة شعبية. فضلاً عن ذلك بقيت مهام بناء الدولة الوطنية الحديثة، وفي جوهرها الكفاح من أجل حرية مواطنيها، من القضايا المهملة والثانوية في أحسن الأحوال، سواء في أفكار أو برامج أو ممارسات تلك التيارات، وكان الراحل جمال الأتاسي من كبار المنتقدين لقصور التيارات القومية، وفشلها في تلبية استحقاقات تلك المهمة المركزية، التي دونها لا يمكن بناء حامل عربي ديمقراطي قادر على النهوض بالأمة في كافة المجالات. إذاً دون الخوض في مراجعة نقدية شاملة لبنية التفكير والممارسة بمعزل عن الشعارات المطروحة، سيبقى تفسير ما آلت اليه التيارات العربية عموماً، والتيارات القومية على وجه الخصوص، محصوراً في تناول أعراض وأمراض أزمتها الفكرية والسياسية والأخلاقية، التي كشفت عنها الثورة السورية بكل وضوح.
قصارى القول: لا عروبة كمشروع سياسي يحقق مصالح وتطلعات الشعوب العربية المنتمية لهويتها الحضارية، دون المرور ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، ولا عروبة تقدمية وتحررية قادرة على التصدي لمهام التحرر والنهوض، دون تجاوزها للمفاهيم والممارسات القومجية والشعبوية الضيقة، والتزامها بقيم المواطنة، والمشاركة الكاملة مع بقية المكونات القومية والأثنية والعرقية الأخرى، في بناء أوطان حرة تكفل حقوق جميع أبنائها الأحرار.