بين الطائفية السياسية والطائفية المذهبية، خط فصل صغير، قد يتم تجاوزه في بعض الأحيان، أو تصبح الفروق جد ضئيلة، كما هو واقعنا السوري، بعد أن باتت الطائفية السياسية منتشرة بشكل واسع في الوضع السوري، وأصبح الارتداد إلى الطائفة، مسألة قابلة للمضي بها، في كثير من مناحي الممارسة الحياتية، حيث اشتغل النظام على تعميم الطائفية، وإلصاق التهمة هذه بكل من خرج لإسقاطه، وعمل مع مستشاريه الإيرانيين على إذكاء الروح الطائفية، وهو الذي نشأ كنظام سياسي بناء عليها، وخاض غمار إشاعتها، منذ حافظ الأسد الأب، ومليشيات أخيه رفعت الأسد ( سرايا الدفاع). حول ذلك كان لابد لجيرون من أن تسأل بعض المختصين، من باحثين وأساتذة جامعيين عن دور النظام السوري في إشاعتها وإعادة إحيائها؟ وما هي الأدوات التي استخدمها لتأجيج الطائفية؟ وهل يمكن أن يُدفع الجمهور الشعبي المغيب عمومًا ضمن حالة عدم وعي، إلى تقبل ذلك؟ ومن ثم الولوج في المسألة الطائفية؟ وهل ستنتهي مع انتهاء النظام؟
الدكتور عارف دليلة الأستاذ الجامعي تحدث لجيرون قائلًا ” الطائفية هي ظاهرة اجتماعية مفتعلة لأسباب ومصالح اقتصادية وسياسية، وليست من المنتجات الاجتماعية الموضوعية أو، بالأحرى، منتجًا طبيعيًا. فالإنسان لا يولد بشكل إرادوي اختياري واع، لافي الشكل أو اللون أو الجنس، ولا في الزمان والمكان والدولة والقومية والقبيلة واللغة والدين والطائفة، بل بعد أن يترعرع ويبدأ الوعي، يمكن أن يتعرف إلى معنى وفعالية ذلك كله، وبعد أن يصبح التعرف على ذلك ممكنا باختياره يمكن أن يصبح ذا قيمة في حياته ايجابًا أو سلبًا، أو لا يكون، ولا تكون لمسألة الطائفية أي قيمة بالنسبة لإنسان فرد منعزل، مثل روبنسون كروزو، بل حتى ولا لعضو في عائلة أو مجتمع، إلا عندما يصبح لهذه الصفة ( قيمة ) عملية، أي، كما يقال في علم الاقتصاد، تتحول المادة أو الفكرة إلى بضاعة / سلعة في السوق عندما تكتسب قدرة على تلبية رغبة أو حاجة ملموسة معينة، أو عندما يظهر الطلب عليها، وعند ذلك فقط تكتسب المادة أو الفكرة سعرًا في التداول، وعندما تتضاءل هذه الحاجة ينخفض سعر هذه السلعة، بل حتى تختفي كظاهرة عندما ينعدم الطلب عليها. وكل إنسان يستطيع اختبار ذلك على الواقع الذي يعيش، كيف تولد وتتضخم وكيف تخفت وتموت فعالية الظاهرة الطائفية في الواقع تبعًا للحاجات السياسية أو الاقتصادية، الفردية أو الطبقية، المجتمعية أو الدولتية، أو حتى الدولية”. وأضاف دليلة ” في مراحل النهوض الاجتماعي السياسي للمجتمع، تطغى التطلعات العليا العامة أو الخاصة للناس على علاقاتهم الاجتماعية البينية، وتتضاءل الخصائص والصفات الفردية، أما في حالات الركود أو الانتكاس سواء عند المجتمع بتكويناته المختلفة أو عند الفرد، فيحصل العكس، إذ ترتفع “قيمة” الخصوصية الأنوية أو السمات التمييزية للجماعة التي ينتمي إليها الفرد المقهور، سواء كانت متوهمة أو حقيقية، حتى تطغى على جميع مظاهر الحياة. فالطائفية المفعلة سلبيًا هي أحد مظاهر الأزمة الاقتصادية الاجتماعية السياسية، وخارج الأزمة وأطرافها المأزومة لا وجود حيث لا حاجة لها، كل من وما كان مأزومًا، قاهرًا أو مقهورًا، كان في حاجة للاستقواء بأي شيء ليتدعم به، ليثبت وجوده اللاشرعي. فالطائفية لا قيمة لها في ذاتها، وإنما تكتسبها من خارجها، من حاجة المأزوم لتحويلها إلى قوة مادية له في تحقيق أغراضه غير الشرعية. عندما تمثل السلطة قيادة عملية النهوض الاجتماعي العام، عندها تختفي الطائفية كقيمة وكقوة خاصة، ولا يتمايز الناس فيما بينهم، كما بالنسبة لها، إلا بقدراتهم على خدمة التقدم العام، هذا وهم يعملون لخدمة أنفسهم، ودون تناقض بين الاثنتين، وتتراجع إلى الخلف كل انتماءاتهم الأخرى، التي تكون بلا حاجة لها، كانت مشروعية السلطة، المنعدمة شكليًا وقانونيًا من الأساس، بأمس الحاجة إلى التدعيم، ولكن السلطة لم تأبه لذلك ولم تحاول ولا لحظة على مدى عقود تعويض هذا الانعدام من خلال إثبات وجودها اجتماعيًا عبر تحقيق التقدم الاقتصادي الاجتماعي طلبًا للرضى العام، وعبر تكريس سيادة القانون والعدالة والمساواة بين الجميع، على أساسه في السراء والضراء، وفي تمكين الإنسان من الترقي والتفتح وحمل المسؤولية والمحاسبة عليها، وتوفير الحريات الضرورية لتحقيق ذلك . لقد تضافرت الأسباب الاقتصادية والسياسية، والممارسات، في تأكيد انعدام الشرعية والدفاع عنه بوسائل من نوعه، بالغة انعدام الشرعية، بدل أن يكون موجهها الأول هو خلق وتكديس الحسنات والمؤيدات والمنجزات على المستوى العام، فالسلطة العامة هي المسؤول الأول عن إشاعة وخلق الظروف المساعدة في الوعي والممارسة لانفجار الطائفية والمساعدة للاستغلال الخارجي لها في تخريب الحياة الاجتماعية الوطنية، أو على العكس، لحرمانها من مسببات الإنفجار وحرمان الخارج المعادي من امكانية استغلالها. كانت فئات أصحاب المصالح الخاصة وكذلك القوى الخارجية ذات المصلحة في منع تقدم سورية في حالة استنفار دائم للتخريب في الداخل السوري، ليس بالضرورة لتدمير السلطة الحاكمة، وإنما لتدمير سورية دولة واقتصادًا ومجتمعًا، كإمكانية معيقة لاستراتيجياتها التوسعية الاقليمية والعالمية، ولكن ما كان بإمكانها فعل ذلك لو كانت الأرضية الداخلية غير مهيأة لاستقبالها وتوغلها. فما إن بدأ الاختلال والاضطراب الداخلي ينتشر، نتيجة عدم استعداد السلطة لمعالجة أسبابه، بل بفعل إصرارها على تأجيج هذه الأسباب، فقد قام التدخل الخارجي بزج الامكانيات الهائلة التي يمتلكها للمشاركة في صب الزيوت على النيران للوصول إلى الغاية المرسومة ألا وهي تدمير سورية بجميع الأسلحة الفعالة، ومن بينها سلاح الطائفية، إلا أنه من المهم جدًا التأكيد على أن سلاح الطائفية فشل فشلًا ذريعًا في تحويل الصراع بين السلطة وخصومها من صراع مسلح بين متقاتلين إلى حرب أهلية بين طوائف اجتماعية. فلم يحدث صراع جماعي مسلح بين السكان لأسباب طائفية في أي منطقة في سورية رغم الافتعال المريع عنفيًا والحشد الطائفي الهائل إعلاميًا “. ونبه دليلة إلى أن ” ما حدث من اصطدامات بين أفراد هنا أو هناك كان مخططًا ومفتعلًا ولم يتجاوز حدود الصراعات الشخصية. أما على المستوى الجماعي العام فعلى العكس، ازداد الاختلاط في معظم المناطق بين الناس من الطوائف المتعددة بسبب عمليات النزوح والحراك السكاني المأساوي الضخم الناتج عن العمليات العسكرية التدميرية، وبالتالي يمكنني التأكيد على ما كتبته وقلته مرارًا بأنه بمجرد إلغاء الصراع المسلح وتغييب المسلحين وإقامة شروط الحياة المعقولة الآمنة وتوطيد العدالة فإن طيف الطائفية سينكفئ إلى جحره لينشغل الناس بعملية البناء وإقامة النظام الجديد لدولة المواطنة والقانون الديمقراطية، فليركز الجميع على وقف استخدام السلاح مع البناء السلمي للنظام الديمقراطي الاجتماعي السياسي العادل البديل للتخلص بوساطته من جميع الآفات والتقسيمات الداخلية والاحتلالات الخارجية “.
أما الباحث الأردني فواز رطروط وأستاذ علم الاجتماع في جامعات الأردن فقال لجيرون” الطائفية موجودة موضوعيًا ويستغلها أصحاب المصالح لتحقيق أهدافهم، ولمنع المستعمرين وأصحاب المصالح الضيقة من اللعب بالورقة الطائفية فيجب التركيز على المواطنة بوصفها العلاج السحري لعلل المجتمعات المتخلفة. نعم المواطنة أولًا.”
وأكد المعارض السوري الدكتور وليد كرداس لجيرون ” سورية بلد الطوائف والإثنيات، لكنها بلد الشعور الوطني والوحدة الوطنية، وإبان الاستعمار الفرنسي حاول المستعمر اللعب على الوتر الطائفي كثيرًا لكنهم لم يفلحوا، بسبب نمو الحس الوطني ، إن فترة الثورات الوطنية بين الحربين وحروب الاستقلال ساهمت في إذكاء الشعور الوطني وإضعاف الشعور الطائفي، والحقيقة أننا نعتقد أن النظام السوري منذ مجيئ البعث يحاول إذكاء الشعور الطائفي، للهيمنة على المجتمع والدولة في سورية، من قبل بعض المجموعات في الجيش والدولة، ضمن ممارسات مفرطة في الاستعداء للدين مما يثير الرد المعاكس من الطوائف الأخرى، عبر التركيز على بعض الطوائف في الجيش والأمن، لكن بعد كل ما حدث خاصة مع بداية الثورة ، وما آلت إليه الظروف ، عمل النظام على إذكاء الشعور الطائفي والممارسات الطائفية داخل سورية واستعانة النظام بميليشيات طائفية، وبالمقابل حدث التدخل من الدول الإقليمية وعبرات ردات فعل مغرقة في الطائفية، بحجة مقاتلة الطائفية والإفراط والتطرف الديني داخل بلدانها، لكنها كانت تدعمه في سورية، لكنها لم تكن تقاتل ميليشيات النظام، ولم تواجه النظام، وإنما واجهت الحس الوطني والتشكيلات الوطنية، وواجهت الحراك الشعبي الوطني الديمقراطي الشعبي، والهدف الأساسي من كل ذلك الطائفية والطائفية المقابلة وساهمت أوروبا فيها في دعم داعش والنصرة وغيرها مقابل الحراك الطائفي الشيعي من قبل الدول الأخرى، وما نراه مخطط دولي وإقليمي والنظام جزء من هذا المخطط، و له الدور الأكبر”. وأضاف كرداس ” لقد استخدم النظام السوري (لإذكاء الطائفية) المذابح المريعة التي قام بها ضد المدنيين والنساء و الأطفال في كافة مناطق سورية، وللأسف كان العالم متابعًا، وبصمته مؤيدًا وداعمًا وبهذا يكون العالم له مخطط واضح لاستيعاب الربيع العربي ومن ثم إجهاضه والقضاء عليه، ولعل استهداف بعض المناطق ذات الأغلبية السنية وتحييد المناطق الأخرى، كما كافة الدول الإقليمية التي تمنع أي هجوم للفصائل العسكرية التابعة لها في سورية ضد أي منطقة ذات أغلبية لطوائف أخرى في سورية، لتشير أن الطوائف محمية من النظام وأن التطرف هو سمة الطائفة السنية، ويجب علينا قتالها، وكلنا يعلم أن النصرة وداعش لعبت دورًا في دعم النظام وتسليمه المناطق التي قامت بالاستيلاء عليها والهجوم على طائفة واحدة، وإظهارها بوجود فصائل متطرفة داخل تلك المناطق”. لكنه أكد كذلك على أن ” ما حصل أن الحس الوطني الشعبي السوري كان عارمًا في بداية الثورة، ولم يأبه لتدخلات الميليشيات الإيرانية الشيعية وحزب الله اللبناني الإيراني، الذي يضغط على الناس ويمنع أي توجه ديمقراطي حتى داخل لبنان، وهذه الميليشيات في سورية وفي لبنان والعراق تمنع أي تحرك ديمقراطي وطني، وكنا نرى أنه عندما تخف وطأة هذه الفصائل وسطوتها وتسلطها على الناس، تخرج الناس وتحمل علم الاستقلال وتطالب بالحرية والديمقراطية، فالحس الوطني مازال موجودًا عند غالبية الشعب السوري، وهذا يؤشر إلى خطة عالمية لتغييب الواقع الوطني وإجهاض الربيع العربي، وما حصل من تغييب الوطنيين وإفشال أي تجمع وطني ديمقراطي للقوى في سورية، وكلنا يعلم اختراق هذه التشكيلات الوطنية والديمقراطية ومحاولة تفجيرها من الداخل، لمنع حصول أي تجمع وطني أو وعاء وطني للثورة السورية والشعب السوري، فعندما تخرج جماهير غفيرة في حماة ودوما وإدلب وتطالب النصرة وداعش بالرحيل فإن هذا الحس الوطني لا يمكن نكرانه” وأضاف كرداس ” اذكاء الشعور الطائفي والاقتتال الطائفي لن ينجح لأن الحس الوطني عند السوري أعلى وأقوى”. ثم نوه إلى أن هناك “تشكيلات وطنية تحاول إعادة انتاج ذاتها، تشكيلات جديدة تعمل وفق أطر ونظم جديدة لإحياء الحالة الوطنية في سورية والشتات، ولدعم الحراك الوطني وإعادة الحراك الوطني للشعب وكافة السوريين داخل سورية، واعادة العمل وإعادة تنظيم الأمور”. لكنه نبه أيضًا إلى أن ” زوال الفصائل المتشددة هو في مصلحة الثورة السورية، أكثر مما هو في مصلحة النظام الآن، بعد القضاء على ما يسميه النظام الإرهاب، وهناك استحقاقات وطنية ودستورية واستحقاقات للشعب السوري عليه أن يفي بها، والعود للمربع الأول حيث طلبه الناس بالديمقراطية ومحاربة الفساد والآن خروج كافة القوى الأجنبية من سورية وهذا ما يجب العمل عليه لنصل نحو إعادة الحياة الوطنية، وعدم الانجرار والاستمرار بالحرب الطائفية الموجودة”.
أما الباحث السوري فراس مصري فقال لجيرون ” النظام السوري بدأ منذ منتصف 2011 برفع شعار لا للطائفية، وكانت رسالة واضحة جدًا لطائفته أن الثورة تستهدفهم ومن أدوات إعادة إحيائها تسليط المرتزقة من طائفته وإطلاق يدهم لاستهداف السنة تحديدًا وهذا واضح من وسائل التواصل الاجتماعي، والنظام عبر هتافات وشعارات جنوده والميليشيات الشيعية ضد السنة يشحن بطريقة أو بأخرى أهل السنة ضد الطائفة العلوية، حيث يريهم أن الظلم ليس ظلم مستبد بل ظلم عشيرة وطائفة”. وأضاف ” إن التباكي لمصلحة الأقليات في المحافل الدولية يشجع على فرض الدول أجندة تقسيمية طائفية على غرار لبنان، بحيث نسمع تصريحات من قبيل بقاء الجيش بيد الأقلية، وتوزيع المناصب على غرار العراق أو لبنان، ولا أعتقد أن موجة التجييش الطائفي ستنتهي مع التسوية السياسية وانتهاء الحرب، فقد أصبحت جزءً من ضمير منتسبي أغلب الطوائف والأعراق وفي ضمير الأكثرية السنية”.
المصدر: جيرون