ديس فريدمان
ترجمة علاء الدين أبوزينة
عبر وسائل الإعلام الأنجلو-أميركية الرئيسية، ينظر إلى قتل الفلسطينيين على أنه أمر طبيعي. حياة الإسرائيليين فقط هي التي تهم.
* * *
في 22 كانون الثاني (يناير)، قُتل 24 جنديا إسرائيليا في حادثين منفصلين في غزة. وكان رد فعل وسائل الإعلام الرئيسية في جميع أنحاء العالم موحدا وفي انسجام تام: كان هذا هو ”اليوم الأكثر دموية” لإسرائيل منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر).
تم استخدام هذه العبارة بالضبط في عناوين أخبار يوم 23 كانون الثاني (يناير)، التي نقلتها وكالات الأنباء الكبرى مثل وكالة “رويترز” و”وكالة فرانس برس”؛ ومؤسسات البث والتلفزة الرئيسية، بما في ذلك (بي. بي. سي)، و(سي. بي. إس)، و(إن. بي. سي)، و(سي. إن. إن)، و(إيه. بي. سي)، و(آي. تي. في. نيوز).
كما تم استخدام نفس العبارة بالضبط أيضا في عناوين أخبار الصحف والمجلات والمواقع البارزة، بما فيها “نيويورك تايمز”، و”واشنطن بوست”، و”وول ستريت جورنال”، و”مجلة تايم”، و”ديلي تلغراف”، و”ذا صن”، و”جيروزاليم بوست”، و”الغارديان”، و”إيفنينغ ستاندرد” في لندن، و”فاينانشيال تايمز”، و”الإندبندنت”، و”ياهو نيوز”.
وفي اليوم نفسه، قتلت القوات الإسرائيلية نحو 200 فلسطيني في غزة، من بينهم 65 شخصا على الأقل في مدينة خان يونس وحدها. ولكن، لم تشغَل هذه الوفيات أي عناوين رئيسية في المنافذ المذكورة أعلاه. وحيثما تم الإبلاغ عنها تم إدراجها كجزء من الجولة الإخبارية اليومية المنتظمة ضمن جملة الأحداث الجارية في حملة الإبادة الجماعية التي تتكشف، والتي شهدت حتى كتابة هذه السطور مقتل أكثر من 26.000 فلسطيني في غزة.
كيف يمكن لوسائل الإعلام العالمية أن تتبنى وتستخدم نفس العبارة بالضبط عندما يتعلق الأمر بالضحايا الإسرائيليين بينما تتجاهل إلى حد كبير هويات العدد الأكبر بكثير من الفلسطينيين الذين قتلوا؟
لماذا يوصف يوم 22 كانون الثاني (يناير) بأنه “دموي” لمجموعة من الناس، وإنما ليس لمجموعة أخرى؟
قيمة غير متساوية
قد يتوقع المرء أن المحررين أخذوا عبارة “اليوم الأكثر دموية” من البيانات الصحفية الصادرة عن مسؤولي الحكومة الإسرائيلية أو الجيش. ومع ذلك، لم يستخدم المتحدث باسم “جيش الدفاع الإسرائيلي”، دانيال هاغاري، هذه العبارة في بيانه، ولم يفعل رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، الذي وصف ذلك اليوم، ببساطة، بأنه “يوم صعب”.
وحتى رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، وصفه بأنه “واحد من أصعب الأيام”، بينما تحدث الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ عن “صباح صعب بشكل لا يطاق”. واستخدم نفس اللغة التي استخدمها كل من رئيس الكنيست أمير أوهانا والوزير بيني غانتس، اللذين أشارا إلى “صباح مؤلم”.
بطبيعة الحال، من الممكن أن تكون العبارة قد استخدمت في إحاطات خاصة وغير رسمية قدمت للصحافة صباح يوم 23 كانون الثاني (يناير). ومع ذلك، من المتصور أيضا بنفس المقدار أن يكون هذا مجازا جاء “بشكل طبيعي” من فكرة عميقة الجذور في وسائل الإعلام الغربية، هي أن حياة الإسرائيليين وحياة الفلسطينيين ليست متساوية في القيمة.
وهكذا، فإن قياس “الإماتة”، و”الدموية” ليوم معين يجب أن ينطبق فقط على الإسرائيليين (حيث كل حياة مهمة)، وإنما ليس على الفلسطينيين (الذين يبدو أن حياتهم الفردية ذات أهمية أقل).
”اليوم الأكثر دموية”
في الواقع، يكشف البحث في قاعدة بيانات “نكسيس” Nexis للأخبار الوطنية والمحلية في المملكة المتحدة (بما في ذلك نشرات بث هيئة الإذاعة البريطانية)، أنه كان هناك 856 استخدامًا لعبارة “اليوم الأكثر دموية” منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) وحتى 25 كانون الثاني (يناير) 2023، والتي لم يشر أي منها مباشرة إلى مقتل فلسطينيين في غزة.
وكان الاستثناء الوحيد لذلك هو بعض نشرات (بي. بي. سي) في 25 تشرين الأول (أكتوبر)، التي قالت: “الفلسطينيون يبلغون عن أكثر الأيام دموية في غزة”. وبخلاف ذلك، لم تكن هناك إشارة واحدة خلال كل هذه الفترة عبر طيف وسائل الإعلام البريطانية إلى “اليوم الأكثر دموية، للفلسطينيين” أو “لشعب غزة”.
أما الإشارات الأخرى البالغ عددها نحو 850 إشارة، فتتعلق مباشرة بالإصابات الإسرائيلية فقط. وقد ركز نحو 28 في المائة منها على مقتل جنود الجيش الإسرائيلي في 22 كانون الثاني (يناير).
كما أشارت الغالبية العظمى من وسائل الإعلام الغربية إلى أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر)، التي وُصِفت إما بأنها “اليوم الأكثر دموية لليهود” أو “اليوم الأكثر دموية للشعب اليهودي”، والتي تمثل حوالي 25 في المائة من جميع الإحالات.
وركزت العديد من هذه القصص الإخبارية على كلمات الرئيس الأميركي جو بايدن الذي وصف، في خطاب حظي بتغطية إعلامية كبيرة أمام القادة اليهود في البيت الأبيض، هجوم حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) بأنه “أكثر الأيام دموية لليهود منذ الهولوكوست”. وتشكل كلمات بايدن وحدها 20 في المائة من جميع الإشارات إلى مجاز “اليوم الأكثر دموية”.
ربما كانت كلمات بايدن حاضرة في أذهان محرري وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم وهم يستمعون إلى المتحدِّثين الإسرائيليين صباح يوم 23 كانون الثاني (يناير)، وأن مقتل 24 جنديًا إسرائيليًا يستحق استخدام مثل هذه العبارة عند الحديث عن حياة الإسرائيليين.
تأطير الحرب
ولكن، لماذا لم تستخدم هذه العبارة عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين؟ وفي الواقع، لماذا لا يوجد سوى القليل من الاهتمام بالأيام التي تقتل فيها أعداد كبيرة بشكل خاص من سكان غزة؟
بالضبط لأنه لم يتم تأطير الحرب بشكل خاص بطريقة تعترف بالقيمة المتساوية لجميع المتضررين –بعبارة أخرى، وضع تستحق فيه كل حالة من الإصابات الفلسطينية الكبيرة عنوانا رئيسيا– فمن الصعب التأكد بشأن أي من الأيام هي التي كانت الأكثر دموية بالنسبة لسكان غزة.
ومع ذلك، من الواضح أن الفترة التي أعقبت وقف إطلاق النار المؤقت مباشرة في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) شهدت غارات جوية إسرائيلية مكثفة بشكل خاص. ووفقا لقناة “الجزيرة”، قتل ما لا يقل عن 700 فلسطيني في يوم 2 كانون الأول (ديسمبر) وحده.
ومع ذلك، لم يكن هناك أي ذكر في وسائل الإعلام البريطانية يفيد بأن هذا كان “اليوم الأكثر دموية” بالنسبة للفلسطينيين. بدلا من ذلك، نشرت صحيفة ”الغارديان” عنوانا رئيسيا هو: “إسرائيل تقول أن قواتها البرية تعمل في جميع أنحاء غزة”، بينما كتبت صحيفة “صنداي تايمز” البريطانية: “مخاوف على الرهائن حيث يقول سكان غزة أن القصف كان أسوأ من أي وقت مضى”.
وكتبت لصحيفة “ذا ميل أونلاين”: “تقول إسرائيل أنها توسع عملياتها البرية ضد معاقل حماس في جميع أنحاء قطاع غزة، حيث يواصل الجيش الإسرائيلي قصف المنطقة بعد أن خرق الإرهابيون الهدنة الهشة”.
وبثت نشرات الأخبار التلفزيونية لهيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي) في 3 كانون الأول (ديسمبر) لقطات مؤلمة للضحايا الفلسطينيين، لكنها تضمنت أيضًا اقتباسًا لمستشار لنتنياهو يقول فيه أن “إسرائيل تبذل ’أقصى جهد‘ لتجنب قتل المدنيين”، من دون أن تحمل التغطية دحضًا فوريًا لهذا الادعاء الفظيع.
بعبارات أخرى، على الرغم من حقيقة أن عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في 2 كانون الأول (ديسمبر) كان يساوي 30 ضعفا مقارنة بمقتل 24 جنديا إسرائيليا في 22 كانون الثاني (يناير)، لم يكن هناك اعتراف بـ”الأكثر دموية” كصفة لذلك اليوم.
بدلاً من ذلك، كان التأطير يدور حول الخطط الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي بدلاً من المذابح الجماعية التي يمارسها ضد الفلسطينيين.
”قصف مكثّف”
في 26 كانون الأول (أكتوبر) قتل 241 شخصًا آخرين في غزة بقنابل إسرائيلية. وردت “الصحيفة البريطانية الموثوقة”، صحيفة “التايمز”، بالعنوان التالي: “حرب إسرائيل في غزة: الفلسطينيون يتعرضون لـ”القصف الأكثر وحشية””، وبعنوان فرعي: “إسرائيل توجه الضربة الأكثر كثافة منذ هجوم حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر)”.
يمكن أن يُغفر لك التفكير في أنه لم يكن هناك شيء دموي في هذه الحادثة لأن الفلسطينيين، بعد كل شيء، كانوا يتعرضون “لضربات” فقط، باعتبار ذلك مختلفا عن القتل الوحشي والدموي.
لكن ذلك كان بالكاد يوما استثنائيا بالنظر إلى أن منظمة “أوكسفام” ذكرت في وقت سابق من هذا العام أن الجيش الإسرائيلي يقتل الفلسطينيين بمعدل 250 شخصا في المتوسط يوميا، وهو رقم قالت أنه يتجاوز عدد القتلى اليومي في أي صراع كبير آخر من صراعات السنوات الأخيرة.
من الواضح أن هناك سياسة وحشية تُطبق عندما يتعلق الأمر بإحصاء القتلى. وقد نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالاً في 22 كانون الثاني (يناير) بعنوان “انخفاض الوفيات في غزة”، بحجة أن متوسط الوفيات الفلسطينية اليومية خلال فترة 30 يومًا انخفض الآن إلى أقل من 150 قتيلًا.
وبالنسبة لصحيفة “نيويورك تايمز”، فإن “من المعقول أن تكون نسبة الوفيات قد أصبحت أقل بين المدنيين الآن بعد أن أصبحت الهجمات الإسرائيلية أكثر استهدافًا وانخفض (معدل) العدد اليومي للقتلى”.
ومع ذلك، لا يقتصر الأمر على أن هناك القليل من الأدلة على أن الجيش الإسرائيلي يعارض بأي شكل من الأشكال قتل المدنيين، لكنّ فكرة أن الخسائر في الأرواح آخذة في “الانخفاض” في وقت يمكن أن نشهد فيه قريبًا ما مجموعه 30.000 من الوفيات الفلسطينية هي أمر صادم للغاية. ولا يكاد أي تباطؤ في معدل القتل يشكل عزاء للملايين الذين ما يزالون يعيشون في خوف من غارات الجيش الإسرائيلي وصواريخه.
إجماع وسائل الإعلام
إن الإجماع الإعلامي على أن الإسرائيليين وحدهم هم ضحايا “الأيام الأكثر دموية” في المنطقة، وليس الفلسطينيين، على الرغم من أن الفلسطينيين يمثلون 95 في المائة من الوفيات منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، هو أحد الأمثلة العديدة على التغطية الإعلامية غير المتكافئة والمشوهة للغاية لهذه الحرب.
وحتى الوقت الذي قدمت فيه حكومة جنوب أفريقيا دعواها الناجحة جزئيًا إلى محكمة العدل الدولية، لم تكن المنظمات الإخبارية الغربية راغبة حتى في التحقيق في لغة الإبادة الجماعية التي يستخدمها القادة السياسيون والعسكريون الإسرائيليون.
كما تستخدم وسائل الإعلام الغربية، بشكل روتيني، لغة غير إنسانية وتمييزية حيث الإسرائيليون “يُذبحون”، بينما الفلسطينيون “يموتون”، ببساطة. ويُظهر هذا التمييز الدور الفظيع الذي تلعبه وسائل الإعلام الرئيسية الغربية في تمهيد الطريق للتطهير العرقي الذي نشهده في غزة حاليًا.
السبب الحقيقي في أنك لا ترى أو تسمع وسائل الإعلام وهي تتحدث عن “يوم دموي” للفلسطينيين هو أن كل يوم يكون دمويا ومميتا عندما تعيش في غزة.
*ديس فريدمان Des Freedman: أستاذ الإعلام والاتصالات في جامعة غولدسميث في لندن وعضو مؤسس في “تحالف إصلاح وسائل الإعلام”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: For Western Media, Only Israeli Lives Matter
المصدر: الغد الأردنية/(ديسكلاسيفايد يو. كيه)