بسام العيسمي
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “الحقوق والحريات في سورية القادمة”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
……………….
مع الديمقراطية وعلمانية الدولة في سورية القادمة
القطع مع العولمة، والانغلاق على الذات، والتوجّس من الديمقراطية، والوقوف ضد علمانية الدولة، وإنكار عالمية حقوق الإنسان، والتعامل معها باعتبارها قيمًا غربية تهدّد الخصوصية الثقافية والدينية لمجتمعاتنا، كلّ هذه الأمور إنما تعبّر عن ثقافة ماضوية معزولة عن واقعها المحسوس وغير قادرة على العيش بالحاضر والتكيّف معه، وهي لا تصوغ المستقبل، بل هي خروج عليه.
إن الحفاظ على الخصوصية وتحنيطها، والإبقاء عليها كتلة صمّاء في مواجهة قيم الحداثة والديمقراطية والمشتركات الإنسانية الكونية، ومنها حقوق الإنسان العالمية، هو ضربٌ من الانتحار، وخروج من التاريخ، وغياب عن المستقبل، وهي من الأسباب الرئيسية لحالة الانسداد والتعثّر التي نحن فيها الآن. وهي أيضًا تقف وراء الانتكاسات المريرة والمؤلمة لثورات الربيع العربي عامّة، والثورة السورية خاصة، التي هي موضوع بحثنا هذا. وسأحاول -بإيجاز- أن أبيّن هنا أهمية الأخذ بكامل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بوثائقها الثلاث، من دون اجتزاء أو خصخصة. وسأبين الترابط الوجودي لهذه الحقوق مع الديمقراطية وعلمانية الدولة وحياديتها، كثلاثة حوامل متكاملة ولازمة لتقوم عليها دولة الحداثة والديمقراطية.
التعريف بحقوق الإنسان
تُعرّف حقوق الإنسان، في وثائق الأمم المتحدة والقانون الدولي لحقوق الإنسان، بأنها حقوق متأصلة في جميع البشر، أيًا كانت جنسيتهم، أو مكان إقامتهم، أو نوعهم، أو جنسهم، أو أصلهم الوطني، أو العرقي، أو لونهم، أو دينهم، أو لغتهم، أو أي وضع آخر. وقد تعدّدت التعريفات المختلفة لهذا المصطلح، عند الباحثين المتخصصين في هذا المجال. لكنها جميعًا تفيد مقصوده ولا تتناقض فيما بينها. وأستطيع أن أقول إنها الحقوق الأساسية التي ترتبط بالإنسان، أينما كان، لمجرد كوننا بشرًا، بغض النظر عن الجنسية، أو الأصل القومي، أو العرق، أو الدين، أو الطائفة، أو النوع الاجتماعي، أو اللغة، أو اللون، أو أي شيء آخر.
فهذه الحقوق متأصلة في جميع البشر، وهي غير قابلة للتصرّف أو التجزئة، مثل حقّ الحياة الذي هو أصل الحقوق، والسلامة الشخصية، وحرية التفكير، والتعبير، والاعتقاد، وحق العمل والتملّك، والرعاية الصحية، والتعليم، والمساواة أمام القانون، وغيرها من الحقوق الأساسية اللصيقة بالشخصية الإنسانية.
ولا شك أن المجتمعات البشرية عبر التاريخ عانت حالات من الاضطهاد والظلم وتغييب الحقوق، وقد دفعت الإنسانية جمعاء الكلف العالية والتضحيات الجسام عبر سيرورة تاريخية تطورية مستمرة، أسهمت فيها كلّ شعوب الأرض بنضالاتها وتضحياتها، لإنضاجها وتوسيع مطارحها. حيث ظهرت أول حقوق المواطنة الجنينية في العصور القديمة قبل الميلاد في مدينة أثينا، ثم تطورت تطورًا ملحوظًا مع دخول عصر التنوير في أوروبا في القرن السابع عشر، على أنقاض الإقطاع المتحالف مع الكنيسة. وكان لرموز عصر التنوير أمثال هوبنز، ومنتسكيو، وجان جاك روسو، الأثر الكبير في تأصيل فكرة حقوق المواطن، من خلال طرحهم مفهوم العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم. وبمقتضى ذلك، تحوّل المواطن إلى ذات حقوقية مستقلة، بعد إن كان عنصرًا مُدمجًا وغير متمايز مع القبيلة والعشيرة.
وتطوّر مفهوم حقوق المواطنة مع تشكّل الدول الأوروبية، قبل قرنين من الزمن؛ حيث أصبح لكل دولة حدودها الجغرافية التي تمتد سلطتها على كل الأشخاص المقيمين ضمن هذه الحدود. ومن هنا نشأت بالتدريج فكرة المواطن وحقوقه غير القابلة للتنازل أو الإلغاء، أو الاعتداء عليها من قبل الدولة. وكان للمتغيرات العالمية، وتطوّر البشرية الإنساني، وما حملته مبادئ الثورة الفرنسية من مبادئ الحق والعدل والمساواة، أثر كبير في تطوّر وتجذّر هذه الحقوق التي تُوّجت بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في العام 1948، كأوّل وثيقة قانونية دولية تطلقها الجمعية العامة الأمم المتحدة، تحت ضغط الشعوب، ونزولًا عند خياراتها، لتثبيت حقوقها وتدويلها، وإعطائها بعدًا وعمقًا عالميًا وإنسانيًا.
فكان الإعلان -بلا أدنى شك- هو أول مسمار دُقَّ في نعش عالم الظلم والوحشية والاستبداد والتسلّط الكوني، حيث أسس اللبنات الأولى لبناء مشروع عالمي إنساني لمستقبل البشرية جمعاء، في مواجهة الظلم والقمع والوحشية، وكل أشكال القهر والطغيان، التي انتهكت إنسانية الإنسان على المستوى الكوني. وقد شكّل هذا الإعلان بمواده الثلاثين، مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، اللذين دخلا حيّز النفاذ في العام 1976، بما يتضمّنانه من حقوق مكملة ومترجمة للإعلان، شكّل ما يُسمّى (الشرعة الدولية لحقوق الإنسان).
فهذه النقلة النوعية في الحقوق إلى العالمية وسّعت نطاقه ليتجاوز حقوق المواطنة التي تترتب للفرد من جراء انتمائه إلى دولته التي يحمل جنسيتها، لتجسّد بذلك حالة الاندماج الكوني؛ بحيث غدت هذه الحقوق تتجاوز الحدود الجغرافية للدول، وأضحت لصيقة بالشخصية الإنسانية، بغض النظر عن الاعتقاد الديني، أو الأصل القومي، أو النوع الاجتماعي، أو أي شيء آخر، الجميع على قدم المساواة ويتمتعون بالحماية نفسها. وبذلك تكون لدينا منظومتان من الحقوق: الأولى حقوق المواطنة المشتقة من كلمة وطن، وهي الدولة التي ينتسب إليها الفرد ويستمدّ منها مواطنيته، وما يترتب له على هذا الانتساب من حقوق وواجبات. والثانية حقوق المواطن أو الإنسان بصفته إنسانًا، أو ذاتًا وكينونة بشرية؛ فهي حقوق أساسية لصيقة بالشخصية الإنسانية لأي إنسان يعيش على هذا الكوكب. وهي غير متوقفة على أي شرط آخر. وهي حقوق غير قابلة للتصرّف أو الاجتزاء، ولا الانتقائية بأن نأخذ بجزء منها ونرفض البعض الآخر، تحت ذرائعية مخالفتها للعادات والتقاليد، والموروث الثقافي والديني، والقيم الأخلاقية لمجتمعاتنا. فلا يعدّ ذلك إلّا هروبًا من مستحقاتها، ويُبطن رغبة في خطف الدولة أيديولوجيًا تحت يافطات دينية أو طائفية أو قومية.
الديمقراطية هي حكم الأغلبية والتداول السلمي للسلطة
الديمقراطية هي لغة العقل باستنباط الوسائل الأكثر سلمية بالوصول إلى السلطة وإدارة الدولة والمجتمع، وهي تمكّن أي فرد أو جماعة أو حزب من الوصول إلى السلطة عبر صندوق الاقتراع، لكن دون أن تعطي الحق لمن وصل إلى الحكم بتصفية الأقلية، أو التضييق عليها، فأغلبية اليوم قد تصبح غدًا أقلية والعكس صحيح.
فمفهوم الأقلية والأكثرية في الديمقراطية هو مفهوم سياسي غير ثابت، وهو متبدّل ومتغيّر باستمرار. بخلاف ما يحاول الإسلام السياسي الترويج له أقلية وأكثرية دينية أو عرقية. المجتمع مدنيّ نعم، نحن في المجتمع عرب وأكراد وسريان وشركس وإسلام ومسيحية وسنّة وشيعة ودروز وعلوية.. إلخ. أما في إطار الدولة فنحن جميعًا -بمختلف تنوعاتنا- سوريون، من دون أي اعتبار آخر. في إطار الدولة، كلّنا سوريون، وفق محددات الانتماء الوطني الجامع الناتج عن انحلال الانتماءات والبنى الدينية والطائفية والعرقية، وكل الاستقطابات ما قبل المدنية تدخل في تكوّن اندماجي جديد لا يشبه أيًا من مكوناته التي صنعته، لكنه لا يتناقض معها.
السورية شرطٌ واف وكاف لأن أكون مواطنًا سوريًّا أتساوى في الحقوق والواجبات والمكانة وتكافؤ الفرص مع جميع أفراد المجتمع. ومن هنا، يأتي قبول بعض تيارات الإسلام السياسي بالديمقراطية، باعتبارها أداة للوصول إلى الحكم، وليس باعتبارها غاية بحد ذاتها. وهي ديمقراطية الأغلبية ذات الهويات الدينية والعرقية التي لا تكترث كثيرًا للتباينات الدينية والعرقية في المجتمع.
وهم يرفضون العلمانية، ولا يقرّون بعالمية حقوق الإنسان، بذريعة أنها منتجات العالم الغربي المسيحي التي تتناقض مع هويتنا الدينية وخصوصيتنا وموروثنا الاجتماعي والثقافي، وتخالف المعايير الأخلاقية لمجتمعاتنا، ويقولون بأن العلمانية هي علمانية الغرب (ويشاطرهم في هذا قسم كبير من القوميين العرب). وهم يتحفظون على المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تُعطي الشخص الحرية في تغيير دينه ومعتقده: م18: (لكل شخص حق في حرية التفكير والوجدان والدين. ويشمل هذا الحق حريته بتغيير دينه أو معتقده وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده أو مع جماعة وأمام الملأ أو على حدة).
ويأتي هذا التحفّظ بذريعة أن إعطاء الحق للإنسان في تغيير دينه يُناقض هويتنا الدينية. أليست مسألة الإيمان والكفر هي خيار حرّ وتصرف فردي يكون الإنسان مسؤول عنه أمام الله عز وجل؟! أليست المسؤولية هي شخصية؟ وهل من الدين أن نُكره الأشخاص على ما لا يرغبون فيه؟ ألم يرد في القرآن الكريم الآية 29 من سورة الكهف {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}؟ فكيف يمكن أن نُحّرم على الإنسان ما أباحه الله له؟ والحال أن تغيير الشخص لدينه أو اختياره أن يكون لا دينيًا إنما هو خيار شخصي يندرج من ضمن حقوقه الشخصية، إذ “لا إكراه في الدين”.
هل تخالف الشرعة الدولية لحقوق الإنسان فعلًا بعض المعايير الأخلاقية لمجتمعنا، كما يدّعي من يرفض صلاحيتها العالمية؟
أعتقد بأن ذلك غير صحيح، ويتنافى مع جوهر هذه الحقوق الأزلية المتعلقة بحماية الحقوق الأساسية للشخصية الإنسانية، بدءًا بحق الحياة، وهو أقدس الحقوق، والسلامة الشخصية، إلى بقية الحقوق الأخرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي لا تتغيّر باختلاف المكان والزمان، ولا تتناقض مع المبادئ الأخلاقية العامة.
أما المعايير الأخلاقية، فهي أحكامٌ ظرفية تتعلق باللحظة الراهنة، وتتغير مع تبدّل الزمان والمكان. وعلى سبيل المثال، قتل النساء تحت مسمّى “جرائم الشرف”، في بعض المجتمعات، يُعتبر نُصرة للأخلاق! كيف لا وهم يغسلون عارهم! ومن لا يقوم بغسل العار في نظرهم هو عديم الأخلاق! أما في مجتمعات أخرى، فهي جريمة بشعة تُنافي الأخلاق والضمير والإنسانية. والأمثلة كثيرة على اختلاف المعايير الأخلاقية وتناقضها بين مجتمع وآخر، فعادة حرق الميّت -مثلًا- عند بعض الشعوب هي فعل منسجم مع معاييرهم الأخلاقية وموروثهم الاجتماعي وعاداتهم، أما في مجتمعاتنا فذلك الفعل يعدّ من أكبر الكبائر، وهو فعل غير أخلاقي، وهذه المعايير خاضعة للتطّور والتغيير في المجتمع نفسه، من زمن إلى آخر، وما نراه اليوم منسجمًا مع معاييرنا الأخلاقية قد لا يكون كذلك غدًا.
وأعتقد، والحال ما ذكر، أنه لا يجوز إخضاع حقوق الإنسان الأزلية الكونية اللصيقة بالشخصية الإنسانية والتي لا تتغير بتبدّل الزمان والمكان، لمعايير الأخلاق الظرفية المتبدلة إلى حد التناقض، بتغيّر الأزمنة والأمكنة. والأصح أن نُخضع المعايير الأخلاقية لبوصلة ومعايير حقوق الإنسان الثابتة والأزلية وليس العكس.
الدولة المدنيّة في مقابل الدولة العلمانية
مفهوم الدولة المدنية روّج له مجموعة من المفكرين الإسلاميين، أمثال حسن الترابي والقرضاوي والغنوشي وغيرهم. هذا المفهوم الذي توسّعت مطارحه في بدايات هذا القرن، ولا سيما مع بدايات الربيع العربي والاستقطاب المجتمعي وركب موجة الثورات العربية، هو بلا أدنى شك مفهوم تلفيقي لا أساس علميًا أو معرفيًا له، وذلك لغياب نسبه ومرجعيته التأسيسية. والقصد منه، وهدف من قام باستحداثه، هو استبعاد علمانية الدولة، وفك الارتباط بين العلمانية والديمقراطية، لإخراج هذه الأخيرة من حقل الغائية إلى حقل الأداة، بهدف الوصول إلى السلطة وإلغاء حياديتها، وخطفها أيديولوجيًا، وتفصيلها على المقاسات الدينية والعرقية.
ومع الأسف، استقطب هذا التلفيق كثيرًا من الليبراليين واليساريين السوريين الذين انجروا معه تحت ذرائعية استدراج الإسلاميين والأصوليين إلى صفهم وساحتهم، غير أن ما حدث هو العكس تمامًا؛ إذ بقي الإسلاميون في ساحتهم وكانوا الأكثر انسجامًا مع قناعاتهم. وفقد الليبراليون واليسار السوري ما كان يمكن أن يتموضعوا به وعليه في ساحات وميادين الثورة وفي الفضاء الوطني والسياسي السوري. وكان ذلك هزيمة لهم، وتفريط بالمجان من قبلهم، وسقطة تُدلل على عدم نضج سياسي ومعرفي، وجهل فاقع بالتعامل مع مشهدية الحدث السوري.
لا ديمقراطية حقيقية بمعزل عن العلمانية. ولا يمكن للدولة أن تكون مدنيّة بالأساس؛ فالمجتمع مدني، والدولة سياسية. فهما ماهيتان مختلفتان، وإن غياب التمييز بين هاتين الماهيتين يعني الخلط بين العام والخاص، وعدم التفريق بين الفرد في المجتمع المدني، وبين الفرد كمواطن في إطار الدولة السياسية. وهذا يقود إلى اختزال السياسة وإبعادها من أن تكون شأنًا عامًا.
الديمقراطية تشترط علمانية الدولة؛ لأن العلمانية هي الوعاء الأوسع الذي يتسع لكل أشكال التعددية الدينية والطائفية والعرقية والمذهبية، فهي الأقدر على تنظيم العيش المشترك بين جميع الأفراد، وعلى تحويل هذا الاختلاف إلى عنصر قوة في المجتمع بإطار المساواة القانونية في الحقوق والواجبات والمكانة بين الجميع، وتكفل لهم -على اختلاف مشاربهم- جميع الحريات العامة المستمدة من الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ومنها حرية المعتقد والعبادة، وممارسة الشعائر الدينية وحرية الرأي والتعبير، وحماية الأفراد من العسف والظلم بسبب انتماءاتهم السياسية أو الدينية أو العرقية.
والعلمانية تقتضي الحيادية، ولا تكون معها وظيفة الدولة هداية الناس، ولا تكوين معتقداتهم؛ فهي لا تحابي دينًا على آخر، أو قومية على أخرى، حيث إن حياديتها تجعلها تقف على مسافة واحدة من الجميع. أما الدولة الدينية، فلا يمكن أن تكون معبّرة عن جميع مواطنيها، لأن الولاء فيها سيكون لدين الدولة وعقيدتها، مما يهدم مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن العلمانية ليست دعوة إلى الكفر، أو إلى استبعاد الفكر الديني من السلوك اليومي للأفراد في المجتمع؛ فهي لا تتدخل في معتقداتهم إنما تحميها. والمواطن في الدولة العلمانية مواطنٌ بحكم حمله جنسية الدولة، ويتمتع بحقوقه المتساوية مع جميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن طائفته، أو دينه، أو القناعة التي يتبناها.
والعلمانية تعمل بمنظور العقل في التعامل مع الواقع، مما يكسبها تلك المرونة والقابلية للتصويب والتغيير والرجوع عن الخطأ والتكيّف مع الجديد، بما تفرضه من مستجداته، في سياق التطور السريع والهائل الذي يحدث في العالم، بخلاف الشعور الديني الذي يفتقد تلك المرونة في الاستيعاب الزمني للواقع وتبدلاته. فهو غير قابل للمساس به بالسهولة ذاتها؛ فإدخال الدين في المجال السياسي أو العام لا يترك لغير المتدينين فيه مكانًا وحقوقًا متساوية مع الآخرين.
أما الدولة الأيديولوجية -بكل أشكالها ومستوياتها الدينية، والمذهبية، والطائفية، والعرقية، والسياسية، وبأي شكل تبدّت- فهي دولة مخطوفة متحيّزة غير محايدة؛ لأنها تنظر إلى المواطنين من بوابة الولاء والوفاء لمعتقداتها، وتأخذ من حقوق الإنسان ما يتناسب مع تلك المعتقدات، وتستبعد ما تراه غير منسجم مع قناعاتها الأيديولوجية. ولذلك هي بالتأكيد غير قادرة على الوقوف على الحياد إزاء قضايا الاعتقاد والتنوع المذهبي والطائفي، ولا سيما في مجتمعنا السوري الغني بتنوعه. إذن، والحال ما ذكر، من الصعوبة بمكان أن تدخل الحداثة وقيمها إلى سورية، كما أنه من الصعوبة بمكان الأخذ بكامل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان إلى سورية القادمة، بمعزل عن العلمانية.
العقبات التي تقف أمام الأخذ بكامل منظومة حقوق الإنسان العالمية وقيم الحداثة والعلمانية في سورية القادمة.
العقبات متنوعة وكثيرة، نشير هنا باختصار إلى أكثرها أهمية
آ- المنظومة الثقافية والفكرية السائدة وموروث الماضي.
هناك مساحة كبيرة من منظومة القيم التقليدية الموروثة في منطقتنا، وسورية جزء منها، تقطع مع قيم الحداثة والديمقراطية، وعالمية حقوق الإنسان، وتقيّد الحريات، وتحاصر فضاءات الفكر والإبداع.
ب- ما زالت مجتمعاتنا ترزح تحت وطأة التسلط والاستبداد المزمن، وهذا ما أبقاها مجتمعات هشة وضعيفة تخضع لاستقطابات ما فوق وطنية دينية، أو طائفية، أو اثنية، وما تحت وطنية من عشائرية، وقبلية، وعائلية. وإنما يتأتى ذلك من ضعف مفهوم وثقافة الدولة الحداثية بوعينا الجمعي.
ج- التيارات السياسية والفكرية التي سادت الفضاء السوري والعربي عمومًا، منذ ما يقارب مئة عام الماضية، وما زالت مستمرة إلى الآن بمستويات مختلفة، وإن كان قد أصابها بعض الوهن وفقدت القسم الأكبر من مشروعيتها، وهي: “التيار الأصولي الإسلامي، التيار القومي، التيار الماركسي”.
والتيارات الثلاثة هي تيارات ذات أيديولوجيات شمولية قهرية، على تضاد مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، والدولة العلمانية الحيادية، التي لم ترَ النور بعد في سورية وعموم المنطقة.
ولم تحدث بعض التشققات والصدوع في فضاءاتنا السياسية والمعرفية ذات الطابع الشمولي والاستبدادي إلّا منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث بدأت تتسرب بعض نسمات الحداثة والديمقراطية إلى منطقتنا، وذلك بفعل مدحلة العولمة، والثورة الرقمية، وسهولة انتقال المعلومة والثقافة دون مرورها على بوابات التفتيش.
هذه التيارات الثلاثة، بطبيعتها وبنيتها، وإن اختلفت حواملها الاجتماعية، هي تيارات شمولية إقصائية استبدادية على تضاد مع الفكر الديمقراطي، ومعيارية الدولة المحايدة الحديثة، وحقوق الإنسان.
إشكالية مفهوم الدولة الوطنية في الوعي الجمعي لشعوب المنطقة: سورية مثالًا
مفهوم الدولة الوطنية الحيادية غير المخطوفة أيديولوجيًا، والقائمة على رابطة المواطنة المجرّدة والمتساوية بين أفراد المجتمع، بصفتهم أفرادًا وكيانات أصيلة حرة، ما زال مُلتبسًا حتى الآن، ليس لدى العامة فقط، وإنما عند النخبة أيضًا. وتبدّى ذلك بوضوح في سياق تطور المشهد السوري، منذ ثلاثة عشر عامًا، وحالة التذرر والانقسامات الناجمة عن غياب مفهوم الدولة الوطنية السورية، كساحة مشتركة وجامعة للسوريين الذين انتفضوا ضد نظام طغمة الأسد.
- دعاة الفكر القومي لا يرون في سورية إلّا محطة مؤقتة في سياق استكمال البناء القومي للأمة العربية الواحدة. ومن هنا جاءت تسمية القطر السوري، بمعنى أن سورية قاطرة تسير باتجاه الأمة الواحدة. وبمعنى آخر: العربي ينطلق من عروبته إلى سوريته ليكيّف هذه الأخيرة وفق متطلبات أيديولوجيته القومية، ولا ينطلق من سوريته إلى عروبته. وكذلك الكردي ينطلق من كرديته إلى سوريته (وليس العكس) ليكيّفها وفق مشروعه وحلمه القومي.
- الإسلاميون أيضًا بمختلف تياراتهم سورية لا تعني لهم سوى محطة مؤقتة للانطلاق منها لاستكمال مشروع الأمة الإسلامية.
- التيار الماركسي والأحزاب الشيوعية بمختلف تسمياتها كانت قبلتهم الاتحاد السوفياتي السابق. وسورية هي حلقة من حلقات هذه المنظومة العالمية. وسقط الاتحاد السوفياتي، وسقوطه عمّق من أزمة هذا التيار بمختلف مسمياته وأحزابه التي تعرضت لهزة كبيرة وانقسامات وتشرذم، مما أبقى مفهوم الوطنية السورية مفهومًا مأزومًا وغير مُنجز على المستوى الوطني. وأعتقد أن ذلك كان ولا زال من أهم الأسباب الرئيسية التي عمّقت حالة التشظي والتشرذم التي حلت بالساحة السورية، وجعلت كل حواراتنا منذ انطلاقة الثورة أشبه بحوار الطرشان، وكأنها تصبّ في قربة مثقوبة، ولم تؤسس لحالة تراكمية يمكن البناء عليها، لأن لكل واحد من هذه التيارات مشروعه لسورية. والكل انطلق من مبدأ الاحتواء والمغالبة لخطف سورية، وليس للمشاركة فيها. ولم ينطلق أي منها من الساحة الوطنية السورية الجامعة كبوصلة لتحديد مسار الثورة وبناء الفضاء الوطني الديمقراطي الجامع ببعده الحضاري والإنساني. فهذه التيارات جميعها تتشابه في بنيتها الاستبدادية، وإن اختلفت حواملها. والاستبداد هو بالتأكيد مناخ طارد للديمقراطية وحقوق الإنسان.
ثم إن هذه التيارات الثلاثة تنظر إلى الأفراد كوقود لتحقيق مشاريعها وبرامجها، فهي تضع الأولوية لبناء الحلم والمشروع. ومن ثم تأتي في المرحلة الثانية الحقوق والحريات التي سينعم بها الجميع، بعد استكمال بناء مشروعها. ومن هنا تكون قضية الحقوق والحريات في المجتمع بشكل عام عندها ثانوية، لا أولوية لها ولا تتقدم على غيرها. ويندرج ذلك بالتأكيد ضمن الأسباب والمعوقات التي لا تساعد في الأخذ بكامل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في سورية القادمة.
غياب التعريفات الواضحة للمفردات والمصطلحات السياسي لحوامل وعناوين المشروع الوطني الديمقراطي السوري.
ليس هناك من تعريفات واضحة لكثير من مفردات وعناوين المشروع الوطني الديمقراطي السوري، الذي يدلل على ماهية الدولة الوطنية السورية القادمة وطبيعتها، ليجمع عليها السوريون. وعلى سبيل المثال لا الحصر: الديمقراطية، المواطنة، العلمانية، الليبرالية، اللامركزية، المركزية الشعب، الأقلية والأكثرية، حقوق الإنسان… إلخ. ولو قمت بطرح مفهوم من هذه المفاهيم على عشرة أشخاص لتعريفه؛ لحصلت على عشرة تعريفات وإجابات مختلفة! وهذا يدلّ على فقر معرفي بمفردات الحداثة والدولة العصرية. وهذا ما يصبُّ في جعبة من يرفضون الأخذ بمنظومة حقوق الإنسان العالمية في سورية القادمة.
وبما أن لهذه المسألة مسارًا تراكميًا، وميدانها ومطرحها المجتمع السوري، وحالة الصراع قائمة قبل هذا النظام ومعه ولن تُغلق أو تنتهي بسقوطه؛ فإن النظام الذي سيخلفه لا يمكنه حسم هذا الصراع سريعًا، وسيكون بالتأكيد غير مؤهل لذلك، ويمكنه، في أحسن الأحوال، أن يوفر مساحات آمنة ومحمية بقوة القانون لحالة الصراع السلمي للتأصيل التراكمي لتلك المفاهيم.
هل احتمالات الأخذ بكامل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في سورية القادمة قائمة؟
لا أعتقد بأن تأخذ سورية الجديدة في الفترة التي تعقب سقوط النظام مباشرة بكامل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بوثائقها الثلاث، وما ترتّب عليها وانبثق عنها من عهود ومواثيق اتفاقيات، وأن تكون جزءًا لا يتجزأ من النظام القانوني والسياسي لسورية القادمة؛ ذلك بأن أي تغيير أو تصويب لأي مسألة تتعلق بالعادات والتقاليد والأعراف السائدة والموروث التاريخي والاجتماعي، ولا سيّما المتصل بالحالة الاعتقادية لأي شعب من الشعوب، سيلقى ممانعة كبيرة، وصعوبات جمّة، ليس من السهل القفز عليها وتذليلها وتغييرها بين ليلة وضحاها. فهي تحتاج إلى وقت طويل لتأمين البيئة الثقافية والاجتماعية والقانونية والسياسية التي يمكن من خلالها طرحها ومقاربتها ومراجعتها وتصويبها وتغييرها المتدرج في العقول قبل النصوص. فتغيير قناعات الناس والموروث الاجتماعي وأنماط الثقافة والأعراف السائدة هو من أكثر المسائل صعوبة، لأن هذه البنية المتداخلة لا يمكن فكفكتها في ظل حالة الجذر والانكفاء، بل تتطلّب بيئة تسمح بالحوار التفاعلي وتشجّع عليه، وتحمي حق الاختلاف وقبول الآخر، وتؤمّن البيئة الصحية للاشتباك السلمي بين الرؤى والميول والقناعات والأفكار والمصالح، على أرضية الديمقراطية وحواملها. وهو حوار تراكمي تأتي نتائجه متدرّجة عبر صيرورة زمنية تطورية قد تمتدّ سنوات ليتحقق المرجو منها.
من ناحية أخرى، لا أرى أن النظام الذي سيخلف نظام الأسد القائم حاليًا، ويحلّ محله بعد رحيله، يمكن التعويل عليه كثيرًا، في تبني كامل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان كجزء لا يتجزأ من بنيته القانونية؛ لأنه سينبثق ويُشكّل وفق توازنات قوى الأمر الواقع القائمة حاليًا في المشهد السوري، ولا أراها مؤهّلة لحمل ذلك المشروع، لأنها ابنة مجتمع ممزق ومأزوم يعيش تناقضاته وموروثه الثقافي والديني والاجتماعي، ويحمل ثقل الاستبداد المزمن وتشوهاته، ويضاف إلى تلك الأسباب حالة الاستقطابات الإقليمية والدولية التي تتحكّم في هذه القوى وتصادر المساحة الأكبر من قرارها، إذا لم يكن كامل القرار. أعتقد بأن هذه المسألة هي تراكمية الأثر، ميدانها الرئيسي ومطرحها المجتمع، والصراع قائم بين الجديد والقديم في سورية قبل هذا النظام، واستمرّ معه، وسيستمر ولن يتوقف بعد رحيله.
ما الذي يمكن أن تقوم به القوى الوطنية الديمقراطية السورية في المرحلة الحالية بهذا الخصوص؟
أعتقد أن على القوى الديمقراطية السورية التي تتبنى علمانية الدولة وحياديتها، وعالمية حقوق الإنسان، القيامَ بدور إيجابي وفعّال في إغناء تلك المساحات. فغياب تيار ديمقراطي وازن في تحديد مسارات الحدث السوري، وغياب دوره في ترسيخ مفاهيم الوطنية السورية والحداثة، وبناء المشروع الوطني الديمقراطي السوري، ببعده الحضاري والإنساني المفتوح على قيم الحداثة وحقوق الإنسان، من شأنه أن يُبقي الصراع الهوياتي التفتيتي قائمًا في الفضاء الوطني والسياسي السوري، وأن يُبقي الاستقطابات الدينية والعرقية والطائفية المفرقة والطاردة لمفهوم الدولة الوطنية وقيم الحداثة وحقوق الإنسان قائمة في مشهدية الحدث.
ومن هنا، تأتي أهمية تجميع القوى الوطنية الديمفراطية المناهضة للاستبداد، والمؤمنة بالمواطنة المتساوية وحيادية الدولة، لتشكّل تيارًا وطنيًا ديمقراطيا حقيقيًا ووازنًا ومؤثّرًا على الساحة الوطنية السورية، من شأنه الإسهام الجدّي والحقيقي في التأسيس لمفاهيم الدولة الوطنية السورية الحديثة كحامل سياسي ووطني وقانوني لسورية المستقبل، وخلق فضاءٍ وطنيٍ جامع لكل السوريين. ولكنّ هذا التيار، مع الأسف، غير موجود الآن على الساحة السورية، وغير متبلور كيانيًا.
لا شك في أن هناك شخصيات وطنية ديمقراطية ذات تاريخ نضالي مشرّف يستحق الاحترام، واجهت طغمة الأسد، ورفعت صوتها مطالبة بالحقوق والحرية والديمقراطية حينما كانت الألسن خرساء، ودفعت أثمانًا باهظة مقابل ذلك في سجون الأسد، لكنها أخفقت في تشكيل تيّار وطني ديمقراطي، يأخذ مكانه ودوره في تأصيل مفاهيم ومحددات الدولة الوطنية السورية، وإعادة تعريف الهوية الوطنية، ولذلك ظلّ خطابها إنشائيًا مُثقلًا بالمصطلحات المُبهمة، من دون التأسيس لها وتأصيلها وتحديد دلالاتها بصورة لا لبس فيها، في إطار الرؤية والأهداف، لبناء تيار ديمقراطي وازن يحتلّ موقعه في الفضاء الوطني السوري. بمعنى الانتقال من العناوين التزيينية والديكورية إلى المضامين، وتأصيلها ومقاربتها لتوحيد الرؤية حولها، من خلال ورشات عمل مستمرة ومفتوحة مع مطارح المجتمع وفعالياته والأكاديميين والمختصين، لتناول كثير من المصطلحات التي تقوم عليها الدولة الحديثة، كحامل سياسي ووطني وقانوني لسورية المستقبل. ويعيد تعريفها، لكيلا تبقى الصياغات والمفردات مبهمة وعائمة لتزيين البيانات الختامية للمؤتمرات، وذلك لغياب الفهم المشترك والمحدد لها. وعليها الخروج من دائرة التعمية والإبهام إلى الوضوح والشفافية، بما يؤسس لوجود تيار ديمقراطي متماسك يكون له دور ومطرح في صناعة التحولات المستقبلية لسورية، وإسهام فاعل في عملية التغيير.
وبذلك، يكون هذا ما يمكن فعله والقيام به في الظرف الحالي، وهو يُسهم بكل تأكيد في توسيع مطارح وثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية وقيم الحداثة في المجتمع السوري وسورية القادمة.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة
المصدر
idujam
xzLeYtMNHdUWQO
aREGTCWkQslYwJIU
qTkwOiNsncv