كوريا الشمالية مثال الحكم الشمولي الاستبدادي الأول، البلد المغلق على نفسه والخطر الصامت وأحد البلاد المستمرة تحت الحكم الشيوعي والتي يحكى عن حاكمها قصص الظلم والخوف والجنون ، من كان يتخيل أن تصبح الدولة الأكثر تعقيدا في مجال العلاقات الدولية والتي كانت دائما تهدد العالم بالحرب النووية خلال السنوات الماضية أكثر انفتاحا ورغبة في الحوار والتعاون مع دولة كانت تعتبرها دائما أكبر عدوة لها، ومما لا شك فيه أن نجاح المسار الدبلوماسي في أحد أصقاع الأرض أمرا يدعو للتفاؤل وإنهاء حالة حرب أشبه بالباردة بين دولتين هو أمر سيصبح تاريخا ودرسا من دروس العلاقات الدولية، ولكن دائما لكل تسوية أسبابها وآثارها التي تتبعها سواء كانت هذه الآثار على مسار العلاقات الدولية والصعيد الخارجي للدول أو آثار على الصعيد الداخلي للدول المعنية بالتسويات.
خلال الأسبوع الماضي كثر النشاط وتسارعت الأحداث حول القمة التي سوف تجمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرئيس الكوري الشمالي جون كيم أون بدأها الرئيس الأمريكي ترامب عندما ظهر في مؤتمر صحفي في ٢٤\٥\٢٠١٨ ليعلن أن القمة التي يرتقبها العالم لن تعقد في موعدها وأنه قد تم إلغائها ليتم بعد يومين عقد اجتماع بين رئيسي كوريا الشمالية والجنوبية لتعلن كوريا الشمالية انفتاحها للحوار واستعدادها له في أي وقت لتخرج بعدها بيوم واحد المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية لتعلن عن اجتماع عقد بين وفد أمريكي و وفد كوري شمالي على الحدود بين الكورتين ، ثم خرج ترامب بتغريدة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر أعلن فيها أن وفدًا أمريكيا وصل كوريا الشمالية وأكد فيه أن كوريا الشمالية قوة اقتصادية ومالية عظيمة وان الرئيس الكوري الشمالي يدرك ذلك وأكد في نهاية تغريدته أن القمة ستعقد.
بعد هذا المرور السريع على الأحداث الماضية لا بد من طرح السؤال الأهم والذي يطرح كثيرا بالتأكيد ما سر هذا التحول الكامل في السياسة الخارجية لكوريا الشمالية.
من الواضح وأنه بعد امتلاك كوريا الشمالية للسلاح النووي من خلال ما أظهرته تجاربها النووية السابقة فإنه من الحكمة وبعد امتلاك السلاح الرادع أن تظهر للعالم بمظهر الدولة التي تمتلك تكافؤ القوى والند بالند فالحرب النووية ضرب من الجنون ولهذا تم التوجه مباشرة لتحسين العلاقات مع الجارة الجنوبية وانهاء حاله الحرب معها لتكون طريقها للولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر في الواقع فإن التغريدة الأخيرة للرئيس الأمريكي ترامب وتأكيده أن كوريا الشمالية قوة اقتصادية ومالية عظيمة تظهر جانبا مهما للمفاوضات وسببا رئيسيا لها فأمريكا هي القوه الاقتصادية الأقوى في العالم ومما لاشك فيه ان العقوبات الاقتصادية المفروضة على كوريا الشمالية تقف عائقا أمام تطورها، ولجلب الاستثمارات الأجنبية و التطور الاقتصادي و الانفتاح على السوق العالمية لا بد من رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة وهو أمر مفتاحه بأيدي الرئيس الأمريكي ومما لاشك فيه أن لهذا الأمر فاتورة على كوريا الشمالية أن تدفعها سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي.
فعلى الصعيد الخارجي فإنه قد يتوجب على كوريا الشمالية تقديم العديد من التنازلات حول برنامجها النووي بما يتعلق بمراقبة برنامجها النووي ومعرفة حجم تسلحها النووي ومن المستبعد أن تقوم كوريا الشمالية بتفكيك ترسانتها النووية وإيقاف نشاطها بشكل كامل فعندها سنكون أمام استسلام كوري شمالي غير معلن، فالهدف الأساسي لكوريا الشمالية الآن هو أن تصبح دولة تمتلك اقتصادا قويا إلى جانب امتلاكها ترسانة عسكرية قوية وهو أمر طبيعي لأي دولة تريد أن تصبح قوة سياسية عظمى ولا عجب أن تصبح كوريا الشمالية أكثر فعالية في مجال العلاقات الدولية وأن تدخل كوسيط في أكثر القضايا الدولية تعقيدا وهو أمر طبيعي لأي دولة تريد أن يكون لها مكانا كبيرا على الخارطة الدولية العالمية، الا أنها وأمام هذا الطموح تواجه رئيسا أمريكيا صلبا لن يقبل الا أن يخرج باتفاق يتغنى به كانتصار دبلوماسي كبير لإدارته يدخله التاريخ خصوصا بعد انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران مما سيجعله يزيد الضغوط على الإدارة الكورية ليحصل على أكبر تنازل ممكن ليخرج باتفاق أكبر من الاتفاق الإيراني الذي انسحب منه وهنا يكون السؤال الأهم الى أي حد ستتنازل كوريا الشمالية والى أي حد سترضى واشنطن ، وهو ما ستجيب عنه الأيام القادمة.
أما على الصعيد الداخلي فالتحدي الأكبر بالتأكيد يأتي للاستخبارات الكورية الشمالية البلد القمعي والحكم الاستبدادي المغلق الممنوع فيه حتى وجود قنوات اعلاميه غير محلي’ أو تسمع به أغنية غير مصرح بها أو أن تشاهد حلقة من مسلسل كوري جنوبي ولكن بعد إنهاء حالة الحرب مع الجار الجنوبي وفي حال استكمال الاتفاق مع واشنطن فهنا يكون على كوريا الشمالية استكمال الجانب الأخر من التطوير والانفتاح وهو الانفتاح الثقافي وتبادل الوفود الثقافية والفنية جزء من العلاقات الدبلوماسية الناجحة بالإضافة الى التواصل واستقبال وسائل الإعلام العالمية وهنا يأتي خلق التوازن بين الانفتاح الإعلامي ،الثقافي و الفني والحفاظ على شكل الحكم القائم وتوازن القوى الاقتصادية بداخله.
وأخيرا فإنه في حال سارت الأمور لاستكمال القمة التاريخية وانتهت باتفاقيات تنهي العداء الكوري الشمالي الأمريكي فإننا سنكون أمام اتفاق ودرس تاريخي في مجال العلاقات الدولية والدبلوماسية العالمية قد يستفاد منه في وسط الحروب والخلافات في الوطن العربي والشرق الأوسط. .