مقدمة
تقول الفيلسوفة الألمانية حنة آرنت في كتابها (عن العنف): “لا تحتاج السلطة إلى تبرير نفسها، لأنها جزء عضوي من وجود الجماعات السياسية، ولكنها تحتاج إلى الشرعية”. وقد يكون العنفُ مبررًا في بعض الأحيان، لكن من المستحيل بأي شكل كان أن يكون مشروعًا. وهذا يقودنا إلى السؤال الرئيس الذي تحاول هذه الورقة تحليله والإجابة عنه، متخذة من السلطة السورية القائمة منذ عام 1963 حالة للدراسة: كيف تشرّعُ السلطة السياسية العنفَ ضدّ معارضيها؟
باستخدام تعريفات آرنت في كتابها (أصول الشمولية) (The Origins of Totalitarianism)، يمكن للمرء أن يميز بين حقبتين: الأولى هي عهد حافظ الأسد (1970-2000). وكانت سورية في هذه الحقبة دولة بوليسية سرية، بحسب تقديم آرنت للنموذج البلشفي بصيغته الستالينية. والثانية هي عهد بشار الأسد (2000 إلى الوقت الحاضر)، وهي الحقبة التي تفوّق بشار فيها على والده باستخدام العنف، ونقل سورية إلى نموذج الهيمنة الشمولية في عهده. هذا التمييز ضروري لفهم حضور العنف في بنية الدولة وعلاقته بالسلطة الحاكمة في سورية. وما يميز التجربة السورية، عن الأنظمة السياسية البلشفية والنازية التي درستها آرنت، أنها لم تحمل أيديولوجية الاشتراكية أو التفوق العنصري المتميز (السوبرماني) لضمان سيطرتها بالقدر نفسه، بل هي سلطة جاءت بقوّة العنف والهيمنة التي توفرها السلطة منذ البداية.
بعد نحو عقد من استيلائه على السلطة، طوّر حافظ الأسد نظريته في محاربة العدو، بحيث أصبحت سمته المؤسسية للعنف هي ضرورة محاربة العدو الخارجي أو الداخلي، في زمن الحرب والسلم. العدو هو عدو الأمة والوطن والرئيس، أزال الأسد بمنهجية أي فصل بين هذه المجالات. ومع الوقت فقدت مؤسسات الدولة أي سيطرة فعلية على العنف، وبخاصة بعد ثورة 2011، حيث سمح للعنف بابتلاع كل شيء مقابل بقائه في السلطة. وإن المرحلة التي “بدأت فيها الدولة البوليسية تأكل أطفالها”، كما كتبت آرنت، هي مرحلة الهيمنة الشمولية القائمة على الإرهاب.
لقد نوقشت علاقة العنف بالدولة لفترة طويلة. في محاضرته “السياسة كاحتراف”، عرَّف ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني الدولة على النحو الآتي: “علينا أن نقول إن الدولة هي مجتمع بشري يدّعي (بنجاح) احتكار الاستخدام المشروع للقوة المادية ضمن إقليم معين”. … وتعد الدولة المصدر الوحيد لـ “الحق” في استخدام العنف”. تستخدم الدول العنف لضمان النظام العام، لكن من الممكن دائمًا أن يكون هذا الاستخدام موضع تساؤل، في الدول الديمقراطية التي تسمح لصحافة مستقلة وقضاء مستقل بمساءلتها. أما في الأنظمة الدكتاتورية مثل النظام السوري، فإن العنف يتجاوز دوره في حماية الناس أو الأمن العام، على الرغم من الشعارات التي ترفعها السلطات الدكتاتورية. وبدلًا من ذلك، يتقدم العنف ليلعب دورًا تأسيسيًا في إنتاج السلطة السياسية نفسها في الأنظمة الاستبدادية وصونها. وعندما تعتمد السلطة السياسية على العنف بهذه الطريقة، يصبح القانون أداة لشرعنة العنف.
تسيطر السلطات السياسية الاستبدادية على القانون، ولا تقف عند استخدامه لاحتكار العنف الرمزي المشروع، بل تتعداه إلى استخدامه لشرعنة العنف، ومن خلال ممارسة هذا العنف، أي باستخدام قوتها كدولة، تضمن بقاءها الطرف الوحيد الذي له الحق القانوني في ممارسة العنف، وتضمن أيضًا بقاءها في السلطة. وكما يشير كارل شميت الفقيه القانوني الألماني -وكان مقرّبًا من الحزب النازي- فإن القواعد/ الأوامر القانونية تعتمد على قرارات سيادية، لا على قواعد قانونية[4]. لذا عند مناقشة العلاقة بين العنف والشرعية يمكننا أن نسأل: كيف يستخدم النظام السياسي الذي يحتكر سلطة القانون هذا النظام القانوني لتبرير عنفه؟
من خلال دراسة الحالة السورية في عهد نظام الأسد (الأب والابن)، مع الأخذ في الحسبان أن هذا النظام اعتمد على سوابق تاريخية أو قانونية أو سياسية، نحاول الإجابة عن هذا السؤال. ولهذا الهدف تعتمد الدراسة على البحث النوعي، وتستعين بأعمال آرنت وفيبر وشميت. إن تحليل كيفية استخدام القانون لإضفاء الشرعية على عنف الدولة يستفيد أيضًا من نظريات بيير بورديو عالم الاجتماع الفرنسي، في مقالته قوة القانون، وبخاصة مفهوم المجال القانوني. وبسبب الصعوبات التي تفرضها الحكومة السورية في الوصول إلى المعلومات -ولا سيما تلك المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان- لم يكن من الممكن الاعتماد على البيانات الحكومية الرسمية. لكن بمساعدة تقارير منظمات حقوق الإنسان، تمكنّا من توثيق مؤشرات عنف النظام، فضلًا عن الاستعانة بالمقالات الصحافية والدراسات التي أجراها مدافعون سوريون عن حقوق الإنسان، وتقديم أمثلة إنسانية لضحايا العنف القانوني في سورية الذين اعتُقلوا وحُوكموا أمام هيئات قضائية استثنائية، وقضوا في السجن ما بين (10 و17) عامًا.
يمكنكم قراءة المادة كاملة من خلال الضغط على علامة التحميل أدناه:
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة