مالك ونوس
ربما ترقَّب الجميع بقلقٍ ما سيكون عليه حال الساحل السوري إذا ما هرب طاغية سورية، بشّار الأسد يوماً. وتساءلوا بشأن احتمال أن يقود سقوطه إلى قلاقل في هذه المنطقة الحساسة من البلاد، والتي كان يعدها الخزان البشري لجيشه، إذا ما دخلها ثوار، أو إذا وصل إليها ممثلون لسلطةٍ جديدةٍ تخلعه، أم سيكون الأمر سلساً، يجري بلا قتال ولا يؤدّي إلى مشكلاتٍ أمنيةٍ لاحقة. أما وقد سقط الديكتاتور ونظامه، وهرب بشّار إلى روسيا من دون أن يخبر أحداً، فقد حصل ما يدلّ على ذكاء إدارة العمليات العسكرية، والذي توقّعناه، وهو عدم توجّه قواتها إلى الساحل لإخضاع المنطقة، بل التوجّه إلى مركز السلطة في العاصمة. وقد أدّى هذا الأمر إلى ارتياحٍ في الساحل، وجعل سكّانه ينتظرون ما ستُفضي إليه معركة دمشق، مع كثيرٍ من القلق من أن يرفض أنصار النظام في منطقتهم تسليم أسلحتهم، ويعمدوا إلى مقاومة السلطة الجديدة، وبالتالي، إدخالها في معركةٍ تصيب الجميع بتداعياتها.
ظهرت حالة الترقب والقلق منذ اللحظة الأولى التي شنَّت فيها إدارة العمليات العسكرية التابعة لتحالف فصائل المعارضة السورية، هيئة تحرير الشام والجيش الوطني، في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، عملية “ردع العدوان”. وازدادت بعد الانتصار الماراتوني الذي سجلته تلك الفصائل، لدى استعادة ما تبقى من ريف إدلب وريف حلب، ثم السيطرة السريعة على حلب المدينة. في هذه اللحظة، تبين مدى ضعف جيش النظام، والذي يمكن إرجاعه إلى الضعف البنيوي المعروف تاريخياً، وكذلك إلى التعب الذي أصاب أفراد هذا الجيش، علاوة على تسريح من تجاوزت فترة خدمتهم زمناً محدّداً، وإلى غياب الانضباط وحال الفلتان، بسبب منح الضباط الإجازات المفتوحة لجنود مقابل مبالغ مالية (تفييش)، وهو ما كانت تتغاضى عنه قيادة الجيش عادةً، بسبب عدم قدرتها على دفع رواتب كافية لأولئك الضباط. حينها سادت في الساحل الأجواء ذاتها التي سادت سنة 2011، عندما عاد النظام إلى التجييش الطائفي، والبدء في التضييق على المعارضين. كما تخوَّف الأهالي أن يبدأ النظام بحملات تجنيد عشوائية، وهو ما حصل فعلاً؛ إذ ساقَ حتى من أتمَّ خدمته، بل والمعفيين من الخدمة لأسباب محدّدة. لذلك عمد الشبّان إلى ملازمة المنازل والتخفي، مخافة السوْق إلى ساحات القتال، وغالباً من دون الخضوع للتدريب اللازم، أي إلى الموت المحقّق.
سعى نظام الأسد الأب والابن إلى ضرب نسيج المجتمع السوري، من أجل بقاء التوتر الدائم داخله
على الجانب المقابل، ربما تملَّكت إدارة العمليات العسكرية المخاوف من أن تشهد عملية تحرير الساحل من نظام بشار معارك شديدة العنف، تؤدّي إلى سقوط أعداد كبيرة من المدنيين، واتهامها باستهداف الأقليات. معارك ليس مع الجيش النظامي، بل مع بقايا النظام، خصوصاً نتيجة تغلغل مليشيات الأسد بالتركيبة السكانية للمنطقة، وإمكانية فرضها على السكان الانخراط الكبير في التصدي لمقاتلي إدارة العمليات العسكرية بحجّة الدفاع عن أهاليهم ضد من واظب على النظام على تسميتهم “تكفيريين”. لذلك يمكن القول إن توجّه إدارة العمليات العسكرية إلى حسم المعركة عن طريق السيطرة على العاصمة، وإسقاط النظام هناك، قاد إلى تحرير الساحل، وجنَّبه حمّام دم كبير وتبعات صراع كان يمكن أن يصبح طويل الأمد. وعليه، كان الدخول السلس لقوات إدارة العمليات العسكرية إلى طرطوس، وبالتوازي معها إلى اللاذقية، ما أعطى إيحاءً، أو ربما أثبت، أن الولاء لبشّار الأسد في هذه المنطقة هشّ، جرت هندسته بالقوة والترهيب واللعب على الوتر الطائفي والإفقار، وهو ما ينطبق على مناطق أخرى خارج الساحل.
وبينما لم يعمد مسؤولو إدارة العمليات العسكرية إلى تطمين أهالي منطقة الساحل بخطاب مباشر وصريح، كما طُلب منهم عبر الإعلام من شخصياتٍ معارضة للنظام، كانت طريقتهم في دخول مناطق الأقليات في حماة وحمص ودمشق عاملاً ملطفاً، ولقي صدىً إيجابياً لدى نسبة كبيرة من أهالي المنطقة الساحلية. ثم كانت طريقة إدارة أحوال المدن الساحلية المعيشية التي قام بها أفراد إدارة العمليات العسكرية، وحرصهم وسعيهم الحثيث واللافت إلى تأمين الخبز للأهالي، وتأمين المحروقات للمنطقة من أجل تسيير حركة المرور، ومنع التعدّي على الأملاك العامة، كانت هذه الطريقة عاملاً في تغيير صورتهم لدى الجمهور؛ إذ إن فترة انتقالية شبيهة بالفترة التي تلت سقوط بشّار، كفيلة بإحداث فلتان واضطرابات في أي بلد مدّة ليست قصيرة، وهو ما لم يحصل في سورية. لذلك يُحسب للسوريين أنهم أظهروا درجة كبيرة من الوعي، واستطاعوا التغلب على الواقع الذي كرّسه نظام الأسد الأب والابن، والذي سعى إلى ضرب نسيج المجتمع السوري، من أجل بقاء التوتر الدائم داخله، وبث التفرقة بين أبناء هذا الشعب، ليسهل عليه إخضاعه وتوجيهه كما يريد.
توجّه إدارة العمليات العسكرية إلى حسم المعركة عن طريق السيطرة على العاصمة، وإسقاط النظام هناك، قاد إلى تحرير الساحل، وجنَّبه حمّام دم كبير
يسجّل لأبناء المنطقة أنهم سعوا سريعاً إلى أنسنة هذه المرحلة، ومواجهة خوفهم من الآخر والتخلص من هذا الخوف، عن طريق التواصل المباشر مع مقاتلي إدارة العمليات العسكرية في مدن الساحل وقراه. وكانت لافتةً مسارعة فتيات، من الأيام الأولى لسقوط النظام، ودخول الثوار إلى الساحل، إلى التقاط الصور التذكارية معهم. وهي خطوة كسرت الحواجز والمحاذير والمخاوف التي زرعها نظام الأسد بين أبناء الشعب، وجعلهم يحملون الريبة تجاه بعضهم. وكان من بين الصور ما أظهر ذلك السمت الحيي في المقاتلين الأشداء الذين تركوا أهاليهم في إدلب، وقدموا إلى المناطق السورية لتخليصها من الجزار الذي قتل آلافاً من أبنائها، ورهن ماضيها ومستقبلها من أجل بقائه على كرسي الحكم.
ستبقى الصورة التي حرّر فيها مقاتلو إدارة العمليات العسكرية سورية من ديكتاتورية آل الأسد محط إعجاب كثيرين، غير أن ما سيبقى ماثلاً هو مسارعة أهالي هذه البلاد للتخلص من خوفهم بعد سقوط النظام، وأنسنة هذه اللحظة التاريخية عبر اللمسات الإنسانية في التعاطي مع الآخر. وقائع أحدثت واقعاً جديداً في العلاقة بين أبناء البلد الواحد، لم يكن لأحدٍ أن يتخيّل حدوثه، إلا أن رحيل النظام أذِنَ بحدوثه، وربما فتح باباً لسورية جديدة مغايرة لجمهورية الخوف التي أسسها آل الأسد.
المصدر: العربي الجديد