د- عبد الله تركماني
إن المسألة السورية، بعد 54 سنة من ديمومة استبداد سلطة آل الأسد، تطرح سؤالاً جوهرياً حول تحديات مرحلة ما بعد التغيير؟
وعلى ضوء التوصيف الأولي لبعض سرديات الثورة وتساؤلاتها، يبدو أننا أحوج ما نكون إلى سردية واضحة للتغيير المنشود، انطلاقاً من أن ثمة تحديات كثيرة ستواجه السوريين في مرحلة ما بعد التغيير، من أخطرها بنية التسلط والاستبداد، التي عمّمها النظام طوال خمسة عقود، مما يفرض أن تُضمَن في المرحلة الانتقالية الحريات الفردية والعامة، وحيادية الدولة عن الأيديولوجيات والأديان والأحزاب، على أن تكون دولة حق وقانون وحوكمة رشيدة. بعيداً عن آليات عمل سلطة النظام السابق ومستوياتها، حيث تميزت بغياب المؤسسات الوطنية الكفؤة، وتركّزت كل السلطة في يد رأس النظام، يمارسها من خلال أجهزة الأمن المتعددة، التي تتمتع بحرية مطلقة في التعامل مع السوريين. إذ أسس النظام السابق أداءه السلطوي على أحادية السلطة ممثلة برأس النظام، واشتراط الطاعة العمياء لكل أوامره، وتوزيع المغانم والامتيازات على الموالين، تبعاً لمدى ولائهم للحاكم الفرد. وفي سياق هذا التأسيس للدولة الأمنية التسلطية أنتج النظام مجتمعه الجماهيري، مستنداً إلى إرهاب أجهزة الأمن والإعلام الموجَّه، بعد احتكاره للسلطة والثروة والوطنية. بحيث أضحت الدولة ميداناً للأوامر بدل القوانين الناظمة لسلوك الحكام والمحكومين، والعطايا محل الحقوق والواجبات، والولاء محل الكفاءة. وفي سياق كل ذلك، تدهور وضع الدولة السورية، بينما ارتفعت أسهم السلطة التي استولت على الدولة، بعد أن ” قُضمت ” الدولة وأُرغمت على إخلاء الساحة للأجهزة الأمنية.
وقد أدى هذا الوضع الشاذ إلى إبقاء السوريين في حيّز الهويات الفرعية المغلقة، الطائفية والعشائرية والقومية، مما أبقاهم مجالاً لتوظيفات السلطة، ووضعهم في مواجهة بعضهم البعض.
وفي هذا السياق يبدو وجود مشروعين معلنين ومتناقضين للثورة على النظام: أولهما، مشروع الثورة المدنية الذي سعى النظام، بكل قوته، إلى تدمير أسسه، وتشريد حاضنته الشعبية وحوامله من النخب المدينية ونخب الطبقة الوسطى، تنفيذاً لخطته في تصوير الثورة على أنها حركة تمرد طائفية، لعزلها ونزع الشرعية عنها. وثانيهما، مشروع الحركة الجهادية الذي تعزَّز، مع مرور الوقت، من خلال التوسع داخل الأرياف والمدن الصغيرة، وصولاً إلى دورها الرئيسي في إسقاط نظام بشار الأسد.
ويبقى السؤال: هل لا يزال بالإمكان الرهان على دور لمعارضة سياسية مستعدة لتحمل مسؤولية وصول السوريين إلى برّ الأمان وتبعدهم عن مخاطر الاستمرار في تغليب منطق المكاسرة والغلبة، أم فات الأوان على ذلك وبات مصير المجتمع السوري وما وصل اليه رهينة بيد حملة السلاح وما يخلّفه ذلك من مخاطر على وحدة سورية؟
إنّ تحديات كثيرة ستواجه سورية في المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية، ولكن من الممكن التعاطي المجدي معها إذا ما توفرت إدارة عقلانية للموارد المادية والبشرية والاستراتيجية السورية. إذ ثمة حاجة ملحة لسياسات تحظى بتوافق وطني، مبني على أساس العمل مع تشكيلات مختلفة الأهداف والمصالح. مما يتطلب تأسيس أحزاب سياسية نوعية ومختلفة، حاضنتها الاجتماعية من شابات وشباب سورية، وبوصلتها المصالح العليا للشعب والوطن، ترفع ألوية الفكر والسياسة والواقع، بدل الأيديولوجيا التي قتلت الفكر والروح، تؤمن بالعمل المشترك مع الآخرين، وتعمل بالعقلية المؤسساتية، بما تقتضيه من فرق عمل متناغمة ومتكاملة وذات جدوى، تقيم حياة حزبية داخلية ديمقراطية، مؤسسة على الشفافية والمحاسبة والنقد والمراجعة.
في هذا البحث عن الذات، وإحياء القيم الإنسانية المرتبطة بها، قيم الألفة والتعاون والعيش المشترك بين كل أطياف الشعب السوري، ينبغي وضع النزوع الكبير إلى كسر مركزية الدولة التسلطية، والتعلق بإقامة نظام أكثر حميمية وقرباً من مشاعر الناس وعواطفهم، وأكثر بعداً عن الوطنيات الأيديولوجية الفارغة، التي لم يكن هدفها سوى التغطية على الاستبداد. وسيكون ذلك في مصلحة تعميق المشاركة في الحياة الوطنية، وتعزيز فرص التنمية الاجتماعية والإنسانية معاً.
ويبدو أنّ الحامل الاجتماعي للانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية سيكون العامل الحاسم في سيرورتها وآفاقها المستقبلية، وتكمن أهمية مؤشر انخراط مكوّنات وفئات جديدة في فعاليات هذا الانتقال في إمكانية إعطائه هوامش حراك ومناورة ضرورية وحيوية، يمنحها القدرة على تحقيق التمثيل لأكبر فئات المجتمع ومكوّناته، على طريق الحالة الوطنية الشاملة، التي ترتكز إلى استنهاض الشعب، ككتلة سياسية فاعلة، لها مطالب واضحة تخص الجميع وترتبط بالإطار الوطني الجامع وبالمشاركة السياسية.
إنّ الشباب السوري يختزن طاقة نضالية هائلة، وقدرة على إنتاج قيادات بسرعة قياسية، واستعداداً للتضحية لا حدود له. وقد يتمكن، من خلال شعارات تتعلق بالخبز والحرية والكرامة، رأيناها اليوم – خلال جمعة النصر – في كل ساحات المدن والبلدات السورية، من إقناع فئات مختلفة من الشعب السوري بالانضمام إلى حركة التغيير، فضلاً عن لعبه دور مؤثر في الدعاية لهذا التغيير من خلال تبادل الرسائل والصور عبر ” التويتر ” و” الفيسبوك ” وبث كل ذلك إلى العالم.
وتعد المجالس المحلية، التي ساهم فيها العديد من نشطاء المجتمع المدني، أحد أهم إفرازات التغيير لتعبيرها عن التحوّل الذي طرأ على طبيعة العلاقة مع المركز من جهة، ولكونها أداة لإدارة المرحلة الحالية والانتقالية من جهة أخرى.
وفي الواقع لا يمكن لربيع الثورة السورية المتجددة أن يحقق أهداف الشعب في الحرية والكرامة إن لم ينصف النساء اللواتي شاركن في صناعته، وفي صنع التغيير. فبعد ثلاثة عشر عاماً على بدء الثورة وحراكها في الداخل والخارج، آن الأوان أن تنهض النساء السوريات باتجاه مزيد من المشاركة في صنع القرار السياسي كي لا يتشكل مستقبل سورية السياسي بصورة ذكورية عرجاء.
وفي هذا السياق يقع على عاتق المرأة السورية الجديدة، الأكثر وعياً من بنات جنسها، إقناع بقية النساء أنه في سورية الجديدة لا يجب أن تتنازل المرأة عن مهمة تمثيلها سياسياً وتشريعياً إلى الرجال، وتتركهم يخططون للمجتمع ويسنون قوانينه ويقودونه بمفردهم بما فيها القوانين التي تخصها. عليهن أن يتصرفن كشريكات من حقهن أن يسألن كيف تسيّر الأمور في المجتمع والدولة، لا كتابعات للقادة تمشي مياه السياسة من تحتهن وهن في حالة استسلام لها. إنّ مشاركة المرأة في القيادة السياسية كعنصر جديد وافد على المشهد السياسي سيرفد السياسة بمقاربات تجدده، تماماً مثل المقاربات التي تحملها مشاركة الشباب وبقية مكونات الشعب السوري المستبعدة، بعد أن كان المشهد محصوراً بميراث من المفاهيم السياسية التقليدية.
إنّ وجود دستور مدني وتغيير في قانون الأحوال الشخصية، وإنشاء ومأسسة منظمات حقوقية مدنية منذ الآن، تعنى بقضايا النساء وتطالب بحرياتهن، هو الخطوة المكملة لسقوط الاستبداد في سبيل نيل النساء حرياتهن.
إنّ خيار الوطنية السورية الجامعة يمكن أن يضع السوريين في وضع أفضل لمواجهة تحديات المستقبل، إذ إنّ التفكير في المعطيات الراهنة يقتضي التأسيس لتصوّر جديد لهذه الوطنية، يقوم على النظر إلى المكوّنات السورية المختلفة كمكوّنات تأسيسية متساوية الحقوق والواجبات، ويؤسس لامتلاك السوريين دولتهم، ويسهم في تكوّنهم كمواطنين أحرار متساوين.