أسامة عثمان
هذه الثلاثة، الدين والأخلاق والمصالح، تتداخل في معترك الحياة، وفي حمأة الصراعات. وبالتوازي، ينشط التأويل، إذ من النادر جدّاً أن يسفر المعتدي، ويقرّ بأنه المعتدي، وأن يتواضع المفرِّط بانتمائه، من دون أن تضطرّه ظروف خارجية، أنه انحاز لمحض أسباب نفعية وضيعة، لعدوِّ شعبه، وأُمَّته. فالكلُّ يريد أن يكون الشريف المتورِّع. وقد يقتنع بذلك، فعلاً، أو يُقنِع نفسَه، أو تقنعُه اصطفافاتُه العصبوية، الطائفية، مثلاً، أو غيرها.
وقبل الدين، أو من دونه، يتنازع الإنسان أخلاقُه ومصالحُه، وأما الدين فإنه حَمَّالُ أوجه، وتأويلات، مع أنه يشتمل على واضحات، كحُرْمة الاعتداء على أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، إلى أساسيات الأفكار العقدية والتعبُّدية، والمرجعية التشريعية.
ولا نضيف جديداً، حين نقول إن القوة الحاكمة المتغلِّبة، عند جمهرة الناس، هي المصالح، وحينها يكون العقل أداةً خادمة، بالتأويل، يؤوِّل الدين، ويؤوِّل الأخلاق. ولهذا تجد، مثلاً، شخصيات (متديِّنة) سِمَتُها العامة هي الغلظة والتعنيف، الذي قد يصير دمويّاً، ثم هي تصوِّر شخصيتها، بهذا الطراز، مُنْتَجَاً دينياً، فيما الذي حصل أنَّ التكوين النفسي القَبْلي لتلك الشخصيات دعاها إلى انتقاء ما تحبُّ من أفكار الدين وأحكامه انتقاءً، لا يخلو من تعسُّف، كما أظهرته تنظيماتٌ استحلّت أرواحَ الأبرياء وأموالهم، وأعراضهم، بذريعة إظهار القوة والتوحُّش اللازمَيْن. وهكذا تستولي فكرة العنف المركزية عندهم على سائر الأفكار، وتنمحي الحدود بين أحكام السِّلْم وأحكام الحرب، وبين المعتدين والمسالمين.
إلى جانب الجماعات الدموية المستبيحة للحدود، نشأت الجماعات الطائفية، لتوظيف الطائفية لأغراضٍ سياسيةٍ صراعية، ولتنتعش على الأضغان التاريخية، كالخلفية الشيعية والسُّنيَّة
وإلى جانب الجماعات الدموية المستبيحة للحدود، نشأت الجماعات الطائفية، لتوظيف الطائفية لأغراضٍ سياسيةٍ صراعية، ولتنتعش على الأضغان التاريخية، كالخلفية الشيعية والسُّنيَّة، لتظهر وكأنها تنتصر للحقِّ الديني، وكأنّ الدِّين هو الباعث على نشوئها، وهو الراسم لغايتها، وهو المحدِّد لسلوك أفرادها. هذا المفترَض، أن يمنح الدين هذه الأفضلية، في المرجعية؛ لكونه السَّنَد، والأساس في النشأة والتحفيز. فيما الحاصل تجييشٌ عصبويٌّ، ممتزِج بالمصالح، يقفز عن الدين باعتباره مرجعية، في تكوين الأفراد، وحتى في مواقف تلك الجماعات؛ وهي تلعب في ميدان السياسة، وهي تعادي هذه الجهة، أو تسالم، وتتحالف مع تلك الجهة، وحتى في مواقفها الدولية، التي لم تكن بريئة من البراغماتية السياسية في أحرج صورها، كما كان من التموضع الطائفي، الانتهازي، في العراق، ضمن السياق الأميركي الغازي والمحتل. وهذا التعاون مع المحتل الأميركي لم يقتصر على الأحزاب الآتية من خلفية شيعية، وإن كانت الأغلب، إذ انخرطت فيه بعض القوة الآتية من خلفية سنّية. وكل ذلك تحت تأويلات، وأولويات، لم يكن الدين هو الفاعل فيها، بل مصالح الطائفة في الظاهر، فيما هي مصالح فئاتٍ منها، أو قيادات، أو دول.
وفي سورية اليوم، تشترك هذه المرجعيات الثلاث، الدين والأخلاق والمصالح، في التأثير، والتوجيه. سورية هذه التي دمَّرها حكمُ آل الأسد، داخليّاً، ثم أكملت إسرائيل، (بعد أن افتقدت ضامِنَ أمْنِها)، مهمة تدميرها، خارجيّاً، حين قضت، عبر غاراتها المتتابعة، على القدرات العسكرية الثقيلة.
سورية اليوم، بحاجة أوليّة، إلى البناء، بناء الإنسان والمجتمع، وبناء البلد واستعادة الدولة
عمل نظام الأسد، الوالد والولد، على خنْق البنية الاجتماعية، والحياة السياسية، بل حاول قهْر روح الشعب، وهزيمة السوريين، حاول إطفاء جذوة الحياة فيهم، وإحباط طاقاتهم، بأدوات القهر والسجن والتعذيب، والتعامل الاستعلائي الطائفي، أو الطائفوي، بالتفرُّد في الحكم، والاستبداد بالقرار، وبالبلد ومقدّراته، دون أن يحقق لسورية أدنى حقوقها الوطنية، مثلاً، استرداد المحتل من أرضها. ومن دون أن ينجح في اجتراح نموذج جاذب لأبنائه، يستبقيهم في بلدهم، ويجنّب عشرات الألوف منهم عذابات الهجرة، والاغتراب. ولولا أن الشعب السوري يتوافر على طبيعة صبورة وعزيمة مذخورة واثقة بذاتها، وبأصالتها، لانطفأت روحه، ولانهزم.
وعليه، سورية اليوم، من دون أن نصدر حُكْمَ قيمةٍ على الجهات المتصدِّرة، كهيئة تحرير الشام، وغيرها، سورية اليوم، بحاجة أوليّة، إلى البناء، بناء الإنسان والمجتمع، وبناء البلد واستعادة الدولة. ذلك أن من غير الوارد أن تنخرط في مواجهات خارجية، وهي في هذه الحالة من الاختلال والهلهلة، سيراً إلى الاستواء والالتئام، في هذه الحالة التي يتصدّر اهتمام الناس فيها تأمين الحاجيات الأساسية، رغيف الخبز، وسائر المطالب اليومية.
وعلى الجهة التي تتصدّى لإدارة البلد والناس أنْ تقدِّم نموذجاً في الرعاية يُحدِث قطيعةً مع النظام السابق الفاشل، أنْ يكون نقيضاً له، في أهمِّ مفاصله، لجهة تعميم الحقوق المتساوية، وفي البِنى التحتية، وفي الخدمات الطبية والتعليمية. وفي المجمل، استباق الجدل والتنظير بالنتائج الملموسة.
الانهماك في البيت الداخلي لا يعفي من احتفاظ سورية برؤيتها، تجاه الأخطار الخارجية، والعدوان السافر الذي فاقمته دولة الاحتلال
وتدلُّ الأقوال الصادرة عن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) قائد هيئة تحرير الشام، والمواقف، والأعمال التي بدأت على الأرض في دمشق، على أن توجُّههم الأهم استنساخ تجربة “الشمال السوري المحرَّر”. وكانت مناطق إدلب وريفي حماة الشمالي وحلب الغربي كلها خاضعة لسيطرة المعارضة، وبسكَّان فاق عديدهم خمسة ملايين نسمة، حين حكمت الهيئةُ، من إدلب، باسم “حكومة الإنقاذ السورية”، منذ عام 2017. وتعميم ما اعتبروه نجاحاً في الإدارة والحكم، (قبل انخذال الأسد)، على سائر المحافظات السورية، مع إدراك عِظَم المسؤوليات، مع هذا التوسُّع والشمول والتنوُّع.
وهذا الانهماك في البيت الداخلي لا يعفي من احتفاظ سورية برؤيتها، تجاه الأخطار الخارجية، والعدوان السافر الذي فاقمته دولة الاحتلال، بعد هروب بشّار الأسد، بتوسيع احتلالها، وبتدمير سلاح البلد، ذلك أن الكرامة في الداخل لا تنفكّ عن الكرامة أمام عدو خارجي، وذلك أن الدين والأخلاق والمصالح قد تتقاطع في مراكز معينة، منها عدالة في الداخل لا بد أن تترجَم، لاحقاً، كرامة في الخارج، لا أن تحصَر التصوّرات عن الصديق والعدو في سياق الثورة والنظام، فلا تغطِّي إيرانُ وأطماعها، على إسرائيل وعدوانها، الماثل. أقلُّه في الخطاب؛ فليسعد القول، حين لا يُواتينا العمل.
المصدر: العربي الجديد